هاشم صالح

تعجبني السلسلة التي تصدر في فرنسا تحت عنوان: قاموس محب لكذا.. وقد صدرت منها حتى الآن عشرات الكتب القيمة، نذكر من بينها: قاموس محب للإسلام، أو قاموس محب لألف ليلة وليلة، أو قاموس محب للجزائر، وكلها من تأليف الراحل مالك شبل. كما نذكر قاموس محب لمصر من تأليف روبير سوليه، أو قاموس عاشق لفلسطين من تأليف إلياس صنبر.. إلخ. إنها سلسلة طويلة عريضة لا تزال متواصلة حتى الآن. وفي كل مرة يوكلون أمر موضوع ما لأحد الاختصاصيين لكي يحبه ويتبحر فيه ويؤلف كتاباً ضخماً وقاموسياً عنه. وتكون مواده مرتبة طبقاً لتسلسل الحروف الأبجدية تماماً كالقواميس العادية، فمثلاً الكتاب الذي بين أيدينا اليوم يحتوي على مواد تتراوح ما بين أول حرف وآخر حرف في الأبجدية الفرنسية. من بين أشهر مواده التي عالجها المؤلف بشكل يطول أو يقصر نذكر المواد التالية: مفهوم الردة في الدين، القديس أوغسطين، ابن رشد، محاكم التفتيش، حضارة، صدام الحضارات، أوغست كونت، الظلامية الدينية، ديدرو، فولتير، جان جاك روسو، فيكتور هيغو.. إلخ. هكذا نلاحظ أنه عالج مفهوم العلمانية من أوسع أبوابه ولم يتقيد بالتحديد الحرفي لها. إنه عالج حرية الفكر والاعتقاد من أوسع أبوابها. وهذا هو التحديد الحقيقي للعلمانية. إنها تعني بكل بساطة الحرية الدينية. إنها القطب المضاد للتزمت الأعمى والإكراه في الدين الذي نهى عنه القرآن الكريم، ولكن أكثر الناس لا يعلمون.

احترام الاعتقاد الديني
بقي أن نقول كلمة مختصرة عن المؤلف، إنه البروفيسور «هنري بينا- رويز»، أستاذ الفلسفة السياسية في الجامعات الفرنسية. وربما كان أكبر مختص بالعلمانية في فرنسا حالياً. وقد نال جائزة التربية الوطنية أو التثقيف العام على كتابه: فلسفة العلمانية الصادر عام 2000. وفي هذا الكتاب الجديد يعود إلى نفس الموضوع ولكن بطريقة أخرى. إنه لمن الضروري الاطلاع على هذا النوع من الكتب لكي نقضي قضاء مبرماً على الفكرة الشائعة في العالم العربي والقائلة بأن العلمانية تعني الإلحاد! فهي فكرة خاطئة مئة بالمئة ولا أساس لها من الصحة، بل وأضيف ما يلي: لا يمكن أن تتشكل وحدة وطنية حقيقية في العالم العربي من دون انتشار الفكر العلماني الجديد والمستنير بضوء العقل عن الدين. ما دام الفهم الإخونجي هو السائد فلا حل ولا خلاص.
على أي حال، فإن المؤلف يثبت لنا أن العلمانية تعني احترام الاعتقاد الديني واحترام معتنقيه ولا تعني إطلاقاً ازدراء الأديان. ولكنها تعني أيضاً احترام كافة الأديان والمذاهب دون استثناء. بهذا المعنى فالعلمانية على عكس الأصولية التي لا تعترف بالتعددية الدينية داخل المجتمع. يضاف إلى ذلك أن العلمانية تعني احترام الحرية الدينية: أي أن تتدين أو لا تتدين، أن تمارس الطقوس والشعائر أو لا تمارسها، ومع ذلك تبقى مواطناً لك كافة الحقوق وعليك كل الواجبات. إنها تعني التفريق بين المواطن/‏‏‏ والمتدين. صحيح أن كل متدين هو مواطن بالضرورة، ولكن ليس كل مواطن متديناً بالضرورة. هذه هي العلمانية. لهذا السبب نلاحظ أن الأنظمة العلمانية في البلدان المتقدمة كفرنسا وسويسرا وإنجلترا.. إلخ، لا تفرض الدين المسيحي على الجميع ولا تقمع ما عداه كالإسلام أو اليهودية أو البوذية.. إلخ. على العكس فإنها تراعي مشاعر الأقليات الموجودة على أراضيها وتحترم أديانهم وعقائدهم، كما تحترم الدين الأصلي للبلاد: أي الدين المسيحي. فبما أنه توجد جاليات إسلامية كبيرة على أراضيها فإنها تقبل بتشييد الجوامع والمساجد في كافة أنحاء البلاد. وبما أنه توجد على أراضيها أقليات من الشرق الأقصى فإنها تقبل بفتح المعابد البوذية أو الهندوسية. وقل الأمر ذاته عن الأقليات اليهودية.. إلخ. وعلى هذا النحو لا يشعر أحد بأن دينه محتقر من قبل الدولة أو مضطهد أو ممنوع. ولكن لا يحق له أن يفرض دينه على الآخرين بالقوة. وهذه هي ذات السياسة الحضارية والإنسانية التي تتبعها الإمارات العربية المتحدة أيضاً، فهي تقبل بفتح المعابد والكنائس للجاليات المغتربة العائشة على أراضيها.

