الحب مقام إلهي في أدبيات المتصوفة لأن الحق تعالى وصف به نفسه وتسمى بالودود، كما أنه تجربة جمالية لدى المتصوفة، ويعد من أرفع وأجلّ أنواع السلوك عندهم، وهو مكوّن أساسي في التصوف، والتربية الصوفية على المحبة تؤدي إلى الوحدة بين البشر.

مع ازدياد جرعة الكراهية في الوقت الراهن، فما أحوجنا للعودة للمحبة الصوفية بكل أنوارها والتي ستتكفل لا محالة بمحو كل ظلام، وتساعد بالنتيجة على استعادة ما قام المتطرفون بالسطو عليه من قيم إسلامية، سيّسوها وجعلوها على مقاس آرائهم التي يقومون على ضوئها بقتل الجمال ونشر القبح كبديل له.
إذن ما هو الحب الصوفي وما هي تجلياته؟ وكيف يمكن لنوره أن يمحو ظلمة التطرف؟

بلا شوائب
الحب الصوفي تغذية للروح وتزكية للنفس من كل الشوائب، كالكراهية والبغض، كما أنه اعتراف بالآخر دون قيد أو شرط، والحب ليس له وجه واحد، وإنما هو مراتب، فحب المتصوفة مختلف عن حب الإنسان العادي، ومن ميّز بين هذين النوعين من الحب هو الغزالي وأكد ذلك بقوله: «والمؤمنون مشتركون في أصل الحب لاشتراكهم في أصل المحبّة، ولكنّهم متفاوتون لتفاوتهم في المعرفة وفي حب الدنيا». والمحبة أساس من الأسس المتينة التي بُني عليها الدين الإسلامي، كما أن جوهر الحب الإلهي لا يمكن تحديده، ولكن يمكن تحديد شروطه وعلاماته التي منها الخضوع والعبودية، فالمتصوف يتجلى جمال حبيبه في كل شيء، ومحبة المخلوقات التي هي تجلٍّ للحبيب، تدخل ضمن التعبير الخالص عن العبودية والطاعة لله تعالى دون قيد أو شرط، كما أن محبة الله لنا موجودة في الأزل، وهي أسبق من محبتنا له، وقوله تعالى تأكيد لذلك: «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ».
كما أن محبة الله تعالى ينتج عنها حب الآخرين، لأننا بمحبة الآخرين نعكس ما أسبغه الله علينا من محبة، وحب الناس لبعضهم البعض يمكّن من سيادة العدل وتحقيق السعادة، فكل ما هو إيجابي في الكون ثمرة للحب والمودة وكل ما هو سلبي نتيجة للكراهية والبغض، والإنسان عندما يحب يعبّر عن طبعه الأصلي، لأن المحبة متأصلة في طبع الإنسان وقد كرّمه الله بها، وحسب روزبهان البقلي: «لم ير الحق (عز وجل) في الكون محباً صافياً كما يريد، فجعل آدم لأجل المحبة، لأنه خلق الملائكة لأجل العبادة».
وحب المتصوفة لله دون سبب، أي الحب من أجل الحب، وهو طريقهم السالك للوصول إلى درجة الفناء في الله سبحانه وتعالى، وتلك هي أعلى مراتب العشق، ولذلك فإن المتصوف يرتقي بالحب فيتخطى المادي إلى الروحي، وينكشف له نور الطريق الذي يوصل للمحبة الإلهية، ويستعرض ابن عربي ما يجب القيام به للترقي والوصول إلى درجة عليا من الحب الإلهي، فيقول: «إن مشاهدة المحبوب هي البغية، ولها آداب تتبع، فعلينا أن نكون أكثر استعطافًا لرضا المحبوب واستلطافًا به، فنصل لدرجة من الوله الغالب على القلب، وأن الدمع والبكاء لشوقٍ أو لحنين يطهران القلب المُحب، وأن البوح والإفشاء والإعلان لا يأتيان، إلا بعد أن يغلبنا سلطان الحب، فنعشق، ويقول عن هذا: إن البوح أبلغ في المحبة من الكتمان، فصاحب الكتمان ذو سلطان على الحب، أما البائح فيغلبه سلطان الحب، فهو أعشق».

