أشرف جمعة (أبوظبي)

حين تجف الحياة في مجرى الروح وتفقد أجسادنا حرارة الحركة، ويحل الموت ضيفاً ثقيلاً، ويصعب فتح الهاتف الذكي الذي قد يكون خاضعاً لبصمة الإصبع أو الرقم السري، تقع الأسرة والأبناء في حيرة فك الرمز، بهدف الحفاظ على الذكريات الموجودة عليه، خصوصاً أن هواتفنا المحمولة، تمثل سجلات زاخرة بالمواقف الحياتية عبر لقطات الكاميرا ومقاطع الفيديو وأرقام الأهل والأقارب والأصدقاء، ولا يقتصر الهاتف الذكي على مثل هذه الواحة العامرة بالذكريات لكنه يحمل أيضاً أسرارنا الخفية وحساباتنا البنكية، وفي الملاحظات أيضاً هناك مذكرات شخصية وهوامش مديونات، وأرقام تخص أموالاً أقرضناها لغيرنا أو اقترضناها أو قدمناها على سبيل الإعارة، فهل يحاول البعض رغم مرارة الفاجعة وضع إصبع الميت على زر الهاتف، من أجل فتحه قبل انتهاء الشحنات الكهربائية من الجسد، أم أن الموقف لا يحتمل؟، وكيف يكون التصرف لفتح الهواتف في مثل هذه الظروف وهل هناك شق قانوني وديني وأخلاقي، يحكم هذا الموقف ويضعه في سياقه الإنساني كون الهاتف الذكي حقا مشروعا للأبناء والورثة؟
في السطور التالية، نسلط الضوء على الغموض الذي يحيط بهواتف الموتى.

بصمة الوجه والعين
تقول الدكتورة سميرة الحمادي، رئيس قسم الطب الشرعي في دائرة القضاء أبوظبي، إنه في حالة المحافظة على الجثة في الظروف الطبيعية وعدم حدوث تحلل متأخر فإنه يمكن الاستمرارية بالاستعانة ببصمة الإصبع لفتح الأجهزة الذكية، وذلك قياساً على ما يتم في حالات الوفيات مجهولة الهوية حيث يتم الاعتماد على أخذ بصمة الإصبع للتعرف إلى هوية المتوفى حتى مع مرور فترة زمنية بعد الوفاة، وفيما يختص بالتعرف عن طريق الوجه في حال كانت تقنيات هذه الأجهزة الذكية تعتمد على ملامح الوجه وقرنية العين فإنه يمكن فتح هذه الهواتف الذكية، ولكن في حال حدوث تحلل للجثة وبسبب التغيرات الفسيولوجية بالعضلات مع مرور الوقت فإنه قد تحدث بعض الصعوبات بما يختص ببصمة الوجه ولا يمكن التأكد بشكل مطلق من إمكانية فتح الجهاز، ويحتاج هذا لعمل دراسات علمية للتأكد من صحة ذلك، وتجدر الإشارة إلى أنه توجد خاصية في بعض وسائل التواصل الاجتماعي مثل الفيسبوك لتوريث أو تحويل الحساب بعد الوفاة لشخص آخر، منوهة إلى أن خاصية بصمة الإصبع والوجه يتم استخدامها للمحافظة على خصوصية أصحاب هذه الأجهزة وما تحتويه من معلومات، لذا فإن استخدام هذه البيانات والمعلومات والصور له جانب قانوني يجب مراعاته والتأكد من مشروعيته منعاً لسوء الاستخدام والتعرض للمساءلة القانونية وتحديد من لهم الحق في ذلك.

