«نظرية النسبية» مسرودة
استقبلت المكتبات المغربية، مؤخرا، الترجمة العربية الأولى لرواية “أحلام أنشتاين” لمؤلفها الدكتور آلن لايتْمان، وهو عالم وأديب أمريكي ولد في مدينة مَمفس في ولاية تنسي سنة 1948. وتلقى تعليمه العالي بجامعة برنستون الشهيرة ومعهد كاليفورنيا التكنولوجي حيث نال شهادة الدكتوراه في الفيزياء النظرية. وراح ينشر دراساته العلمية وأبحاثه التقنية في أرقى المجلات الأكاديمية، ولم تقتصر مؤلفاته على الكتب المرجعية الخمسة التي تتناول قضايا العلم والتكنولوجيا، وإنما اشتملت كذلك على مجموعتين من المقالات الأدبية، ومجموعة شعرية، وخمس روايات. وقد تولى لايتمان التدريس في جامعة هارفرد، ثم انتقل إلى معهد ماساتشوستس التكنولوجي الذائع الصيت، الذي أسند إليه تدريس مواد علمية وأدبية في آن واحد، وهذا ما لم يحدث من قبل في تاريخ هذا المعهد المرموق. وقد حققت هذه الرواية ـ حسب مترجمها الدكتور علي القاسمي ـ نجاحا هائلا، فتُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة في العالم. وتتألف هذه الرواية من مجموعة قصص قصيرة، تمثل كل واحدة منها حُلما من أحلام العالم ألبرت أنشتاين الذي وضع النظرية النسبية، حينما كان يعمل في مكتب لتسجيل براءات الاختراع بمدينة بيرن في سويسرة سنة 1905. فعندما كان ذلك الشاب العبقري منهمكا ببناء نظريته النسبية، التي هي بمثابة مفهوم جديد للزمان، وراح يتخيل عوالم متعددة ممكنة. ففي أحد هذه العوالم يكون الزمان دائريا فيُكتب على الناس فيه إعادة نجاحاتهم وإخفاقاتهم المرة تلو الأخرى. وفي عالم آخر يقف الزمان ساكنا، وفيه مكان يزوره الأحباب وهم متعانقون، والآباء وهم يحتضنون أطفالهم، دون حراك. وفي عالم ثالث، تكون فيه دورة الزمان سريعة لدرجة أن حياة المرء لا تزيد عن يوم واحد. فمَن يولد بعد غروب الشمس، يميل إلى حياة الليل ويزاول المهن المنزلية ويزعجه ضوء النهار، وأما من يولد بعد شروق الشمس، فيولع بمزاولة المهن في الهواء الطلق كالزراعة، ويخيفه ظلام الليل.
تقنية الحلم
وبرأي المترجم الدكتور علي القاسمي فان الدكتور ألن لايتمَن استخدام تقنية “الحُلم” في روايته “أحلام أنشتاين”، وهي نفس التقنية التي سبق أن استخدمها الدكتور غاموف قبله في كتابه “مغامرات السيد تومبكنز”. ويعد الدكتور غاموف (1904 ـ 1968) وهو روسي هاجر إلى أمريكا وتولى تدريس الفيزياء النظرية في جامعة ولاية كولورادو في مدينة بولدر، من المع علماء الفيزياء في القرن العشرين ومن واضعي نظرية “الانفجار العظيم” الخاصة بتفسير نشوء المجموعة الشمسية، كما انه من ابرز من عمل على تبسيط العلم بالأدب.
ويقول الدكتور علي القاسمي إن مؤلف “مغامرات السيد تومبكنز”، “كتب قصة علمية قصيرة (وليست قصة من قصص الخيال العلمي)، حاول أن يشرح فيها للقارئ العام الأفكار الرئيسية في نظرية انحناء الفضاء والكون المتسع. وفيها يقوم بطل القصة السيد س. ج. هـ. تومبكنز، وهو موظف في مصرف، بمغامرات في الفضاء. وبعث بقصته القصيرة إلى مجلة “هاربرز” الأمريكية، ولكنها رفضت نشرها، لأن الدكتور غاموف لم يكن أديبا معروفا، وإنما أستاذ الفيزياء النظرية في جامعة كولورادو. ثم بعث غاموف بقصته القصيرة إلى ست مجلات أخرى، بيد أنها جميعها رفضتها كذلك.
