تتعدد العروض الموسيقية ذات المستوى الراقي في أبوظبي، وتتنوّع معها الخيارات، إنما هي في أجندة هيئة أبوظبي للثقافة والتراث أبعد من مجرد تقديم عروض وتنظيم مهرجانات، كان آخرها مهرجان العين التاسع للموسيقى الكلاسيكية، وليس أولها موسم ''موسيقى أبو ظبي الكلاسيكية''· فماذا عن البرنامج العام للهيئة ولماذا تتوجه إلى التلامذة في مشروعها؟ في حديث مع المدير الفني والتنفيذي لمهرجان ''موسيقى أبوظبي الكلاسيكية'' تيل جان تشينفيتش، استطلعنا أبعاد المشروع بخطوطه العريضة· بدأ تيل جان تشينفيتش مسيرته الفنية عازفاً على البيانو وصحفياً متخصصاً في الموسيقى، وذلك قبل أن يطلق أعماله في الإدارة الموسيقية في مهرجان سكليسويك هوستين الموسيقي الذي نال عنها الجائزة بيرينبيرغ بنك الثقافية، كما أسس في برلين العام 2000 الفرع الأوروبي لشركة أميركا الكولومبية لإدارة أعمال الفنانين· من الموسيقى إلى الإدارة في ظل أجواء اللحن، انتقل تيل للعمل في أبوظبي مديراً فنياً وتنفيذياً لمهرجان ''موسيقى أبوظبي الكلاسيكية'' (التابع لهيئة أبوظبي للثقافة والتراث) الذي قدم للجمهور ولا يزال يقدم أهم عازفي الموسيقى والأوركسترا العالميين· وحول هذه التجربة يقول تيل :''في المقام الأول، إنها ليست مهنة، وإن كانت في المجال الإداري، إنها عشق إذ ليس بالوسع العمل في المجال الموسيقي من دون أن يكون المرء متيّماً ومجنوناً بما يقوم به، مستعداً للموت من أجله والشعور بأنه رسالته· وأنا أؤمن بقوة الفن والموسيقى وما بوسع الموسيقى أن تحدثه في نفس الإنسان، بالإضافة إلى أنني أهتم بالإنسان وبمشاركة الآخرين بما أعتقد شخصياً أنه مهمّ''· أما كيف ساعدت خلفيته الموسيقية في موسم ''موسيقى أبوظبي الكلاسيكية'' والبرامج المنبثقة عنه، فيرى أنَّ ما ساعده فعلياً هو معرفته بما يتحدث عنه وبما يقوم به، وهذا مهمّ لجهة تقييم العروض واختيارها، مشيراً إلى بهرجة التسويق في عالمنا اليوم ما يدعو إلى مراقبة الساحة بدقة واختيار النوعية الجيدة المرافقة للتسويق· وأردف:''أعرف أن على الموسيقي أن يبدو لطيفاً وأن يكون لديه المكوّنات المطلوبة لعمله ليعبّر عن شخصية موسيقية عظيمة، ومعرفتي تمكّنني من الحكم على توافر النوعية مع هذه المكوّنات، وأجد مدراء غير موسيقيين بوسعهم الحكم على لطافة الموسيقي ونجوميته وتعامله وتواصله مع الإعلام والصحافة، لأنه ليس بالوسع أن تكون نجماً من دون التواصل مع الإعلام بالشكل اللائق، لكن عليك أيضاً أن تكون موسيقاراً حقيقياً ومميزاً· ومثالاً، لقد اخترنا عازف البيانو الصيني لانغ لانغ الذي سيؤدي حفلاً في مارس، وهو يعرف كيف يتواصل مع الإعلام والجمهور بشكل لا يصدّق في براعته، إنما هو موسيقار عظيم في الوقت ذاته· لذا على المدير أن يعرف كل المكوّنات، وبما أنني موسيقار في المقام الأول فهذا يجعلني ملِّماً بكل المكوّنات المطلوبة الأساسية لمعرفة الشخصية الموسيقية، وبالتالي بوسعي أن أحكم وأختار، الأمر الذي أعتبره مهمّاً جداً كون ''موسيقى أبوظبي الكلاسيكية'' تهتم في المقام الأول