ابن رشد.. المستنير
الآن لنطرح هذا السؤال: ماذا يقول المؤلف عن فيلسوفنا العربي الكبير ابن رشد في الصفحة 110 من الكتاب؟ إنه يقول ما معناه: لقد ولد في قرطبة عام 1126 وكان أحد كبار مفكري إسبانيا في عهد الهيمنة العربية. وكان عالماً وطبيباً وقاضياً وفقيهاً وفيلسوفاً في آن معاً. لقد جمع علم العصر من كافة أطرافه. وقد بلور مفهوماً مستنيراً عن الإسلام. وكان عارفاً جيداً بالفلسفة اليونانية القديمة وبالأخص كتب المنطق لأرسطو. ولهذا السبب لعب دوراً كبيراً في تعريبها، بل ونقلها إلى الغرب الجاهل إبان القرون الوسطى المظلمات. نعم لقد أيقظ ابن رشد أوروبا من سباتها العميق الطويل وجعلها تنفتح على العلم والفلسفة. كما دعا ابن رشد إلى تفسير عقلاني لنصوص التراث الإسلامي.
وماذا يقول عن دانتي في الصفحة 287 من الكتاب؟ يقول ما معناه: لقد كان مؤلف الكوميديا الإلهية هو أيضاً مؤلف كتاب الأنظمة الملكية في أوروبا. وفي هذا الكتاب الثاني راح ينظر بكل وضوح لفكرة الفصل بين السلطة السياسية/‏‏‏ والسلطة الدينية، فقد رفض خضوع السلطة السياسية للسلطة الدينية كما كان سائداً في عصره، وكما كانت تدعو إليه تيارات المسيحية السياسية أو الإخوان المسيحيين. فللدين مجاله وللسياسة مجالها ولا ينبغي الخلط بينهما. الدين لله والوطن للجميع. لا ينبغي تلويث الدين بشؤون السياسة وكل مناوراتها وألاعيبها وحيثياتها. لا ينبغي تلويثه بكل شاردة وواردة. وهذا ما أثار عليه حفيظة البابا والفاتيكان فأدانوا كتابه، بل وطالبوا بحرقه في الساحات العامة عام 1329 باعتباره كاتباً زنديقاً كافراً. وفي عام 1554 وضعته الكنيسة على قائمة الكتب المحرمة، بمعنى أنه يمنع على المسيحيين اقتناؤها أو قراءتها.

معنى «أصولية»
الآن لننتقل إلى مادة بعنوان: أصولية. فماذا يقول القاموس العتيد عنها في الصفحة رقم 417؟
إنه يقول ما معناه: في البداية كانت كلمة أصولية تعني ذلك التيار المحافظ الذي ظهر أثناء الحرب العالمية الأولى في بعض الأوساط الأميركية المحافظة. وهو التيار المتعلق بالتفسير الحرفي للعقيدة والنصوص الدينية. والمقصود بذلك العودة إلى الأصول الأولى للعقيدة المسيحية، لهذا السبب دُعي التيار المذكور بالأصولية. وهذا التيار ظلامي في الواقع. لماذا؟ لأنه يرفض التأويل المجازي للنصوص الدينية، فمثلاً ما يقوله سفر التكوين التوراتي عن خلق الكون والعالم والإنسان يأخذه على حرفيته حتى ولو تناقض كلياً مع نظريات العلم الحديث. وهنا يكمن مأزق العقلية الأصولية. فما دامت متشبثة بالتفسير الحرفي للنصوص الدينية فهذا يعني أنها سوف تصطدم بحقائق العصر والعلم لا محالة. متى يفهم الأصوليون أن النصوص الدينية ليست كتباً في علم الفيزياء والكيمياء والبيولوجيا والفلك والرياضيات، وإنما هي كتب في الهداية الأخلاقية للبشرية؟ وهذا ما لا يفهمه الأصوليون الأميركان وغير الأميركان ولا يريدون أن يفهموه، وبالتالي فلا ينبغي أن نأخذ ما تقوله النصوص الدينية عن الظواهر الطبيعية ونشوء الكون بحرفيته، وإنما بشكل مجازي ورمزي.
أنتقل الآن إلى مادة أخرى بعنوان: محاكم التفتيش، صفحة 484. وهنا يقول المؤلف ما معناه: كان البابا غريغوار التاسع هو الذي دشن محاكم التفتيش للمرة الأولى في تاريخ المسيحية عام 1231. وكان الهدف منها ملاحقة الهراطقة أو المشتبه بهم كذلك. والمقصود بالهراطقة أو الزنادقة أعداء الدين المسيحي في مذهبه الكاثوليكي البابوي. والمقصود أيضاً كل أولئك المقصرين في أداء الفرائض الدينية أو أولئك الذين ينحرفون عن القيم المسيحية بشكل أو بآخر. وقد اكتسحت محاكم التفتيش جنوب فرنسا وإسبانيا والبرتغال وسببت حرق مئات الآلاف بتهمة الزندقة، بل وظلت محاكم التفتيش منتعشة في إسبانيا حتى بدايات القرن التاسع عشر. ولكن تيار التنوير الإسباني نهض ضدها وأدانها بكل قوة، واستطاع إيقافها عند حدها والقضاء عليها في نهاية المطاف. هذا وقد أدان الشاعر الكبير فيكتور هيغو محاكم التفتيش بكل قوة في نص كتبه عام 1850. وفيه يقول ما معناه: لقد حرقت محاكم التفتيش وقتلت ما لا يقل عن خمسة ملايين شخص في كل أنحاء أوروبا. نعم خمسة ملايين شخص! بل ووصل الأمر بمحاكم التفتيش إلى حد نبش القبور وحرق الموتى الذين ماتوا على الكفر والضلال بحسب رأيها دون أن يحاسبوا. فهل هناك من تعصب أكبر من هذا التعصب؟ هكذا نلاحظ أن الفهم الخاطئ للدين يؤدي إلى كوارث وجرائم كبرى. إنه يؤدي إلى تفكيك الوحدة الوطنية وتدمير البلاد. عندما نقرأ كلام فيكتور هيغو هذا نتساءل: هل يتحدث عن دواعشهم أم عن دواعشنا؟