وفي صيف ذلك العام، 1938، التقى غاموف بصديق قديم له هو تشارلس داروين، حفيد العالم البريطاني تشارلس داروين، صاحب نظرية “أصل الأنواع”، الذي حثّه على العمل معا لأجل تبسيط العلوم وإشاعتها. فأخبره غاموف بقصة قصته القصيرة التي لم تلق قبولا من أصحاب الدوريات. فطلب منه تشارلس داروين أن يبعث بتلك القصة القصيرة إلى الدكتور سي. ب. سنو رئيس تحرير مجلة علمية اسمها “الاكتشاف” تصدرها مطبعة جامعة كمبريدج في بريطانيا. وعندما أرسل غاموف قصته القصيرة إلى الدكتور سنو، نشرها في المجلة، وطلب منه أن يبعث إليه بقصص أخرى تبسط المفاهيم العلمية بطريقة شائعة.
وهكذا تجمّع للدكتور غاموف عدد من القصص نشرتها المطبعة سنة 1940 في شكل كتاب عنوانه “مغامرات السيد تومبكنز”. واتبعه سنة 1944، بمجموعة قصصية أخرى بعنوان “السيد تومبكنز يكتشف الذرّة”. وقد ترجم الكتابان إلى عدد من اللغات الأوروبية. ولم يترجم إلى اللغة الروسية (ربما في إشارة إلى عدم رضا السلطات السوفييتية عن هجرة علمائها إلى أمريكا).
الرواية العلمية
في سنة 1965، قررت مطبعة كمبريدج دمج الكتابين في كتاب واحد مع تعديلات اقتضتها التطورات العلمية وفصول إضافية. وظلّت كُتب الدكتور غاموف تسيطر على السوق حوالي نصف قرن فتصدر في طبعات متتالية، والكتب المنافسة لها تأتي وتذهب. وفي عام 1999، كلّفت مطبعة جامعة كمبريدج الأستاذ رُسيل ستانارد بتحديث كتاب الدكتور غاموف في ضوء النظريات الفيزيائية المستجدة، والأستاذ رُسيل ستانارد هو عالم بريطاني متقاعد متخصص في فيزياء الجزيئات، وفي تبسيط العِلم للأطفال، فقد اصدر ثلاثية “العم ألبرت السردية” المكوّنة من الكتب التالية: “الزمان والمكان والعم ألبرت”، و”الحُفر السوداء والعم ألبرت”، و”العم ألبرت ونظرية الكم”، وهي كتب ترمي إلى تبسيط نظرية أنشتاين النسبية ونظرية الكمّ للأطفال الذين تزيد أعمارهم على احد عشر عاما. وقد تُرجمت هذه الكتب إلى خمس عشرة لغة من لغات العالم. ونتيجة لعمل الأستاذ ستانارد في تحديث كتاب غاموف المزدوج، أصدرت مطبعة جامعة كمبرج كتاب “العالم الجديد للسيد تومبكنز”، سنة 1993، الذي تُعاد طباعته حاليا كل عام.
يعتمد غاموف، حسب الكتور على القاسمي “في تبسيط النظرية النسبية لأنشتاين على كتابة قصص قصيرة عن شخص حالم يُدعى السيد “س. ج. هـ. تومبكنز” يعمل موظفا في أحد المصارف. وذات يوم عطلة، رغب في تمضية الأمسية في مشاهدة شريط سينمائي. وفيما كان يبحث في الجريدة اليومية عن أفضل شريط يمكن أن يشاهده، وقعت عيناه على إعلان عن محاضرة عامة في جامعة المدينة يلقيها أستاذ الفيزياء عن نظرية ألبرت أنشتاين. فيقرر حضور المحاضرة. وما إن يبدأ المحاضر كلامه، حتى يغلب النعاس السيد تومبكنز، ويحلم بأنه يسافر في مغامرة في الكون المنحني عبر الزمان. وفي قصص الكتاب الأخرى، تستمر أحلام السيد تومبكنز في القطار، وعلى ساحل البحر، وفي كل مكان يغلبه النعاس فيه. وكل قصة أو حلم من هذه الأحلام يتناول جانبا من النظرية النسبية.
وبحسب المترجم، فإن البناء السردي في كلتا الروايتين متماثل. فكل رواية تتألف من مجموعة من الأحلام، كل حلم في قصة قصيرة، وتكوّن هذه القصص بمجموعها رواية كاملة عمودها الفقري المشترك هو النظرية النسبية ذاتها. وهنا يتساءل المرء ما إذا كان الدكتور لايتمَن قد تأثر بكتاب الدكتور غاموف.