طرق قانونية
ويوضح الدكتور إبراهيم الملا، مستشار ومحام ومدرس بالمعهد القضائي، أن فتح هواتف الموتى يجب أن يكون تحت إشراف قضائي حتى لا ينفرد أحد الورثة بالمعلومات الواردة فيه، خصوصاً إذا كان الهاتف يحمل معلومات بنكية وأسرارا خاصة بالمتوفى، ففي حال وضع أحدهم إصبع الميت على الهاتف باستخدام البصمة فإنه في هذه الحالة يتمكن من الاطلاع على محتوياته كالأموال والديون والودائع، لذا يجب أن يلتزم الورثة بمحضر المحكمة للحد من حدوث خلافات ومن ثم الحفاظ على الأسرار التي أصبحت من حق الورثة جميعاً، والتي لا يجب أن يستأثر بها طرف دون الآخر.
ويشير الملا إلى أن فتح هاتف المتوفى في حد ذاته مسؤولية وإذ لم يتم بالطرق القانونية السليمة فإن ذلك يعد مخالفة، ولا يحق التصرف فيه إلا بالاتفاق والرضا بين الجميع، خصوصاً إذا كان هناك قُصّر من ضمن الورثة، ويجوز للجهات القانونية أن تصدر حكمها بتوافر الإذن القضائي في فتح الهاتف، لافتاً إلى أن الهواتف الذكية للموتى، تحمل أسرارهم التي لم يكن يطلع عليها أحد وهم على قيد الحياة، لذا فإن الجهات المختصة تعمل على تفريغ المحتويات التي تضمن للمتوفى الحفاظ على أسراره، وتسهم في مساعدة الورثة على التعرف إلى الأمور المالية والمديونات وكل ما يخدمهم في التركة.

جوانب نفسية
وتورد الدكتورة سعاد المرزوقي، أستاذ علم النفس الإلكلنيكي في جامعة الإمارات، أن عالمنا العربي والإسلامي يولي الميت اهتماماً خاصاً، ويظهر ذلك من خلال مشاعر الحزن التي تتفجر عقب الوفاة، لذا يتم الإسراع في إكرامه بدفنه، كما يحرص المجتمع العربي على احترام خصوصية المتوفى وهو ما يتبلور في التغاضي عن الاطلاع على أسراره، وقد يكون من الأفضل ذلك درءاً للمشكلات التي قد تحدث بعد تفتيش هاتفه الذكي، كأن تكتشف الزوجة أنه كان على علاقة بغيرها أو يجد الأبناء ما قد يجعلهم ينظرون بشكل مهين لشخصية المتوفى.
وتلفت المرزوقي إلى أن لحظة الموت تجعل المحيطين يعتصرون ألماً وهو ما يميز مجتمعاتنا في هذه المواقف التي يرتفع فيها الجانب النفسي والإنساني، لذا يصعب على الكثير التفكير في فك شفرة الهاتف الذكي للميت، وترى أن هناك اختلافاً بين المجتمع العربي والغربي الذي يتعامل بصورة أخرى مع المتوفى من حيث توديعه مثلاً بالموسيقى وأوجه الاحتفال الأخرى مثل الورود التي تنثر على القبر، وقد تستخدم مثل هذه المجتمعات بصمات الإصبع لحل شفرة الهاتف وفتحه من أجل الاحتفاظ بالصور والذكريات المتناثرة على هذا الهاتف عقب اللحظات الأولى للوفاة، لكن ذلك قد يكون صعباً في المجتمع العربي المسلم، إلا إذ كان هناك شق قانوني في هذا الأمر يتعلق بأمور خاصة بالتركة لحل بعض الخلافات بين الورثة، أو أن هناك شكا في أمر ما، ولكن مجتمعاتنا بالأخير تتعامل بشيء من الهيبة مع الميت ومتعلقاته.

ثقافة مجتمع
ويذكر الدكتور عقيل كاظم، رئيس قسم علم الاجتماع بجامعة الإمارات، أن هناك فرقاً بين المجتمع العربي والغربي في العادات والتقاليد، فقد نسمع عن فتح هواتف الموتي الذكية عن طريق وضع إصبع الميت في الغرب على مكان البصمة فور حدوث الوفاة، لكن في الشرق نجد الناس تتحدث عن مآثر الميت وحرمته التي كانت مصانة في حياته والتي يجب أن تظل مصانة أيضاً بعد موته، مشيراً إلى أنه في المجتمعات الأخرى قد تصور الجنازة ويتم وضعها على الإنترنت للأشخاص العاديين، لكن هول المصيبة في بلادنا يجعل الجميع لا يفكرون إلا في الانتهاء من مراسم الدفن وتقبل العزاء.
ويوضح كاظم أن ثقافتنا تسير بنا نحو الجانب الاجتماعي الذي يتبلور في الحفاظ على صورة الميت مضيئة خالية من أية شوائب، وهو ما يجعل البعض ينفر من مسألة فتح الهاتف الذكي بشكل مباشر عقب الوفاة، حتى ملابس الميت لا يتم التصرف فيها إلا بعد أن تجف الدموع وتخف وطأة الحزن، وكذلك الهاتف الذكي الذي يعد ميراثاً للأبناء يتم التعامل معه في الغالب بعاطفة شديدة على أنه ذكرى غالية، يحب الاحتفاظ بها بصورة تليق بالمتوفى، لافتا إلى أنه قد يكون الهاتف من نصيب أحد الورثة الذي يتعامل معه في الغالب بشكل عاطفي، أما إذا كان الأمر يتعلق بأمور مالية وحسابات بنكية فإن ذلك قد يتم بشكل ودي أو قانوني أو عبر شركات الهواتف، خصوصاً أنه قد يصعب وضع إصبع الميت على مكان البصمة فور حدوث الوفاة لاعتبارات عاطفية ووجدانية بالميت نفسه.