المفكر الحقيقي.. فولتير
وماذا يقول المؤلف عن فولتير في أواخر الكتاب ص 876؟ يقول ما معناه: يمكن القول بأن حياة فولتير تغطي القرن الثامن عشر من أوله إلى آخره. فقد ولد عام 1694 في نهايات القرن السابع عشر، وتوفي عام 1778 في نهايات القرن الثامن عشر عن عمر يناهز الرابعة والثمانين عاماً. وهو عمر كبير جداً بالنسبة لذلك الزمان، حيث لم يكن يوجد طب حقيقي ولا معالجات صحية. هذا وقد تميز وجوده بالنضال ضد شيء واحد تقريباً هو: التعصب الديني الكاثوليكي الأعمى. نقول ذلك على الرغم من أنه من أصل كاثوليكي وتربية كاثوليكية. وهذا يعني أن المفكر الحقيقي هو من ينهض ضد تعصب طائفته الخاصة بالذات إذا ما طغت وبغت وأرعبت الآخرين بلاهوتها التكفيري. فالهجوم على طوائف الآخرين سهل جداً بل وأكثر من سهل. ولكن أن تهاجم طائفتك التي تربيت على عقائدها منذ نعومة أظفارك وتشربت عقائدها تشرباً فهذا من أصعب الصعب. متى سيظهر مثقفون أحرار من نوعية فولتير في العالم العربي؟ متى سينبثق النور من دياجير الظلمات؟ ولذلك طرح زعيم التنوير الفرنسي الشعار التالي: لنسحق العار والشنار، أي لنسحق الأصولية المتزمتة والإخوان المسيحيين الطغاة، ولكن على عكس الفكرة الشائعة فإن فولتير لم يكن ضد الدين بصفته تلك ولا ضد الإيمان. أبداً، أبداً. فهو كان مؤمناً بالله باعتباره المهندس الأكبر للكون. وكان يقول: لا مخلوق من دون خالق ولا ساعة من دون ساعاتي. وبالتالي فإيمانه بالله كان راسخاً لا يتزعزع. ولكنه كان ضد طغيان الكنيسة الكاثوليكية البابوية التي لم تعد طغيانية ولا ظلامية ولا تكفيرية في عصرنا الراهن أبداً بعد أن أصلحت ذاتها وتخلت عن فتاوى التكفير ومحاكم التفتيش.. ولكنها في عصره كانت طغيانية وتكفيرية. ولذلك أدان اضطهادها للأقلية البروتستانتية بعد أن خلعت المشروعية الإلهية على ذبحها واستئصالها من فرنسا. نقول ذلك على الرغم من أنه لم يكن بروتستانتياً على الإطلاق وإنما كاثوليكي أباً عن جد. ومعلوم أن الكنيسة الكاثوليكية أصدرت فتاوى عديدة تحل قتل البروتستانتي بحجة أنه كافر زنديق منحرف عن المسيحية الحقة القويمة المستقيمة: أي المذهب الكاثوليكي البابوي. بمعنى آخر فإن فولتير أدان التفسير الطائفي للدين لأنه يؤدي إلى مجازر جماعية وحروب أهلية مستمرة. ولا يمكن تحقيق الوحدة الوطنية بوجوده.
كنت أتمنى لو أستطيع التوقف عند مواد من نوع: مصطفى كمال والعلمانية التركية، وكوبرنيكوس، وجيوردانو برينو، وغاليليو، ورينيه ديكارت، ومفهوم الدوغمائية، والإسلاموفوبيا، ومفهوم التنوير... إلخ.