يقول العالم الفيزيائي الأستاذ ستانارد في مقدمته للطبعة الجديدة المزيدة لرواية غاموف، إنه على الرغم من أن غاموف ألف روايته لعامة المثقفين غير المتخصصين، فإنه ما من عالم فيزيائي لم يقرأ رواية غاموف في فترة ما، من فترات حياته. والسؤال الذي يطرح نفسه، كما يقولون، هو: هل اطلع الدكتور ألن لايتمَن على رواية غاموف؟ وما مدى تأثره بها عندما كتب روايته “أحلام أنشتاين”؟.
من المحتمل جدا أن لايتمَن قرأ رواية غاموف في شبابه. ولكن من التسرّع بمكان أن نستنتج أن لايتمَن قد تأثر بغاموف على الرغم من أن لايتمَن قد استعمل تقنية الحلم التي استخدمها غاموف قبله، وهيكل روايته على منوال روايته.
فالحلم هو التقنية الروائية المناسبة لسرد أحداث خيالية أو افتراضات تتعلق بالكون والزمان. وحتى لو استخدم هذان الروائيان هيكلة سردية واحدة وبناء روائيا واحدا، فإنهما يختلفان في المضمون والأسلوب. فمع أن مضمون الروايتين يستند إلى نظرية أنشتاين، فإنهما تناولا محاور من هذه النظرية، بعضها مشترك وبعضها مختلف. أما الأسلوب فهو متباين تماما في الروايتين.
معادلات رياضية
يميل أسلوب غاموف إلى نوع من التقريرية والمباشرة، إذ إنه يضطر أحيانا إلى إيراد بعض المعادلات الرياضية داخل فصول الرواية. وحتى الحروف الأولى من اسم بطل رواية غاموف، “السيد س. ج. هـ. تومبكنز”، ترمز في اللغة الانجليزية إلى ثلاثة ثوابت فيزيائية هي S = ثابت سرعة الضوء، و g = ثابت الجاذبية، و h = ثابت الحكم، وهي ثوابت يجب أن تحل محلها عوامل لا حصر لها قبل أن يستطيع المرء ملاحظة تأثيرها وأثرها. وفي نظر المترجم أنّ الرموز العلمية والمعادلات الرياضية والفيزيائية هي من خصائص لغة العلم، وليس لغة الأدب التي تحلّق في الخيال وتتحرر من الضوابط الدقيقة الوجيزة. كما أن هذه المعادلات الرياضية والفيزيائية التي استعملها غاموف، تتنافى قليلا مع غاية تبسيط العلم ومع الأسلوب الأدبي الذي يختلف عن الأسلوب العلمي. وهذا يذكرني بالعالم البريطاني الشهير ستيفن هوكنز أستاذ الرياضيات والفيزياء النظرية والفلك الكوني في جامعة كيمبريدج، والمتخصص في الحفر (أو البقع) الكونية السوداء، الذي أُصيب بمرض أدى إلى شلل بدنه بأكمله، ما عدا دماغه وبعض أصابعه، فصنعوا له كرسيا خاصا مزودا بحاسوب وبرامج تحوّل ما يختاره من كلمات وعبارات مكتوبة على شاشة الحاسوب إلى جمل صوتية مسموعة، لتمكينه من إلقاء محاضراته على كبار العلماء في جامعتي كيمبريدج البريطانية وهارفارد الأمريكية. وذات يوم، قابله أحد الناشرين الكبار واقترح عليه تبسيط نظرياته في علم الفلك والحفر السوداء في كتاب لعامة المثقفين، وليس للعلماء المتخصصين، فوافق هوكنز على تأليف الكتاب، فاشترط الناشر أن يكون الكتاب خاليا من المعادلات الرياضية والفيزيائية. فوافق هوكنز على ذلك باستثناء معادلة واحدة. وهكذا ألف كتابه الذائع الصيت “التاريخ الوجيز للزمان” الذي تُرجم إلى أكثر من ثلاثين لغة في العالم.
