الكبيرة التونسي (أبوظبي)

تغنى بها الشعراء وحيكت حولها القصص، واجتمع حولها الناس في أجمل الأوقات، لا فرح من دونها، رديفة الكرم، أطيبها ما يُعد على الجمر، القليل منها يدل على الاعتزاز بالضيف، والكثير منها استعجال الرحيل، هي رفيقة العرب وسلواهم في الحل والترحال، هي القهوة ذات الحضور الوثيق في الوجدان الشعبي لدى أهل الإمارات، فقد جاء ذكرها في أمثالهم وأشعارهم، وهي أيضاً تعزز فضاء «بيت الحرفيين» بمنطقة الحصن وتكمل مشهده الثقافي والحضاري.
تتسلل رائحة البن الممزوجة بالزعفران والهيل وقطرات الورد وجوز الطيب، ناعمة من «بيت القهوة»، في المنطقة التي تمثل الوجهة التاريخية والثقافية لتستقبل زواره وعشاق الحرف العريقة الذين يقبلون يومياً للاطلاع على جانب مهم من الصناعات المحلية ولتعلمها على يد خبراء، حيث شكلت القهوة أحد العناصر الهامة في هذا الفضاء الذي يقدم تقاليد وطقوس إعداد وتقديم القهوة في مشهد متكامل.
عن «بيت القهوة» الذي يتخذ من «بيت الحرفيين» مستقراً دائماً، قالت لطيفة الشامسي، مسؤولة في برامج بيت الحرفيين، إن البيت يشكل تجربة تعليمية لزوار منطقة الحصن بشكل عام ولبيت الحرفيين بشكل خاص، مؤكدة أن الزوار المتعطشين للاطلاع على تراثنا ستتاح لهم فرصة وللأجانب لتعلم الضيافة الإماراتية على أصولها من تحميص البن وطريقة إعدادها إلى طقوس تقديمها، مشيرة إلى أن «بيت القهوة» يستقبل يومياً الزوار ويقدم لهم شرحاً وافياً عن العادات والتقاليد المرتبطة بالقهوة كأسلوب ضيافة أصيل لدى العرب.

تجربة مستمرة
من جهتها، قالت نورة الخميس من «بيت القهوة»، إن هذا الفضاء يشكل تجربة ثقافية تتضمن محاكاة نموذجية لتقاليد تحضير القهوة العربية وتقديمها للضيوف، بحيث تعد القهوة جزءاً من التقاليد الاجتماعية وتعبيراً عن كرم الضيافة، توارثته الأجيال على مدى قرون طويلة من الزمن، ولا تقتصر أهمية القهوة على الاحتفاء بالضيف وتكريمه فحسب، فهي أيضاً رمز لقوة الروابط الاجتماعية والسياسية والثقافية التي شكلت ملامح المجتمع الإماراتي، ويستكشف بيت القهوة هذه التجربة عبر تسليط الضوء على كل مرحلة في عملية تحضير القهوة، بدءاً من التحميص والتبريد والطحن، مروراً بمرحلة الغلي والتخمير وإضافة النكهات المميزة وانتهاء بطريقة التقديم. وكل مرحلة من هذه المراحل لها طريقة معينة، وأدوات تقليدية خاصة، كما تحكمها آداب اجتماعية تنفرد بها دولة الإمارات العربية المتحدة، مشيرة إلى أن تاريخ اكتشاف القهوة يعود إلى القرن العاشر الميلادي وربما قبل ذلك، حيث يعتقد أن أصولها تعود إلى إثيوبيا، ويرجع أصل تسمية قهوة الموكا المعروفة عالمياً إلى اسم ميناء المخا في اليمن. فكانت اليمن تصدر أجود أنواع حبوب القهوة إلى دول العالم حتى القرن السابع عشر، ومنها انتشرت كلمة مخا وتحولت إلى موكا، مؤكدة أن القهوة تم إدراجها ضمن القائمة التمثيلية للتراث الثقافي غير المادي للبشرية في اليونسكو، حيث حققت القهوة في ديسمبر من عام 2015 شهرة عالمية من خلال إدراجها في منظمة اليونسكو.

