لعل لحظات الميلاد تمر على الإنسان دون أن يأخذ منها العبرة والعظة، بيد أنه إذا فقد عزيزاً، ووقف على الأطلال يلوح بوداعه، فإنه في هذه الحالة يستحضر مآثره، ويدرك قيمته وعظمته، وهذا ما عليه المسلم الآن، وقد وقف يلوح بالوداع لشهر رمضان، وكأني به يقول له وداعاً يا شهر الصيام، وداعاً يا شهر القرآن، وداعاً يا سفيرنا إلى الرحمن، وداعاً يا رمضان. وفي لحظات الوداع تلك يستحضر الإنسان العديد من المعاني التي ألهبت فكره، وأججت مشاعره من خلال معايشة أيام وليال هذا الشهر حتى وصل إلى اللحظة التي يعيشها الآن، في هذه اللحظة يدرك الإنسان قيمة الزمن، وكيف أنه أيام معدودة تمر على الإنسان دون أن يشعر بها. لقد كان بالأمس القريب يدعو ربه بدعاء النبي -صلى الله عليه وسلم- “اللهم بارك لنا في رجب وشعبان وبلغنا رمضان”. ويستجيب الحق سبحانه وتعالى لهذا النداء فيحيى أيام وليال هذا الشهر الكريم، وسرعان ما تتفلت الأيام والليالي من بين يديه فيبصر نفسه، وقد وقف على أعتابه بعد أن أذن الضيف بالرحيل. هنا يوقن بما ورد في الأثر “إذا أصبحت فلا تنتظر المساء وإذا أمسيت فلا تنتظر الصباح”. ويستحضر ما قاله الشاعر: دقات قلب المرء قائلة له إن الحياة دقائق وثوان فارفع لنفسك قبل الموت ذكرها فالذكرى للإنسان عمر ثان ومن ثم يؤمن بأن العمر قطار لا ينتظر أحد مكتوب على ناصيته أنه مهما طال الأجل فأنت للأرض أولاً وأخيراً كنت ملكاً أم كنت عبداً ذليلاً، لا خلود تحت السماء لحى، فلماذا تراود المستحيل، كل نجم إلى الأفول، ولكن آفت النجم أن يخاف الأفول. ويدرك كذلك من خلال سرعة انقضاء أيام هذا الشهر ولياليه حقيقة ما بشر به النبي - صلى الله عليه وسلم - من علامات الساعة من خلال طي الزمن. فيمر العام على الإنسان كالشهر، والشهر كالأسبوع، والأسبوع كاليوم، واليوم كالساعة. ففي ذلك أبلغ العظات، وأجمع العبر لمن كان له قلب أو ألقى السمع، وهو شهيد. كذلك في وداع هذا الشهر الكريم يستشعر الإنسان تلك النقلة الربانية التي من خلالها رفع الحق سبحانه وتعالى الإنسان من مصاف البشرية إلى مرتبة الملائكية، بل إلى أعلى من تلك المرتبة، ألم تر إلى علماء العقيدة وقد عرفوا الملائكة بأنها أجسام نورانية لا تأكل ولا تشرب ولا تتناكح ولا تتناسل، لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون. والإنسان بصيامه قد استجمع هذه الصفات، إذ إنه بمجرد سماعه منادى الله يعلن بالتكبير صيام يوم جديد، يمسك الإنسان طواعية عن شهوتي البطن والفرج، ويمنعه صيامه عن اللغو والرفث والفسوق والعصيان، فإذا ما سابه أحد أو شاتمه قال له: إني صائم. وبذلك يستجمع الإنسان صفات الملائكة، بل إنه باستقامته في صيامه فاق منزلتهم؛ لأن الملائكة عندما امتنعت عن الطعام والشراب والتناكح والتناسل كان هذا هو قدر الله عليها فهكذا خلقت، وهكذا جبلت. أما الإنسان، فإنه يسلك من بين يديه ومن خلفه رصدا: نفس تسول له الرذيلة، وشيطان أقسم لربه أن يضل عباده. بيد أن الإنسان بصيامه آثر مراد ربه على مراد الشيطان وهواه ونفسه؛ لذا استحق أن يرقى إلى مرتبة هو فيها أولاً والملائكة ثانيا. كذلك يستشعر الإنسان بوداعه لشهر الصيام أنه قد عايش احتفالية كبرى ألا وهي احتفالية نزول القرآن “شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان”ـ البقرة 185. ففي ليالي هذا الشهر الكريم كان ميلاد القرآن، حيث تنزل جملة واحدة إلى السماء الدنيا في ليلة وصفها الله تعالى بقوله: “إنا أنزلناه في ليلة مباركة”ـ الدخان 3. ثم سماها الله تعالى بقوله. ثم سماها الله تعالى بقوله: “إنا أنزلناه في ليلة القدر”ـ القدر 1. وكأن القرآن الكريم قد نزل من عند الله تعالى بواسطة ملك ذا قدر على نبي ذي قدر في ليلة سميت بليلة القدر. فحق لهذه الأمة أن تحتفل في هذا الشهر الكريم بذكرى نزول القرآن الذي وصفه الله تعالى بأنه هدى للناس وبينات من الهدى والفرقان. كذلك يقف الإنسان في موكب الوداع فيرى ليلة يتيمة يغفل عنها الصائمون، تشكو لربها قلة القوام والعباد فيها ألا وهي ليلة العيد التي يغفل عنها كثير من الناس لظنهم أن العبادة قد انتهت بانتهاء أيام هذا الشهر ولياليه. لذا يبين النبي -صلى الله عليه وسلم- أن ليلة العيد ليلة يغفل عنها كثير من الناس فمن أحياها أحيا الله قلبه يوم تموت القلوب. وفى النهاية، يستشعر الإنسان في لحظات الوداع لأيام هذا الشهر ولياليه أنه قد رحل عنه الأنيس والجليس، فقد ذهب شهر الصيام الذي لأجله يشهد للإنسان عند ربه فيقول: “أي رب منعته الطعام والشراب فشفعني فيه، ويقول القرآن: أي رب منعته النوم بالليل فشفعني فيه، فيأذن الله لهما بالشفاعة حتى يدخلا من شهدا له إلى الجنة”. د. محمد عبدالمعطي بيومي