إذا كان أسلوب غاموف متأثرا بالأسلوب العلمي في موضوعيته وتقريريته ومباشريته، فإن أسلوب لايتمَن قد جمع بين الموضوعية العلمية والخيال الأدبي الجموح، تماما كما جمع صاحبه بين البحث العلمي من جهة، وكتابة الشعر والرواية والمقالة الأدبية من جهة أخرى، وهو جمع بين الأضداد لا يتأتى إلا للعباقرة من العلماء الأدباء الأفذاذ.
نعم، يتميز أسلوب السرد لدى ألن لايتمَن بخصائص الأسلوب العلمي من حيث: الإيجاز ووضوح اللغة، وبساطتها، وقصر الجمل، ودقة التعبير أي التطابق بين المفهوم واللفظ الذي يعبّر عنه، وضبط كل فصل من الفصول الخمسة والثلاثين في روايته، فكل فصل يقع في ثلاث صفحات فقط، لا أكثر ولا أقل. كما أن توزيع فصول الرواية (أو الأحلام أو القصص القصيرة) جاء على نسق هندسي دقيق، يتمثل في المعادلة التالية: مدخل + 8 أحلام + فاصلة + 8 أحلام + فاصلة + 6 أحلام + خاتمة = 35 قصة قصيرة = رواية.
بيد أن أسلوبه يتحرر من خصائص اللغة العلمية وانضباطها، من حيث إيراد ألفاظ مجازية مبتكرة غير مبتذلة، ورسم صور مجازية نادرة غير مستهلكة، والإتيان بلغة شعرية شفافة حالمة. ويقول المترجم: إن المجاز هو الفيصل بين العلم والأدب، بين الحقيقة والخيال، بين الواقع والوهم، بل حتى بين العقل والجنون. وكما تتعانق القصص القصيرة في “أحلام أنشتاين” وتلتحم لتلد رواية جميلة، فان الصور المجازية في كل قصة تتضافر وتتشابك لتشكل صورة مجازية هائلة متكاملة، أو بالأحرى، لوحة تشكيلية فنية خلابة، مطرّزة بلمسات شعرية رقيقة رشيقة أنيقة، بريشة فنان ماهر ماكر ساحر.
تقنيات سردية
لقد استخدم الدكتور ألن لايتمَن في روايته تقنيات سردية، معروفة من قبل أو جديدة خاصة به. استخدم هذه التقنيات بفطنة ومهارة لينتج الأثر المطلوب في نفس القارئ. فقد استعمل تقنية التكرار بأشكال متعددة، كأن يكرر فاتحة القصة في خاتمتها لتعطي الانطباع بالدوران والاستمرار. وفي الفصول الموسوم بـ”25 يونيو 1905”، استعمل التكرار: تكرار الكلمات وتكرار العبارات، وتكرار الجمل الكاملة، ليكثف الانطباع بالهدوء والسكون والخمول في يوم العطلة الأسبوعية، تماما كما تتكرر أنغام آلة السيتار الهندية لتبعث على الاسترخاء والنوم، فقال: “عصر يوم الأحد، الناس يتنزهون في شارع الآر، وهم متلفّعون بملابس يوم الأحد، وقد امتلأت بطونهم بغداء يوم الأحد، ويتحدثون بصوت خفيض بجانب خرير النهر، الحوانيت مغلقة... صاحب نُزُل...، يتكئ على الحائط الحجري، ويغمض عينيه. الشوارع نائمة، وتطفو في الجو أنغام موسيقية منسابة من آلة كمان”.
لاحظ التلاعب المقنّن في طول العبارات، وهو تقنية أُسلوبية أخرى. ففي آخر النص أعلاه تجد عبارتين قصيرتين مكررتين، تتلوهما عبارة طويلة جدا. تماما كما لو كنت تشاهد الأمواج على شاطئ البحر: موجة صغيرة، فموجة صغيرة، تتبعهما موجة طويلة عالية فتجتاحهما تماما. منظر يأسر انتباهك، ويغيرك بمتابعة التأمل. فالكاتب يريد أن يعطي الانطباع بالكسل والخمول في تلك المدينة عن طريق تكرار الألفاظ، ولكنه، في الوقت نفسه، يريد الإبقاء على انتباه القارئ وانجذابه إلى النص المتدفق كأمواج البحر، عن طريق التفاوت في طول العبارات.
