الوقف في الإسلام يواكب أساليب تقدم وتطور المجتمع
أبوظبي (الاتحاد) ـ لقد كان للوقف أثر طيب للمجتمع الإسلامي في عهد النبوة والخلافة الراشدة، فقد كانت وظيفته كاملة أسهمت بحق في توفير بعض حاجيات أفراد المجتمع كالتكافل للفقراء، والمساكين، وإيواء السبيل، ثم أصبحنا بعد مرور الزمن أمام اتساع دائرة الوقف ومجالاته عندما أخذ المسلمون بأساليب التقدم والبناء للإنسان والمجتمع والحضارة على أسس من مقتضيات الدين والقيم مواكبة لتطور المجتمع، وتنوع احتياجاته، وتعدد مرافقه. وهذا يعني حضورا لانفتاح الأذهان والألباب وفهماً موسعاً لمقاصد الدين تحت اعتماد على عموم لفظ “سبيل الله”.
وها نحن نسوق بعضاً من مجالات الوقف، بصياغة إيمائية تدليلاً على قيمة الوقف وامتداد مجالاته.
الخير العام
الوقف على البر والخير هو وقف يخصص ريعه لعموم أوجه الخير والبر والإحسان، وهو يشمل كل أنواع الوقف الحاضرة والسابقة، أو التي قد تفرزها ظروف زمانية ومكانية مختلفة، وهو مجال دلت على مشروعيته نصوص كثيرة ومتعددة منها:
? قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أنفقوا من طيبات ما كسبتم ومما أخرجنا لكم من الأرض) “البقرة: 266”.
? قوله سبحانه: (يا أيها الذين آمنوا اركعوا واسجدوا واعبدوا ربكم وافعلوا الخير لعلكم تفلحون) “الحج: 75”.
? قوله صلى الله عليه وسلم: “إذا مات الإنسان انقطع عنه عمله إلا من ثلاثة، إلا من صدقة جارية، أو علم ينتفع به، أو ولد صالح يدعو له”، والوقف من أهم أنواع الصدقات الجارية.
الوقف والمساجد
وهو وقف يخصص ريعه للمساجد ورعايتها. والعناية بها والقائمين عليها، بناء وتجهيزاً وترميماً وتنظيفاً وتطييباً، وما يتعلق بحاجات القائمين عليها كتخصيص السكن والأجرة للإمام والمؤذن... وذلك كله مما يندرج تحت عمارة بيوت الله، قال تعالى: (إِنَّمَا يَعْمُرُ مَسَاجِدَ اللّهِ مَنْ آمَنَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَأَقَامَ الصَّلاَةَ وَآتَى الزَّكَاةَ وَلَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللّهَ فَعَسَى أُوْلَـئِكَ أَن يَكُونُواْ مِنَ الْـمُهْتَدِينَ) “التوبة، 18”، وتحقيقاً للأمر النبوي، فقد ثبت عن عائشة رضي الله عنها قالت: “أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم ببناء المساجد...، وأن تنظف وتطيب”.
الحج والعمرة.
وهو ما يوقفه الواقف مما ينتفع به ليخصص ريعه أو غلته على جهة تسيير الناس إلى الحج والعمرة؛ وذلك من خلال توفير ضروريات السفر وحاجياته، وتسهيل الزيارة الميمونة. تحقيقاً لقوله تعالى: (ولله على الناس حج البيت من استطاع إليه سبيلا).”آل عمران، 97”، ومن المعلوم أن تسيير الناس إلى الحج والعمرة مما يتقرب إلى الله تعالى به، وقد كان الناس يتسابقون ويتنافسون على هذا الصنيع، كما أنه يسهم في تنظيم وتوفير المتطلبات الأساسية لنجاح الزيارة المبرورة.
الوقف ودعم الإفتاء الشرعي:
يعني ما يوقفه الواقف لتخصيص ريعه على دعم الإفتاء الشرعي، كتأهيل العلماء والكوادر المتخصصة والقادرة على القيام بمهمة الإفتاء الشرعي تسهيلاً لتنفيذ أمر الله عباده بالسؤال، قال تعالى: (فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ بِالْبَيِّنَاتِ وَالزُّبُرِ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ) “النحل، 44”، فالله عز وجل يأمر الناس أن يسألوا العلماء، وذلك يقتضي تكوين المفتي وتأهيله، وتوفير ما يلزم لأداء المهمة على وجه طيب.
ومما يمكن أن يلحق به ببناء وإنشاء مراكز التميز في حل القضايا المعاصرة وتحرير نوازلها وتأهيل من يعملون فيها لتزويد المفتين والباحثين في الفقه والعلوم الشرعية بكافة المهارات المنهجية والتقنية والتفكيرية، خاصة أننا نعاني في عصرنا من مشكل التطفل والتنطع في الفتوى ممن ليسوا أهلاً لها.
الوقف والقرآن الكريم طباعة وتعليماً. وهو ما يوقفه الواقف ويخصص عائده أو غلته لطباعة المصحف الشريف وتوزيعه، وكذا بناء مراكز تهتم بتعليم القرآن الكريم ونشر علومه، وتوفير أجرة المحفظين، وكفالة للدارسين والعاملين، والقيام بكل ما يلزم المراكز من احتياجات ومتطلبات بشرية وتقنية. تحقيقاً للتلبس بصفة الخيرية، قال صلى الله عليه وسلم يقول: “خيركم من تعلم القرآن وعلمه”، وهو من باب قوله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ) “الحجر، 9”، كما يدل أيضاً على مشروعيته ما ورد أن الرسول صلى الله عليه وسلم: “إِنَّ مِمَّا يَلْحَقُ الْـمُؤْمِنَ مِنْ عَمَلِهِ وَحَسَنَاتِهِ بَعْدَ مَوْتِهِ.. مُصْحَفًا وَرَّثَهُ”.
د. محمد قراط