احترام الخصوصية
وتذكر المحامية الإماراتية هدى الشامسي، أن كل إنسان يتمتع بحرمة حياته الخاصة، بما يخوله سلطة منع أي انتهاك أو مساس بحقه في هذه الخصوصية وكذلك أي نشر أية معلومات خاصة به. موضحة أن طبيعة البشر تختلف، فمنهم من يفضل كتمان أسرار حياته ومنهم من يسمح بالاطلاع على أسراره الخاصة حتى بعد الرحيل.
وترى الشامسي أن لكل إنسان خصوصية سواء كان حيا أم ميتا، وأن احترام خصوصيات الآخرين وحرياتهم الشخصية واجب ديني وأخلاقي قبل أن يكون واجباً قانونياً، والاطلاع على هاتف الميت اعتداء على حرمة الحياة الخاصة به، وبما أن كلاً من قانون العقوبات الاتحادي وقانون مكافحة تقنية المعلومات قد جرّم الاعتداء على خصوصية الإنسان الحي، فمن باب أولى أن يتم احترام خصوصية الإنسان الميت.

ميراث شرعي
ويبين حسـن علي أبو العينين، الواعظ في الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف في الفجيرة، أن الهاتف الذكي يعد مما يورث ولا يشترط كتابته في الوصية، وأنه من حق الورثة الشرعيين، ويجوز فتحه عن طريق استخدام بصمة الإصبع أو الوجه لما يترتب على ذلك تحقيق المصلحة الخاصة للورثة، خصوصاً إذا كان كانت هناك تعاملات مالية وبنكية ومعلومات تفيد الورثة، ولكن يجب الحفاظ على أسرار المتوفى الموجودة على الهاتف والشرع يبيح فتح الهاتف بالطريقة نفسها التي كان يحرص عليها المتوفى قبل أن تقع الوفاة، وهذا الحق يكون لأهل الميت من أصحاب الميراث الشرعي.

كلمة السر
ويقول أحمد الزرعوني، خبير تقني في أمن المعلومات: يعتقد غالبية المستخدمين للهواتف الذكية والكمبيوترات اللوحية التي تتمتع بالذكاء الصناعي، أنهم بمجرد شرائها، أصبحوا ملاكاً حصريين لها، وأنه بمجرد وضعهم لكلمات السر المعقدة أو لبصمات أعينهم وأصابعهم على هذه الأجهزة المختلفة التي يمتلكونها، باتت بياناتهم الخاصة وملفاتهم الشخصية المختلفة في أمان ولا يمكن لأي شخص الوصول إليها.
ويضيف: رغم أن هذا الاعتقاد السائد، هو الصحيح، فكلمة السر والبصمة بأنواعها تعطي حماية من الدرجة الأولى لمستخدمي الأجهزة الذكية، لمنع أي شخص من الوصول إلى بيانات وملفات مالك الجهاز، إلا أن هنالك طرقا تمتلكها معظم الشركات العالمية المنتجة والمصنعة لهذه الأجهزة، تمكن هذه الأخيرة من فتح أي جهاز والوصول إلى أي بيانات وملفات يريدونها، وذلك من خلال نظام التشغيل الذي يعمل به هذا الجهاز، إلا أن هذه الطريقة لا يمكن اتباعها إلا ضمن ظروف محددة وبطلب من صاحب الجهاز نفسه أو من تنتقل ملكية الجهاز إليه، في حال توفي مالك الجهاز الأصلي.
ويؤكد الزرعوني أنه باتت اليوم بصمة قزحية العين إحدى أهم الطرق التي تستخدمها الشركات العالمية المنتجة للهواتف الذكية، مثل سامسونج الكورية وآبل الأميركية، حيث تعد بصمة العين من أفضل الطرق الأمنية للتأكد من هوية الأشخاص، ومن خلالها يمكن للمستخدمين فتح قفل هواتفهم بسهولة بمجرد النظر إلى شاشات هواتفهم، حيث تتم هذه العملية خلال أجزاء من الثانية، وذلك ضمن تقنيات معقدة ومتطورة للغاية تمكن الجهاز من قراءة بصمة قزحية عين المستخدم التي تم تعريفها على الجهاز.