إضافة إلى التقنيات السردية المتنوعة، فان الدكتور ألن لايتمَن، متمكن من لغته، عالم بأسرارها، حاذق في استعمالها. فهو يطوّع الألفاظ والصيغ والتراكيب اللغوية لخدمة فرضياته العلمية ومراميه الروائية. فصياغة العبارات والجمل تختلف من نص إلى نص في الرواية. فمثلا، في قصة “15 مايو 1905”، حيث يتصور عالما خاليا من الزمان، نجد أن نص القصة بأكمله خاليا من أي فعل من الأفعال: لا الفعل الماضي، ولا الفعل المضارع، ولا الفعل الدال على المستقبل. مجرد أسماء وصفات وحروف. لماذا؟ لأننا إذا أخذنا تقسيم النحو التقليدي للألفاظ على: اسم وفعل وحرف، أو كما يقول ابن مالك في مطلع ألفيته:
كلامُنا لفظ مفيد كـ “استقم”، واسم وفعل ثم حرف، فإن الاسم ما دل على معنى مستقل بالإدراك غير مقترن بزمن معين. والحرف ما دل على معنى غير مستقل بذاته، وإنما يربط معاني المفردات بعضها ببعض. أما الفعل فهو ما دل على حدث مقترن بزمن معين: الماضي، أو الحاضر، أو المستقبل.
ولهذا فعندما يتصور أنشتاين في حُلمه، أو بالأحرى الدكتور لايتمَن في قصته المذكورة، عالما خاليا من الزمان، فإنه يكتب النص بأكمله خاليا من الأفعال على النحو التالي:
“طفلة على الشاطئ، مسحورة برؤيتها المحيط أول مرة. امرأة واقفة على شرفة في الفجر، بشعرها المسدل، ومنامتها الحريرية الفضفاضة، وقدميها الحافيتين، وشفتيها. والطّاق المقوس في الرواق بالقرب من نافورة زاهرنغر في شارع كرام، من صخر رملي وحديد. رجل جالس في مكتبه الهادئ حامل صورة امرأة، ونظرة أليمة على وجهه. عُقاب معلق في السماء، جناحاه مبسوطان، أشعة الشمس نافذة من خلال ريشه. فتى جالس في قاعة فارغة، خافق القلب، كما لو أنه على خشبة المسرح. آثار أقدام على الثلج في جزيرة شتوية. قارب على الماء في الليل، وأضواؤه خافتة على البعد، مثل نجمة حمراء صغيرة في السماء الداكنة. صندوق حبوب طبية مقفل. ورقة شجرة على الأرض في الخريف، حمراء، ذهبية داكنة، رقيقة. امرأة جاثية بين الشجيرات، متربصة بالقرب من منزل زوجها الذي هجرها، الذي لابد من الحديث معه. غبار على عتبة النافذة...”.
وهكذا يستمر النص حتى نهايته، صورا بلا حدث، بلا حركة، أي بلا فعل، بل أسماء وحروف فقط، لان صاحب الحُلم يفترض، في هذه القصة بالذات، وجود عالم خال من الزمان. ولذلك يخلو النص من زمن معين: ماض أو حاضر أو مستقبل، وإنما مجرد ذوات وكائنات متجمدة لا حركة لها. فالحركة من فعل الزمان. وهذا العالم المفترض بلا زمان. وفوق ذلك كله، فإن لايتمَن يكتب هذا النص في فقرة طويلة واحدة دون أن يقسّمه إلى فقرات، لان التقسيم يوحي بشيء من الحركة، وهذا العالم المفترض يخلو من الزمان، أي أنه يخلو من الحركة.
وفي حلم آخر، “11 يونيو 1905” يتصور عالما بلا مستقبل، فيخلو النص من الأدوات الدالة على المستقبل مثل “السين” و”سوف”.
