شروق عوض (دبي)
بينما عكف رواد التكنولوجيا على استشراف آفاق تقنيات جديدة لإيجاد حلول مفيدة لمشكلة تغير المناخ والبيئة، والتي بدت على نحو غير قابل للتفسير بعيدة المنال بالنسبة للمجتمع الدولي، أدرك المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، مبكراً الاتجاهات السائدة في جميع أنحاء العالم، وخير مؤشر على ذلك عندما قال الشيخ زايد: «لقد عاش آباؤنا وأجدادنا على هذه الأرض، وتعايشوا مع بيئتها في البر والبحر، وأدركوا بالفطرة وبالحس المرهف الحاجة إلى المحافظة عليها، وأن يأخذوا منها قدر احتياجهم فقط، ويتركوا فيها ما تجد فيه الأجيال القادمة مصدراً للخير ونبعاً للعطاء».
والمتتبع لمقولة الأب المؤسس الشيخ زايد، طيب الله ثراه، يجد إصراره على المضي قدماً نحو استشراف المستقبل وبناء الإنسان وتمكينه وإرساء ركائز صلبة له، عبر توفير مناخ صحي آمن يضمن له النمو والازدهار في ظل التحديات والتهديدات الراهنة، وتعاظم تأثير المتغيرات على أوضاع المناخ، ومع تطور العلوم والتقنيات، تحولت النظرة لمستقبل المناخ نحو الإيجابية، وأصبح المستقبل ليس ذلك الشيء المقرر سلفاً والمفروض قهراً، ولكنه شيء يمكن التأثير فيه، بل يجب المساهمة في بنائه وتشكيله وصياغته ليكون مواتياً للإنسان وليس معرقلاً له.
لعب فكر الشيخ زايد، رحمه الله، الخاص باستشراف مستقبل المناخ، ودعم اتخاذ القرار في الانتقال النوعي من الخضوع للأحداث المستقبلية، إلى المشاركة في صنع وصياغة هذه الأحداث، وتحقيق التغيير المرغوب فيها، حيث ركز المغفور له الشيخ زايد بن سلطان على توفير المعلومات والمؤشرات والخيارات المتاحة لفهم أعمق وتعامل أفضل لمستقبل التغير المناخي، كما بادرت المؤسسات الحكومية بتنفيذ رؤية الشيخ زايد على استشراف المستقبل في هذا المجال من خلال المبادرة والتحرك المسبق للسيطرة على تحديات المناخ، وتعزيز مفهوم الأمن المناخي، وإعادة توزيع المدخلات بالطريقة التي تحقق لمناخ دولة الإمارات أفضل استعداد ممكن لمواجهة التغير المناخي والتحديات المستقبلية له، الأمر الذي يعزز القدرة على التنافسية والإبداع والتميز.
نشر مصادر الطاقة المتجددة
وفي هذا الإطار، قالت طيف الأميري، مدير إدارة الاتصال الحكومي في وزارة التغير المناخي والبيئة: «لقد كانت دولة الإمارات واحدة من أولى الدول الرئيسة المنتجة للنفط المصادقة على بروتوكول كيوتو لاتفاقية الأمم المتحدة بشأن التغير المناخي، وكان لها أيضاً دور تاريخي في المصادقة على هذا البروتوكول تحديداً، حيث لم يستطع سوى عدد قليل من الدول مجاراته في نشر مصادر الطاقة المتجددة، وبالعودة إلى تتبع دور أبوظبي في مجال الطاقة الشمسية والوصول إلى مضخات المياه التجريبية التي طورها الشيخ زايد، طيب الله ثراه، وفرق من طلاب الهندسة من جامعة الإمارات في العين في ثمانينيات القرن الماضي، تظهر أن تلك الأيام كانت الأولى للطاقة الشمسية، ولكن مع تقدم التكنولوجيا، قام المغفور له الشيخ زايد بتطبيقها في مشاريع لتوليد الكهرباء في الدول النامية، وأدخل نظم الري في إريتريا، ومضخات المياه في تشاد وغيرها».