مقامات الحب
لذلك فإن مقامات الحب عند المتصوفة تتعدد حيث ينتقل الصوفي من مقام للحب إلى المقام الذي يليه حتى يتحقق له العشق، وهو تمام المحبة ومنتهاها، وعدد هذه المقامات حسب المتصوفة المسلمين خمسة، وقد خصوا بها المحبين السالكين وهي كالتالي، الإلفة، والهوى ثم الخلّة والشغف، فالوجد؛ واعتبروا الوجد أعلى مقامات المحبين، وعن المحبة يقول أبو طالب المكي: «المحبّة أكمل مقامات العارفين.. وهي إيثار من الله تعالى لعباده المخلصين» ويقول: «فالمحبة تكون هبة من الله تعالى لأصفيائه من الأولياء، وهي أكمل أنواع المقامات التي يحققها المؤمن وكل مؤمن بالله فهو محب لله، ولكن محبته على قدر إيمانه، وكشف مشاهدته، وتجلي المحبوب له على وصف أوصافه».
وهناك تعريفات كثيرة للحب حسب المتصوفة وهي تتنوع بتنوع الأذواق، لكنها ذات معنى واحد، فجلال الدين الرومي عرفه بقوله: «يعنى أن تميل بكلك إلى المحبوب، ثم تؤثره على نفسك وروحك ومالك ثم توافقه سرّاً وجهراً ثم تعترف بتقصيرك في حبه»، وقال عبدالله القرشي: «حقيقة المحبة أن تهب لمن أحببت كُلَّكَ ولا يبقى لك منك شيء»، أما ابن قيم الجوزيّة فقد قال إن: «المحبّة الخالصة أن يُحبّ المحبوب لكماله، وأنّه أهلٌ أن يُحب لذاته وصفاته».
ومن علامات الحب الصوفي حسب الجنيد: «استيلاء ذكر المحبوب وصفاته وأسمائه على قلب المحب... والمحبة هي قطب المقامات، وهي أصل العبادة».
إنها أقوال نفيسة تفشي عن كون الحب الصوفي يُبذل دون انتظار للمقابل، فهو كله إيثار وعطاء بلا حدود، وما قاله أبو يزيد البسطامي يؤكد هذا الطرح: «المحب الصادق لو بذل لمحبوبه جميع ما يقدر عليه لاستقله واستحيى منه، ولو ناله من محبوبه أيسر شيء لاستكثره واستعظمه»، والحب الذي يكون في انتظار مقابل ينزاح عن نورانيته وسموه وعن أهدافه أيضاً. وأكد ذلك الشيخ الأكبر ابن عربي بقوله: «كل حبّ يكون معه طلب لا يُعوَّل عليه: فالأصل في الحبّ التجرد عن الطلب والأسباب، والموافقة التامّة لإرادة المحبوب، والطلب من الأسباب التي تنقطع وتنتهي بتحقيق الطلب، وذلك ليس بحبّ». وقال أيضاً: «كل حبّ تبقى في صاحبه فضلة طبيعية لا يعوَّل عليه: والفضلة هي البقية من الشيء، والأصل في الحب فناء المحب عن نفسه في محبوبه، فلا شيء منه ولا بقية من طلب أو هدف أو رغبة».

طريق التسامح
وأهمية التصوف تتجلى في دعوته إلى التعايش والتكتل بين أهل الديانات والطوائف داخل منظومة روحية واحدة دون الالتفات إلى الانتماء الديني أو العرقي، فيعمل على التوحيد بينهم، وأساس ذلك المحبة لأنها الطريق السالك للتسامح وقبول الآخر المختلف مهما كان اعتقاده، وقد تحقق ذلك للمتصوفة نتيجة استنادهم على المحبة الإلهية التي يشترك فيها كل البشر وكل الأديان، وقد اختزل ذلك ابن عربي في أبياته الشفيفة:
لقد صار قلبي قابلا لكل صورة
فمرعى لغزلان ودير لرهبان
وبيت لأوثان وكعبة طائف
وألواح توراة ومصحف قرآن
أدين بدين الحب أنّى توجهت

ركائبه فالحب ديني وإيماني.
وبناء على ما سبق يتأكد أن الحب الصوفي دليل ساطع على أن الدين الإسلامي دين المحبة التي تقوم بدور الإغناء الروحي للمجتمعات.
وقد انسحب المتصوفة لبقعة الحب المنيرة فصفت أنفسهم وأضحت مرتعاً خصباً للحب والتسامح، وكان ذلك رداً صارخاً على ما ساد واقعهم من قلاقل واضطرابات في زمنهم، وجلّها ناتجة عن غياب المحبة والتسامح وسيادة الكراهية التي عادت اليوم وأضحت تضرب بقوة فلا تخلّف إلا الخراب، لذلك أضحت الدعوة لتبني المحبة الصوفية مطلباً أساسياً في الوقت الراهن، لأنها كلها نور وتسامح ودعوة للوحدة بين البشر بكل أطيافهم ومعتقداتهم وتوجهاتهم.

