عندما يصبح المجتمع فوق الخشبة
تشكل الإمارات حالة هامة من حالات التعددية الثقافية، لذا فأي نوع من المسرح يحتاجه الإماراتيون والمقيمون في الإمارات في ظل هذه التركيبة الثقافية الغنية ليتحقق شرط المسرح بوجود الجمهور؟ المسرح بجوهره مبني على الصراع من جهة وعلى الحوار بين أطراف الصراع من جهة أخرى، وهو ينتصر بحالاته المثلى للاختلاف، لا للتوافق. المسرح انعكاس جيد لكافة حالات المجتمع... من هنا أبدأ بالقول بأن للمسرح في أبوظبي مادة غنية لن تعرف الجمود إذا تم استخدامها بالشكل الصحيح. ولكن شرط المسرح كشرط الفنون الإبداعية الأخرى الحرية، لا بد من مساحة كافية لممارسة هذا الشكل الفني بحرية. وهذه الحرية تعني بالضرورة الحرية الفكرية وما يتبعها وما يبنى عليها.
إذن المسرح يبحث فيما يبحث عن الصوت النقدي، النقيض للسائد، عن صوت من لا صوت لهم، ليبني الحوار القائم على الجدلية. فالحوار عماد المسرح، والمسرح منذ أن وجد كان ترجمة لوعي الإنسان لوجوده، الإنسان الذي أدرك أهمية مراقبة ذاته منذ القدم.
المسرح بجوهره ليس فناً أوروبياً كما هو الإدعاء، رغم أنه تطور هناك. ولم يبدأ بالواقع في اليونان وإنما بدء في شرقنا مع أول عمل مسرحي مكتوب وجد على ألواح أوغاريت بعنوان “أقهات بن دانيال”... بالطبع تطور المسرح باليونان بسبب التطور السياسي للديمقراطية (الخادعة)، ديمقراطية الرجال الأحرار. إذن في ظل غياب الديمقراطية في عالمنا العربي وسيطرة منهجية السوق والاستهلاك على مجتمعاتنا العربية كيف يمكن للمسرح أن يكون صادقاً، مشاكساً، حقيقياً وليس سلعة استهلاكية. الجواب هنا هو الذي من شأنه أن يحدد توجه مسرح أبوظبي، لأن كل التأويلات مفتوحة على مصراعيها، فإما أن يذهب المسرح باتجاه الفعل المسرحي الحقيقي وبناء برنامج من شأنه استنهاض المسرح العربي في الخليج، أو أن يتوجه إلى الاستهلاك المسرحي وهو شكل أيضاً، ولكل مساره. أما محاولة الدمج بين المسارين فهي ممكنة ولكنها مجازفة لأن الأقوى وبهذه الحالة المسرح الاستهلاكي سيسيطر وهذا لن يخلق حالة مسرحية ذات بعد وجداني وفكري قوي. أما في حال خيار المسرح كمبحث مهم للنهوض بالمجتمع، وتعزيز هويته، وشحذ إنسانيته، قد تعترضه معضلة شحّة الجمهور المسرحي...
يقول الدكتور عوني كرومي: “المسرح محطة حيث الجميع يأتون ويذهبون ولكنه يبقى المكان الأكثر إشراقاً لتلاقي الثقافات وتلاقحها”،
فلا مسرح بدون جمهور، ولن يكون جمهورا إذا كان المسرح غير قادر على تغذية حواس الجمهور وإثارته. يذهب الناس في الغالب إلى السوق لأن لديهم رغبة في اقتناء حاجيات محددة، ولكن منطق السوق يفرض نفسه على المشتري بحيث يخرج المشتري مع حاجيات لم يكن بالأساس قد خطط لشرائها.
كذلك المسرح، كيف لنا أن ندرب حواس الجمهور على أن يشتري هذا اللون الفني وأن يحس بأن لديه حاجة للخروج من بيته والذهاب إلى المسرح ودفع ثمن التذكرة مهما غلت أو بخست.
إن الفارق ما بين الجمهور في كثافته لصالح من يحضرون العروض الموسيقية على سبيل المثال، أن الموسيقى فن يخاطب الحواس بامتياز وبالأخص حاسة السمع، كما أنه سهل التنقل مع الناس وبينهم، مما يدربهم على الارتباط به. بينما المسرح يحتاج من الجمهور إلى توريط حواس أكثر من مجرد السمع كالبصر، والتذوق، والوعي الذهني من أجل الخروج بمعاني وخلاصات، وهذا بحد ذاته مرهق بالغالب للجمهور الذي ينظر إلى الفنون على أنها أداة للترفيه فقط. ويعود ذلك إلى غزو الشاشة الصغيرة والكبيرة حياة الناس بما يروض الناس على أن تستقبل فقط دون عطاء مقابل، أي دون جهد من قبل الجمهور المتلقي للمادة التي تعرض عليه. فأصبح انحسار الجمهور المسرحي خاضع لمدى تغلغل عملية ترويض الفكر العام للناس عبر وسائل الاتصال التي لا يمكن للمسرح منافستها، إلا إذا عمل على إعادة صياغة نفسه بأساليب جديدة واستفاد من الفنون الأخرى لتغذيته، أليس المسرح أبو الفنون؟ هذه مقولة في عالمنا العربي مفرغة من محتواها، ذلك أن المسرح العربي لعقود طويلة اعتمد إما على الكلمة أو على الموقف الهزلي في مخاطبة الجمهور المسرحي.