الإمارات ونمو باندونغ
وأكدت الأميري أن هناك أمثلة أخرى مهمة تشير إلى الاهتمام طويل الأمد الذي أولاه الشيخ زايد، رحمه الله، لمصادر الطاقة المتجددة، بما في ذلك مشروع حقق نجاحاً ملحوظاً في مدينة باندونغ بمقاطعة جاوة الغربية في إندونيسيا، والذي تم من خلاله إدخال محطات الطاقة الحرارية الأرضية التي تستخدم البخار الذي تنتجه خزانات المياه الساخنة الموجودة على بعد بضعة أميال أو أكثر تحت سطح الأرض لتوليد الكهرباء، حيث قدم صندوق أبوظبي في العام 1977، قرضاً ميسراً لتطوير وتوسيع شبكة توزيع الكهرباء، الأمر الذي أسهم في يومنا هذا عن نمو باندونغ لتصبح ثالث أكبر مدينة في البلاد.
الطاقة الكهرومائية
ولفتت طيف الأميري إلى أن مشاريع سدود الطاقة الكهرومائية في الأردن ومصر والسنغال والمغرب وتونس وباكستان، على سبيل المثال لا الحصر، هي أمثلة أخرى على التزام أبوظبي بالسعي لإيجاد حلول متجددة لاحتياجات الدول النامية، ففي العام 1988، أتاحت منحة من الشيخ زايد لمنغوليا، إجراء دراسة جدوى لواحد من أكثر مشاريعها الطموحة في التنمية الاجتماعية والاقتصادية والطاقة المستدامة والمتمثل بمشروع الطاقة المائية الذي يقع على بعد نحو 1,100 كيلومتر غرب عاصمتها أولان باتور، وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، عانت البلاد تعثر الاقتصاد ومحدودية توليد الطاقة، حيث أقيم مشروع تايشير للطاقة الكهرومائية على نهر زافخان، وفي العام 2002 قدم صندوق أبوظبي قرضاً ميسراً لتغطية ربع تمويله تقريباً، وتألف المشروع من بناء سد، تبلغ قدرته الإجمالية المركبة 11 ميغاوات، ولبى عند اكتماله نحو 90 في المئة من الطلب في مقاطعتي غوفي ألتاي وزافخان.
البصيرة وقراءة المستقبل
وأشارت الأميري إلى أن الشيخ زايد، طيب الله ثراه، كان زعيماً ألهمته تربيته وثقافته أن «يقرأ الأرض» خلال سنواته الأولى، وعلى الرغم من أنه أصبح رئيساً لدولة فتية نابضة بالحياة، فإن شعوره بهذا الجانب من الحياة لم يخبُ، مشددة على أن خير دليل على ذلك، قيام الشيخ زايد ببناء أمة بامتياز، وفي الوقت نفسه تعزيز الشعور بالمسؤولية ذاته في جميع أنحاء الدول النامية من خلال مشاريعه التنموية المستدامة في المجالات كافة.
وأضافت أن الشيخ زايد، رحمه الله، رأى الكارثة تلوح في الأفق ببصيرته الخاصة، واستناداً إلى ما قرأه ومن تفاعلاته مع الخبراء، لقد كان قلقاً من الوضع المتفاقم، ومن ملامح الصورة الكبيرة التي ترتسم أمامه، كما حرص المغفور له على القراءة باللغة العربية بشغف، بما في ذلك المجلات والأبحاث العلمية، والمقالات الصحفية من وسائل الإعلام الأجنبية التي تتناول مواضيع تهمه، حيث كانت تتم ترجمتها من الإنجليزية في مكتبه، وقد عكست إحدى المقالات التي ظهرت في صحيفة نيويورك تايمز عام 1988 المزاج السائد في تلك الفترة، حيث ورد فيها: يعد متوسط درجات الحرارة العالمية في الثمانينيات الأعلى الذي تم تسجيله منذ أن تم الاحتفاظ بسجلات موثوقة للمرة الأولى قبل أكثر من 130 عاماً، وفقاً لتقارير بدأت تتوارد حينها من علماء من جميع أنحاء العالم. وكانت درجات الحرارة ترتفع بصورة أقل أو أكثر انتظاماً معظم القرن الماضي.