بالنوعية الجيدة، وهذا مو سبب وجودها أو هذه هي رسالتها في السنوات الخمس أو الست القادمة، من خلال تقديم أفضل حفل كلاسيكي رومنطيقي عظيم في أبوظبي بأبهى صورة وبأفضل نوعية ممكنة''· أما عن رسالة ''موسيقى أبوظبي الكلاسيكية'' فلخصها تيل بخطوات بدأت مع ادخال عادة الاستماع والتذوق للموسيقى الكلاسيكية إلى المجتمع من خلال تقديمها دون فرض على الناس، إنما من باب حرية الاختيار، مع العمل على عنصر الجذب من خلال اختيار الأفضل لتقديم نوعية مميزة للناس، واعتبر أن ذلك يتحقق يوماً بعد يوم، وقد بدأ جمهور ''موسيقى أبوظبي الكلاسيكية'' يتكوّن وثمة وجوه بدأنا نألف تواجدها وأخرى جديدة، إلى درجة بات يسمع فيها أن البعض يرجئون رحلة عمل من أجل حضور عرض نظمته الهيئة· وفي الحديث عن المستقبل، فهو ينظر إلى نمو المشروع أو البرنامج في المدى البعيد، لأن إنشاء وتأسيس أرضية ثابتة موسيقياً يحتاج إلى الوقت، ويوضح: ''ما نقوم به سيقودنا- كما أعتقد- إلى نقطة خلال الـ10 أو الـ15 سنة يكون فيه المجتمع المحلي مختلفاً كلياً في تعامله وفهمه للموسيقى الكلاسيكية عمّا هو الآن· ومن أجل أن نحقّق هذا الهدف، نحن ننشط بقوة في المدارس، لأن عملنا لا يقتصر على تقديم العروض المميزة، إنما يتعداه إلى التواصل مع جمهورنا المستقبلي بعد 10 أو 15 سنة، وهو هؤلاء التلامذة في المدارس''· وبما أن العمل مع المدارس قد بدأت خطواته الفعلية في عدد من المدارس الخاصة هذا العام، كان السؤال عن المدارس الحكومية التي تضم النسبة الأكبر من أفراد المجتمع المحلي، وأوضح تيل أن كل المدارس، خاصة كانت أو حكومية، تندرج في إطار برنامج الهيئة، شارحاً أن البرنامج يتم بشراكة تعليمية مع أوركسترا فيلومونيا التي تعمل في أبوظبي· وأشار إلى أن البداية مع المدارس الخاصة كان لجهة سهولة الوصول إليها، ولأن عدداً منها يخصص حصصاً مدرسية في الموسيقى، وهو أمر ينتظر حصوله في المدارس الحكومية، والعمل جارٍ في هذا الإطار· ولفت إلى أن التعاون يتم مباشرة مع إدارات المدارس، وبعد العمل الفعلي ستأتي الاتفاقات الرسمية في مراحل لاحقة· وعن استقدام أساتذة للموسيقى إلى أبوظبي، أشار إلى أنها مسألة في مدار البحث ولم يصدر قرار بشأنها كي يتمكن من الحديث عنها بشكل مفصّل· وعن رفض بعض الأهل تعلّم أولادهم الموسيقى، قال:''نحن لسنا عقائديين (دوغماتيين)، فنحن نحترم بعمق كل الآراء، وفي المقابل نحن لا نتوجه إلى الأهل لنقول أنه لزاماً عليهم التعاون معنا وسماع الموسيقى الكلاسيكية، لأن كل انسان حرّ في الاستماع أو التجاوب مع المشروع· لكن ما جذبني للقدوم إلى أبوظبي لأكون جزءاً من هذا المشروع، هو ثقتي بأن عددا كبيرا من صانعي القرار في هذه البلاد قد اتخذوا قرارهم في المجال التنموي الثقافي، ولهم رؤيتهم الواضحة في هذا الشأن، والعمل يسير نحو جعل أبوظبي العاصمة مركزاً للعروض الفنية المميزة· ثمة لوبي قويّ هنا يعمل جاهداً من أجل ثقافة عالية المستوى وإنه تحد أفخر جداً بأن أكون مشاركاً به· أما الرفض، فهو أمر عادي''· وتابع: ''أود في هذا الإطار