هواتف المبدعين
ويلفت سعد عبدالراضي (شاعر)، إلى أن الهاتف المحمول أصبح يشكل لدى المبدعين أهمية كبيرة، فهو مخزن أسرارهم وسجل إبداعاتهم الشعرية والأدبية وأن ما يكتبونه في الملاحظات يصبح ملكا للتاريخ، لذا فهو لا يمانع في أن يستخدم المقربون منه بصمة الإصبع لفتح هاتفه الذكي، مشيراً إلى أنه يعد المبدع شيئاً استثنائياً وأن فتح هاتفه بعد وفاته ضرورة للحفاظ على ميراثه الأدبي، لكن مع عدم التعرض لأسراره الخاصة والبوح بها، لذا يجب أن يتم فتح هاتف المبدعين عن طريق أشخاص موثوق بهم.

منشورات الفيس
وتبين سناء إبراهيم (ربة منزل)، أنها لم تنتبه لهاتف زوجها بعد وفاته مباشرة، نظراً لحالة الحزن الشديدة التي تعرضت لها، لكنها أدركت أهميته لكونه يحمل صوره وفيديوهاته وأشياءه الخاصة، وأنه من حسن الحظ أن أحد أبنائها كان يعلم الرقم السري، وفور فتحه تمكن ابنها من إلغاء خواص الفتح والإغلاق وأن العائلة واصلت وضع منشورات على الصفحة الخاصة بالمتوفي على الفيسبوك، وتضمنت المنشورات تقديم الشكر لأصدقائه على المواساة وواجب العزاء، وتشير إلى أنها سعدت بالاحتفاظ بذكرياته الخاصة التي أصبحت ملكاً لأسرته وأبنائه.

عرضة للضياع والتلف
تبين مقدمة البرامج الإماراتية أسمهان النقبي، أن الرقم السري الخاص بهاتفها المحمول يعلمه بعض المقربين منها من الأهل، وترى أن هذه الهواتف غير مضمونة ومن الأفضل عدم حفظ بيانات مهمة عليها كونها معرضة للضياع أو التلف، وتحرص على أن تستخدم هاتفها بشكل طبيعي، دون أن يكون عليه أسرار على حد قولها، لافتة إلى أنها تسمع قصصاً غريبة عن الزوجة التي تفتح هاتف زوجها بعد أن ينام لتفتيشه وكذلك الزوج، لذا فإنها تفضل أن يكون هذا الأمر بالاتفاق بين الزوجين، ولا تخفي النقبي أنها تسمح في حال وفاتها، أن يستخدم المقربون منها بصمة إصبعها لفتح الهاتف للاحتفاظ بما عليه من ذكريات خاصة بالأهل والأصدقاء.

بصمة الإصبع
أوضح خبراء أن بصمة الإصبع من التقنيات القديمة المستخدمة في الهواتف الذكية، ورغم أنها ما زالت تستخدم في الكثير من الأجهزة الذكية، إلا أن المجسات المستخدمة في نظام البصمة في الأجهزة الذكية، لم تعد آمنة وفقا لأحدث بحث أميركي أجراه باحثون في جامعتي نيويورك وميتشيجن. حيث توصل البحث إلى أنه من الممكن خداع الهاتف الذكي بوساطة بصمة رقمية مزورة تم إنتاجها وتشكيلها صناعياً، وذلك من خلال محاكاة البصمة البشرية، وخلص البحث الذي نشرته «نيويورك تايمز» خلال العام الماضي، أن الباحثين تمكنوا من تطوير بصمة رقمية شاملة أو «بصمة صناعية لكل البصمات» يمكنها تأدية عمل البصمات البشرية المماثلة لتلك المستخدمة في 65 في المائة من الهواتف في كل الأوقات.