إن لغة الدكتور لايتمَن في هذه الرواية مشرقة، واضحة، بسيطة، تخلو من الألفاظ الحوشية والتراكيب المعقدة التي قد تحجب المعنى. ولكن مع ذلك، فإن ترجمتها ليست بالهيّنة، لعدة أسباب، أهمها أن نصوصه ذات حمولة علمية ترتبط بالنظرية النسبية المعقدة، ومنها أن النصوص تتعلق بعوالم مفترضة غير مألوفة للقارئ. ومنها أن الكلمات الانكليزية بسيطة قد يفهمها القارئ/ المترجم بمعناها العام، في حين أن المؤلف استعمل بعضها بمعناها العلمي الخاص. وأقل أسباب الصعوبة شأنا نابعة من أن الكلمة الأساسية في هذه الرواية هي (Time) وهذه الكلمة، في اللغة الانكليزية، مشترك لفظي، تقابله في العربية ثلاث كلمات تختلف في دلالاتها واستعمالاتها، وهي: الزمان، والزمن، والوقت، دون الدخول في مفاهيم الأبد والدهر وغيرهما. ففي الاستعمال العربي الأصيل، يعد (الزمان) لفظا عاما شاملا يدل على حركة الكون، وهو يتألف من (زمن) ماضي و(زمن) مضارع، و(زمن) مستقبل، فـ(الزمن) فترة من الزمان، كما في قولنا: “زمن الصبا ولى” أو كما يقول نزار قباني في قصيدته “إلى نهدين مغرورين”: “عندي المزيد من الغرور/ فلا تبيعيني غرورا.../ من حُسن حظّك/ أن غدوت حبيبتي/ زمنا قصيرا”.
و(الوقت) جزء صغير من (الزمن)، كما في قولنا: “وقت الصبح” أو “دخل وقت صلاة العصر” أو كما قال الشاعر ديك الجن الحمصي الذي قتل حبيبته بسبب وشاية كاذبة، ثم قتله الندم والأسى:
قولي لطَيْفِكِ َيْنَثنـي
عنْ مَضْجَعي وَقتَ الرّقادْ
كي أستَريحَ وتَنطَفي
نار تاجَّج في الفــؤادْ
وقد يقع الخلط في الاستعمال مجازا، أو بسبب استعمال العام للخاص وبالعكس.
فإذا لم يكن المترجم ملما بالمبادئ العلمية التي تدور حولها الرواية، ولم يوجّه انتباها شديدا إلى كل لفظة في معانيها المركزية والهامشية والمجازية والمختصة، ولم يبذل عناية خاصة بالتقنيات السردية الموظفة في النصوص، فقد يفوته الشيء الكثير. تصور فقط، كيف يمكن للمترجم أن يفسد مقاصد المؤلف الأصلي الذي يكرر اللفظ عدة مرات لإنتاج اثر معين في نفس القارئ، فيأتي (المترجم) بمترادفات مختلفة لذلك اللفظ، تمشيا مع الذائقة العربية.
ويؤكد الدكتور على القاسمي أن رواية “أحلام أنشتاين” تُرجمت إلى أكثر من ثلاثين لغة، وألهمت الكتاب، والسينمائيين، والموسيقيين، والمسرحيين، والرسامين في جميع أنحاء العالم. وإذا كان الدكتور لايتمَن، في هذه الرواية، قد سبح بخياله المتوثِّب في عوالم عجائبية محتملة لا محدودة، ووضع أُسسا جديدة تقوم عليها علاقة العلم بالأدب، فانه بيَّن لنا كذلك، بأسى وحزن عميقين، مدى هشاشة الحياة البشرية وضعف الإنسان.
نص من الرواية: 16 أبريل 1905
من فضاء الرواية نقرأ:
في هذا العالم، الزمان مثل جريان الماء، ينزاح أحياناً بسبب قطعة حطامٍ أو نسمةٍ عابرة. بين الفينة والأُخرى، يتسبَّب اضطرابٌ كونيٌّ ما، في ابتعادِ نهيرِ الزمان عن مجراه الرئيسي ليتَّصل بمجرىً فرعيٍّ. وعندما يحدث ذلك، فإنَّ الطيور، والحياة الزراعية، والناس الذين داهمهم الرافد الفرعيُّ، يجدون أنفسهم محمولين فجأةً إلى الماضي.
ويمكن التعرُّف بسهولة على الأشخاص الذين يُنقَلون إلى الماضي. فهم يرتدون ملابس غامضة داكنة الألوان، ويمشون على رؤوس أصابع أقدامهم، محاولين أن لا يُحدِثوا أيَّ صوت، ومحاولين أن لا يتسبَّبوا في ثني ورقة عشب واحدة، لأنَّهم يخشون أنَّ أيَّ تغييرٍ يُحدِثونه في الماضي، قد تكون له نتائجُ وخيمةٌ في المستقبل.