المحبة هي الحلّ
الكراهية هي ذلك الوهن الروحي الذي ينشر الظلمة والتطرف، وهي لا توجه للنفس وإنما للغير، وتفشّي التطرف والإرهاب واللاتسامح في عالمنا العربي وحتى في الغرب أمر مهدِّد ولا يمكن تجاهل تداعياته الخطيرة على الحاضر والمستقبل. ومن أسباب التطرف الجهل والتهميش والاستبداد والتمييز، كما إن بعض الدعاة يتحملون جزءاً من المسؤولية في غرس نبتة التطرف السامة في النفوس ورعايتها، فأضحت المحبة الصوفية جزءاً من الحل لمواجهة كل هذه الكراهية المفرطة والمولدة للعنف ولإقصاء الإنسان والتي تصل في الكثير من الأحيان إلى حد مصادرة الحياة، وبالنتيجة قتْل كل ما هو جمالي وروحي في الدين الإسلامي.
وعليه، فإن ظلام الكراهية والتطرف الذي أصبح واقعاً ملموساً لن يمحوه إلا نور الحب، الذي ينتصر دائماً حسب ما جاء في قول جلال الدين الرومي: «إن الشمس التي تشرق بطلعتها أنّى لها أن تختفي من أجل خفاش»، والخفّاش هو الكراهية التي لا حياة لها أمام الحب الذي يعد ضرورياً لازدهار البشرية، لأنه يختزل ما هو إنساني وروحي، ويؤكد ذلك فريديريك لونوار الذي يرى أنه: «لا يوجد من البشر من بوسعه أن يحيا، وأن ينمو من غير حب».

إشاعة المحبة والتسامح
ومحبّة الإنسان نوع من تكريمه وانعكاس لمحبة الله لخلقه، وحب المتصوفة للذات الإلهية كان سبيلهم السالك لإشاعة المحبة والتسامح بين البشر، لأن من يحب الله لن تجد الكراهية إلى قلبه سبيلاً.
ويعد التسامح من أرقى مظاهر المحبة وجلال الدين الرومي حث على ضرورة التحلي بالتسامح لأنه السبيل السالك للوحدة ومما قاله في الموضوع: «تعال وكلمني ولا يهم من أنت، ولا إلى أي طريقة تنتمي ولا من هو أستاذك، تعال لنتكلم عن الله». وبناء على ذلك فإن التصوف يدعو للوحدة التي تتحقق عن طريق المحبة وينبذ الأنانية التي تؤدي إلى انفصال الذوات وبالتالي تزرع الكراهية، ويؤكد هذا الفيلسوف البريطاني ولتر ستيس في كتابه «التصوف والفلسفة» بقوله: «أساس النظرية الصوفية عن الأخلاق هو أن انفصال الذوات الفردية يؤدي إلى الأنانية التي هي مصدر الصراع، والجشع، والطمع، والعدوان، والكراهية والقسوة، والخبث وغيرها من الرذائل الأخلاقية، وهذا الانفصال يتم استبعاده في الوعي الصوفي، الذي تلغى فيه جميع التمييزات، والمقابل الانفعالي الحتمي لانفصال الذوات هو العداوة الأساسية التي تؤدي إلى «حرب الكل ضد الكل» التي أشار إليها هوبز. والمقابل الطبيعي للوعي الصوفي هو أنه لا يوجد في الواقع الذي يعتقد الصوفي أنه يدركه انفصال للأنا عن الأنت، ولا انفصال للهُوَّ عن الأنت، فالكل واحد في الذات الكلية، أعني أن المقابل الانفعالي هو: الحب، والحب بناء على هذه النظرية هو الأساس الوحيد والوصية الوحيدة للأخلاق».

المحبة لتحقيق السلام
واطلاعنا على التراث الصوفي يجعلنا نقف على ما أورثه لنا المتصوفة من كنوز تمكننا من الوقوف على عمق رسالتهم الداعية للمحبة بكل تجلياتها حيث أخلصوا في محبة الله كدعوة مبطنة لحب الناس لبعضهم بعضاً. والتربية الصوفية تسهم في نشر المحبة كسبيل لتحقيق السلام والتوازن لدى الأفراد والمجتمعات، ونبذ الكراهية والتطرف.
وعندما يقوم المسلم بتبني الكراهية بدلاً من المحبة التي هي أحد أوجه محبة الله تعالى لعباده، يكون بذلك قد ضرب عرض الحائط بما دعا الله إليه من محبة ورحمة، فتنتفي عنه بالنتيجة صفة الإيمان وما قاله الرسول الكريم، صلى الله عليه وسلم، يؤكد ذلك: «لا يؤمن أحدكم حتّى يحبّ لأخيه ما يحبّ لنفسه»، فالإسلام يدعو للمحبة ونبذ الأنانية وتحبيب الإيثار والذي دعا إليه المتصوفة حيث تبنوا المحبة القائمة على الإيثار والبذل والتضحية، ولذلك يرى جلال الدين الرومي أن «الحب، هو استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من محبوبك، فالحب يسقط شروط الأدب»، وذلك سبيل سالك لتحقيق السعادة والفرح للآخرين، وهو بالنتيجة تحقيق السعادة للمحب نفسه، ويلخص جلال الدين الرومي ذلك بقوله: «هناك سبل كثيرة لتصلَ إلى الله، وأنا اخترت الحب لأصلَ إليه. وما زالت الشمس وبعد كل هذا الزمن، لم تقل للأرض، إنني ملكك. انظر ما يحدث مع مثل هذا الحب، إنه يملأ السماء نوراً. إن رأيت هذا الرأس مليئاً بالسعادة ومتخماً بالفرح كل ليلة وكل نهار اعلم أن أصابع الحب قد لامسته».