البشرية واستنزاف الموارد
وعلى الرغم من التحذير الرهيب الذي ساقه مقال نيويورك تايمز، فإنه لم يتصدر الصفحة الأولى من الأخبار وأُدرج في الزاوية اليمنى السفلية من إحدى الصفحات الداخلية للصحيفة، ولم تعد تلك الكارثة الفظيعة المتفاقمة رويداً رويداً أخباراً رئيسة، وأدرك الشيخ زايد أن البشرية قد غيرت توازن كوكبنا من خلال تحميل مواردنا فوق طاقتها، وحرق كميات هائلة من الوقود الأحفوري، واستيلاد كميات هائلة من المواشي التي تطلق غاز الميثان، وتقليص مساحات شاسعة من الغابات التي تمتص ثاني أكسيد الكربون من الهواء بصورة طبيعية، في حين كان دور المحيطات كمصارف غازية حيوية يغير كيمياء بحارنا ذاتها.
«الكاكاو» واستصلاح الصحراء
وقالت الأميري: مشاريع التنمية المستدامة التي دعمها الشيخ زايد في الدول النامية، كانت صناعة الكاكاو، والتي أشار إليها جاك ضيوف، المدير العام السابق لمنظمة الأغذية والزراعة التي تتخذ من روما مقراً لها، ودعمت هذا المشروع، حين قال: «على مدى جيل، قدم مشروع الشيخ زايد في ساحل العاج نموذجاً للنمو المستدام في العالم النامي، فقد وظف المشروع الملايين، ودعم اقتصاد ذلك البلد، ومن المنصف القول إنه كان غايةً في البساطة»، مضيفاً أن دولة الإمارات كانت أيضاً واحدة من أكثر المساندين حماسة لمجموعة من المشاريع المستدامة التي تم إطلاقها تحت رعاية منظمته. كما أشاد ضيوف آنذاك بالشيخ زايد، وأبوظبي، ودولة الإمارات العربية المتحدة، لدعمهم مشاريع تحويلية مماثلة تشمل زراعة الكاجو في غينيا بيساو، والفول السوداني في السنغال، ومصائد الأسماك في بوروندي والرأس الأخضر وجزر المالديف وسريلانكا، والقطن في بنين وبوركينا فاسو ومالي والسودان وأوغندا، والسكّر في أفغانستان وبوروندي والصومال وتنزانيا.
الإمارات قوة عظمى للطاقة المتجددة
قالت طيف الأميري، مدير إدارة الاتصال الحكومي في وزارة التغير المناخي والبيئة، إن المغفور له الشيخ زايد، رحمه الله، دأب على التفكر في الحالة المقلقة التي يمر بها كوكب الأرض، وكان يعتبرها قضية عالمية تتطلب خطوات فورية وعملية على المستوى الدولي. ومع تبوؤ جيل جديد من القادة الإماراتيين دفع عملية التنمية قدماً، فإن دولة الإمارات التي اعتُبرت فيما مضى قوة نفطية ليس إلا، تحولت الآن إلى القوة العظمى للطاقة المتجددة في القرن الحادي والعشرين.
استصلاح الصحراء
وتابعت طيف الأميري: «ترددت أصداء المشروعات المذكورة أعلاه وغيرها في هذه المجتمعات والدول، كما ارتكزت مشاريع الشيخ زايد أيضاً على استصلاح الصحراء لما تصب في خدمة المناخ بالمقام الأول، ومن هذه مشروع مدينة النوبارية التي تقع شمال غرب مصر، وتبعد 47 كيلومتراً جنوب الإسكندرية، وتحظى بإمكانات وافرة لاستصلاح الأراضي. وفي هذه البقعة، أطلق الشيخ زايد، طيب الله ثراه، ما يعد على الأرجح أكبر جهوده التنموية الخارجية، وهي خطة اقتضت جر مياه النيل إلى الجزء الشمالي الغربي من الدلتا من خلال قناتين رئيستين، بما في ذلك تطوير قناة النوبارية البالغ طولها 150 كيلومتراً، بدعم من شبكات القنوات المائية ومحطة ضخ هائلة في قرية زاوية البحر.