في هذه اللحظة بالذات، مثلاً، تجثم امرأةٌ من هؤلاء الأشخاص، في ظلال رواقٍ عند رقم 19 في شارع كرام، وهو مكانٌ غريب لمسافرٍ من المستقبل، ولكن ها هي هناك. ويمرُّ المشاة بها، ويحدِّقون فيها، ويواصلون سيرهم. وهي تربض في زاويةٍ، ثمَّ تزحف بسرعةٍ عبر الشارع، وتنكمش فزِعةً في بقعةٍ مظلمةٍ أُخرى، عند الرقم 22. إنَّها خائّفةٌ من أنَّها ستثير الغبار، عندما يمرُّ بها شخصٌ يدعى بيتر كلاوسن، وهو في طريقه إلى الصيدلية الكائنة في شارع شبايتل، هذا المساء من يوم 16 أبريل 1905. وكلاوسن رجلٌ متأنِّقٌ ويكره أن تتَّسخ ملابسه، فلو لطّخ الغبار بذلته، فإنَّه سيتوقَّف ويزيله بالفرشاة بكلِّ عناية، بغض النظر عن المواعيد التي تنتظره. وإذا تأخَّر كلاوسن بصورةٍ كافية، فإنَّه قد لا يتمكَّن من شراء المرهم لزوجته، التي تشكو من أوجاعٍ في ساقها منذ أسابيع. وفي تلك الحالة، فإنَّ زوجة كلاوسن، وهي في مزاجٍ عَكِر، قد تقرِّر أن لا تقوم بالرحلة إلى بحيرة جنيف. وإذا لم تسافر إلى بحيرة جنيف في اليوم الثالث والعشرين من شهر يونيو 1905، فإنَّها لن تقابل شابةً تدعى كاترين دي أبينه، وهي تتمشَّى على رصيف الشاطئ الشرقي من البحيرة، ولن تقدِّم الآنسة دي أبينه إلى ابنها ريتشارد. ونتيجةً لذلك، فإنَّ ريتشارد وكاترين لن يتزوجا في السابع عشر من ديسمبر 1908، ولن ينجبا فريدريك في الثامن من يوليو 1912. وفريدريك كلاوسن لن يكون أباً لهانس كلاوسن في الثاني والعشرين من أغسطس 1938، وبدون هانس كلاوسن، فإنَّ الاتحاد الأوروبي لن يُعلَن سنة 1979.
وتشقّ المرأة القادمة من المستقبل طريقها، دون سابق إنذار، في هذا الزمان وهذا المكان، وتحاول الآن أن لا يراها أحد وهي في مكمنها المظلم عند الرقم 22 في شارع كرام، وهي تعرف قصة كلاوسن، وأَلْفَ قصَّةٍ أُخرى تنتظر الظهور للعِيان، بالاعتماد على ولاداتِ الأطفال، وتحرّكات الناس في الشوارع، وتغريد الطيور في لحظاتٍ معيّنة، والمواقع المضبوطة للكراسي، والريح. تنزوي هذه المرأة في الظلال، ولا تبادل الناس تحديقهم. إنَّها تنزوي هنا وتنتظر أن يحملها مجرى الزمان إلى زمانها الخاصِّ بها.
وعندما يتوجّب على مسافرٍ من المستقبل أن يتكلّم، فإنّه لا يتكلّم وإنّما يئنّ. يهمس بأصواتٍ معذَّبة. فهو يتألَّم، لأنَّه إذا أَحْدثَ أيَّ تغيير، مهما كان ضئيلاً، في أيِّ شيءٍ، فإنَّه قد يحطِّم المستقبل. وفي الوقت نفسه، فهو مضطرٌ إلى مشاهدة أحداثٍ دون أن يكون جزءً منها، ودون أن يغيِّرها. وهو يحسد الناس الذين يعيشون زمانهم الخاص بهم، ويستطيعون أن يعملوا وفق إرادتهم. ولكنّه ليس قادراً على الفعل. إنَّه غازٌ خامل، شبحٌ، جسمٌ بلا روح. لقد فقدَ شخصيّته. إنَّه منفي من الزمان.
إنَّ مثل هؤلاء الناس البؤساء القادمون من المستقبل، يمكن أن تجدهم في كلِّ قرية، وفي كلِّ بلدة، وهم يختبئون تحت زوايا البنايات، وفي سراديبها، وتحت الجسور، وفي الحقول المهجورة. ولا أحد يسألهم عن الحوادث القادمة، عن الزيجات المستقبليَّة، والمواليد، والتمويلات، والمخترعات، والأرباح التي ستتحقَّق. وبدلاً من ذلك، فإنَّهم يُترَكون لحالهم، ويُرثى لهم.