لذا لا بد من الوقوف عند هذين الفعلين المسرحيين في العالم العربي: الأول، وهو مسرح الكاتب، والذي لم يستطع أن يحافظ على الجمهور وينافس الفضائيات وإيقاع الحياة المتسارع، فملّ الجمهور من الشعارات والثقل في الطروحات ودخل الكاتب أزمة المثقف والسياسي في وطننا العربي حيث لا حرية فكرية ولا أمل في التغيير. مما أدى إلى انتقال المسرح من جعبة الكاتب إلى جعبة المخرج الذي تأرجح بين الديكتاتورية في العمل من جهة - وهذا انعكس بدوره على رغبة الممثلين في الاستمرار في هذا العالم السلطوي، والعبثية في الطرح من جهة أخرى لضمان السلامة من مقص الرقيب أو محاكمة القاضي، مما أبعد الجمهور عن الفهم، وسكت الكلام المباح وغرق المسرح العربي في النباح. فكان أن هجر العاملون في المسرح بيتهم المسرحي ملتجئين إلى الأضواء والشهرة والعيش الرغيد عبر العمل في التلفزيون، وتُرك المسرح لبعض التجارب هنا وهناك، دون رؤية واضحة لحل ما حل به، مما هذا ساهم في فقدان ثقة الجمهور بالمسرح، فإذا كان العاملون بالمسرح قد تخلوا عنه فلماذا لا يتخلى الجمهور عنه بدوره؟
إذن كيف يمكن تغيير هذه المعادلة؟
بداية لا بد من إعادة الثقة بالمسرح أولاً من قبل العاملين فيه، ثم من قبل الجمهور... هذه الثقة تحتاج إلى منهجية في بنائها لأنها لن تأتي بشكل عفوي أو سريع.
حتى نتمكن من بناء الثقة بين الفنان المسرحي والمسرح لا بد من إعادة تأهيله وفق رؤية جديدة من شأنها أن تكفل ضمان الاستمرار والاحترام والمتابعة للفنان المسرحي. لأن الفنان شرط الجمهور كما أن شرط المسرح هو الجمهور، فهذه الوحدات كل متكامل.
التدريب المسرحي إذن هام وضروري لاستدخال تقنيات حديثة على عمل الممثل، والاستفادة من الفنون الأخرى وبالأخص فنون السيرك والحركة، وتطعيم مفردات الممثل بها. كما لابد من توظيف الموسيقى والفن التشكيلي والكتابة الإبداعية الخلاقة، من أجل الخروج بأعمال من شأنها أن تأسر حواس المتفرج حتى يطلب هذا الجمهور المزيد من هذا الفن.
هنا لا بد من التنويه إلى أن ذلك بإمكانه أن يكون عبر برامج يتبناها مسرح أبوظبي من خلال العمل على تأسيس برنامج تدريبي مسرحي مفتوح – يعنى بالبحث الميداني لأشكال مسرحية عربية وأجنبية مبنية على ورش مختبرية ممنهجة وطويلة الأمد (سنتان إلى ثلاث سنوات). يلتحق بها طلبة محليون وعرب، ويقف عليها مجموعة من المخرجين العرب والأجانب من أصحاب المشاريع والرؤى المسرحية المتميزة والمتنوعة حيث سيساهم هذا في بناء فريق مسرحي قوي في أبوظبي، وجمهور مختلف ومتعدد... لأن إيجاد فريق هو الذي سيخلق استمرارية ورؤية وعلاقة تواصلية مع الجمهور، لأن تجربة الفرق المسرحية في العالم بشكل عام كانت هي الرافعة الرئيسية في أي دولة نهض فيها المسرح.
على صعيد آخر لا بد من الالتفات إلى فئات الأطفال والشباب لأن مسرح بدون تربية مسرحية منذ الصغر لا يفضي إلى تأسيس جمهور مسرحي على كبر. وذلك من خلال الالتفات إلى المسرح المدرسي وتدريب طلبة المدارس وإعدادهم ليكونوا جمهورا متذوقا للمسرح وربما ممثلين ناشئين في الحاضر ومحترفين في المستقبل.
ثالثاً النزول إلى الشارع من أجل إغراء الجمهور بالمسرح... لقد كانت ولادة المسرح في الشارع ثم ترفع عنه مع ترفع السياسة عن حياة العامة. ولكن لا بد من عودة المسرح إلى الشارع لأن هذا هو الفن الأساسي الذي يخاطب الناس بشكل مباشر وجهاً لوجه، ولن يتمكن لا التلفزيون ولا السينما من منافسته بذلك، فلا بد من مخاطبة الناس بما يهم الناس وبلغة الناس.
لذا على المسرح في أبوظبي أن يتحول إلى مشروع فني حضاري وفكري يهدف إلى مواجهة الأسئلة الحقيقية للمجتمع الإماراتي... وألا يقدم فقط أعمالا موسمية مستوردة. بل لا بد أن يكون المسرح مسرحاً وهذا يعني أن يتضمن الفكر المغلف بالتشويق والإبهار والسحر.
* ممثلة ومخرجة فلسطينية، والنص هو ورقة قدمتها في ندوة الهيئة التأسيسية العليا الأولى لمسرح أبوظبي