وأكدت أن هذا المشروع الاستثنائي الذي من شأنه تطوير أراض زراعية، حظي باستحسان فوري في دولة الإمارات التي قدمت منحة ضخمة وقروضاً ميسرة من صندوق أبوظبي، حيث تمتد منطقة النوبارية على أربع محافظات هي البحيرة والإسكندرية والمنوفية والجيزة، وتنقسم إلى ست مناطق إدارية، تحتوي كل منطقة على عدد من القرى الصغيرة التي يُعد أحدها التجمع الحضري المركزي للمنطقة، وغدت قناة النوبارية التي تمولها أبوظبي مصدراً رئيساً للري بقدرة إنتاجية تبلغ 23 مليون متر مكعب من المياه يومياً، ويتم في بعض الحالات استخدام المياه الجوفية المرتبطة كلها بنظام كبير وفعال يغذي الأرض عن طريق الري بالتنقيط أو الرش من أجل ضمان أقصى قدر من الكفاءة. كانت نتيجة المشروع مذهلة، فعلى مدى سنوات عدة، وبعد الانتهاء من القناة الرئيسة، تم إيقاف زحف الصحراء، وبدأ الناس يتوسعون في الزراعة، وباتت الأرض تنضح بالمحاصيل الزراعية، إذ تضم المنطقة اليوم 16 بلدة وقرية جديدة، ومساحة قدرها 120 كيلومتراً مربعاً من البيوت البلاستكية، وأكثر من ألف كيلومتر مربع من الأراضي الزراعية، وألفي كيلومتر مربع من المحاصيل الدائمة، و52 كيلومتراً مربعاً من الغابات وأشجار السياج (المساعدة في وقف التصحر)، و10 كيلومترات مربعة من البحيرات ومياه البرك، و28 كيلومتراً مربعاً من المياه المستخدمة لتربية الأسماك.
زايد رائد البيئة
تصدر التغير المناخي والبيئة والحفاظ عليها وحمايتها من الضرر والتلوث أولويات المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، حيث أولاها كل الاهتمام.. والتاريخ يشهد بذلك، فإنجازات زايد، رحمه الله، في مجال البيئة عديدة، لقد صنع زايد المعجزة الخضراء التي استطاع من خلالها قهر الصحراء وتحويلها إلى جنات خضراء، حيث كان أول رئيس دولة في العالم تشهد الأمم المتحدة والعالم أجمع على ما سطره من ملحمة خضراء، عجز عنها الخبراء والمتخصصون بالزراعة، حيث قام (طيب الله ثراه) بزراعة الصحراء، فتحوَّلت الأراضي القاحلة في مختلف مناطق الدولة إلى غابات من الأشجار مختلفة الأنواع، والتي ساهمت في الحفاظ على البيئة وتحسين المناخ.
ولعلنا نذكر قصة فريق الخبراء الذي جاء إلى الإمارات في بداية قيام الاتحاد، وأكد أنه لا يمكن زراعة الصحراء، فقال لهم المغفور له الشيخ زايد: «إذا كان هذا جوابكم دعونا نجرب متوكلين على الله».. وقد حققت التجربة بالفعل نتائج مثيرة، حيث تم تشجير آلاف الهكتارات، وتحولت الرمال الصفراء إلى جنات خضراء.
وأصدر زايد مع بداية قيام الدولة العديد من القرارات حول حماية البيئة والحياة الفطرية، حيث شهدت الإمارات في عهده زيادة قياسية في أعداد الحيوانات، خاصة المهددة بالانقراض، وأسهمت رؤية وجهود الشيخ زايد ببروز اسم الدولة في المجال البيئي.
وحصل المغفور له الشيخ زايد، رحمه الله، على عدد من الجوائز الإقليمية والدولية التي تجاوزت 25 جائزة رسمية من المنظمات الدولية التابعة لهيئة الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية الأخرى والجامعات والدول، نظراً إلى الدور الأساسي الذي قام به، رحمه الله، في حماية البيئة، وصون الحياة الفطرية، وإقامة المحميات الطبيعية.
وفي الصورة زايد خلال تفقده عدداً من الجزر التابعة لإمارة أبوظبي، ويأمر بتشجيرها وذلك في مارس عام 1977م.