أن أتحدث عن دراسة أجريت في كل أوروبا، ضمت المقارنة فيها بين التلامذة في المدارس لمعرفة أيهم الأسرع والأذكى والأكثر ابداعاً وأيهم الأبطأ وغير الخلاق، وتوصلوا أنه حتى الآن ومنذ 40 و50 سنة خلت، إن التلامذة الأكثر تقدماً هم الفنلنديون، وذلك لأن التعليم الموسيقي له دور مهيمن في فنلندا، ولهذا استقدمنا إلى أبوظبي في فبراير، أوركسترا سيبيليوس أكاديمي من هلسنكي، عاصمة فنلندا، كي نظهر كم بوسع هؤلاء الشباب أن يبدعوا في الموسيقى''· أما عن الهوة بين الثقافة الموسيقية الكلاسيكية وبلدان الخليج، وكان قد أشار تيل في مؤتمر صحفي سابق عن انجذاب الناس بشكل عام إلى موسيقى الأفلام من دون أن يدركوا أنها موسيقى كلاسيكية، اعتبر أن ليس في الأمر مشكلة وأن ما يجب أن نشكو منه ليس وجود هوة إنما من عدم المحاولة لردمها ولتغيير الوضع القائم· وقال: ''كما أرى، ثمة الكثير من مبادرات التغيير والعمل لجعل الوضع أكثر اعتياديا، وهذا ما يبعث الفرح للمشاركة في هذا التغيير كما أنها مسؤولية كبيرة جداً إذ علينا أن نعرف ما يجب أن نقوم به، والأهمّ من ذلك أن نعرف ما لا يجب القيام به· ثمة بالطبع خيارات أخرى كان من الأسهل علينا اللجوء إليها مثل استقدام عروض أكثر شعبية ذات منحى تجاري تحقق نجاحا كبيراً في المدى القصير، ولكن ما إن ينتهي عرض من هذه الخيارات حتى ينتهي معه خيار استدامة المفهوم الذي نعمل من أجل تحقيقه، وهذا أمر شديد الدقة وحاسم، وعلينا أن نفكر ملياً هنا بهدفنا''· أما عن تعدد مواسم ومهرجانات الموسيقى في أبوظبي ومنها التي تنظمها هيئة أبوظبي للتراث والثقافة، وإمكانية توحيد مظلتها، اعتبر تيل أنه يجب ألا يكون هناك مهرجان موحد إنما برنامج موحد وتنسيق في توقيت هذه المهرجانات والعروض، ووأوضح: ''سيرى الجمهور هذه البرامج والمهرجانات تنمو في اتجاه واحد في السنوات المقبلة''· وشدّد على أن تعدد المهرجانات دليل صحة، مقدماً الأمثلة عن عواصم ومدن عالمية مثل لندن ونيويورك وفيينا التي تقدم فيها عدة مهرجانات موسيقية· معتبراً أنَّ وفرة المهرجانات في أبوظبي دلالة على نمو العاصمة الثقافي· أما عن إمكانية التعاون بين المهرجانات، فأشار إلى ''مهرجان العين التاسع للموسيقى الكلاسيكية'' الذي سيقام من 5 مارس إلى 20 منه في قلعة الجاهلي في مدينة العين، وقد عيّن تيل وعبد الله العامري مديرين فنيين للمهرجان، بشكل يجمع بين الثقافة الموسيقية الغربية مع الثقافة الموسيقية العربية، لافتاً إلى أهمية عرض أوبرا موتسارت باللغة العربية وكذلك ''ريتشارد الثالث''، بالإضافة إلى عروض عربية كلاسيكية، كما لفت إلى مشاركة العازف العالمي آرشا كافينياني الإماراتي المولد· ووعد بتغييرات أكبر في السنة القادمة لأن ما سيشاهده الجمهور في العين قد تم تحضيره خلال شهر فقط· وأشار إلى أن الهيئة تؤمن للراغبين في حضور العروض في العين التنقل بباصات من المجمع الثقافي، مقر الهيئة، في أبوظبي إلى قلعة الجاهلي مجاناً، كما أنه تم اعتماد أسعار رمزية لتذاكر العروض، للكبار 50 درهماً وللتلامذة 30 درهماً