مسرح القهوة
يُؤثث بمجموعة من الأدوات التي تدخل في إعداد القهوة، بينما يشكل «الكوار» الذي يحمل ثلاث دلال مختلفة الأحجام المسرح الرئيسي، في المشهد الذي يحاكي المجلس الذي يستقبل يومياً مجموعات من عشاق القهوة والزوار من مختلف الجنسيات، حيث يستعرض المقهوي والراوي طقوسها من الإعداد إلى سكبها وتقديمها بحرفية عالية دون الإخلال بالتفاصيل الدقيقة في مدة لا تتجاوز 15 دقيقة، لينقلهم إلى عوالم خارج حدود هذا الفضاء المصمم بطريقة تراثية وللرجوع بهم إلى أجواء الزمن الأول، حيث كانت القهوة تعد أمام الزوار من التحميص على النار إلى سحقها وغليها، لتمتزج رائحة القهوة ومطيباتها مع رائحة السدو والخوص لتخاطب حواس الزوار، وتدعوهم لتذوق فناجين القهوة المرفوقة بالتمر عبر طقوس متأصلة في المجتمع الإماراتي.

تفاصيل بطلتها القهوة
توسط الجلسة العربية واستند إلى خبرته وبدأ في سرد تفاصيل بطلتها القهوة لمجموعة من الزوار الذين عزلهم الفضاء عن الأصوات الخارجية، تاركة المجال لصوت الراوي خميس الشحي الذي كان يشرح الدور الذي يقوم به «المقهوي» عبر مجموعة من الأدوات، حيث وضع ثلاث دلال بلون ذهبي بمختلف الأحجام على الجمر، وبدأ تحميس القهوة بأداة يطلق عليها «التاوة» أو المقلاة وهي أداة مصنوعة من الحديد تحمس بها حبوب القهوة، ويتم تقليبها بوساطة المحماس وهو أداة معدنية على شكل ملعقة ذات مقبض طويل ورفيع، في حين تستخدم المبردة لتبريد وتنظيف حبوب القهوة قبل أو بعد الحمس والتخلص من قشورها، بحيث يطلق على هذه العملية إزالة قشور حبوب القهوة بعد تحميصها لتأتي بعدها مرحلة طحن حبوب البن، وطحنها بـ«الرشاد» أو المنحاز وهو هاون ومدقة يصنعان من المعدن ويستخدمان لدق حبوب القهوة والمكونات الأخرى وطحنها، بينما يصب الماء المغلي في دلة غير التي تعد فيها القهوة، مؤكداً أن القهوة تحضر في إبريق يطلق عليه (الدلة) ومن التقاليد الإماراتية أن تكون للقهوة ثلاث (دلال) بأحجام مختلفة كبيرة ومتوسطة وصغيرة، الكبرى تسمى (خمره) والوسطى (تلقيمة) والصغرى (مزلة) ويتم طحن حبوب الهيل مع عدم المبالغة في سحقها لتضاف في المراحل الأخيرة لإضفاء المذاق المميز واللون الذهبي لتفوح رائحته تملأ المكان، وفي المرحلة الأخيرة يتم وضع قطعة من الليف في مصب الدلة ليسكبها في الفنجان صافية خالية من أي شوائب، وهي غالباً ما تصنع من لحاء النخيل وتوضع في فوهة دلة التلقيمة لتصفية القهوة عند صبها في دلة المزلة.
وقال الشحي مفسراً للجمهور أن المطيبات التي تضاف للقهوة لا تقتصر على الهيل وإنما تشتمل على الزعفران وجوز الطيب والمسمار (القرنفل) وماء الورد... وغيرها مما يناسب ذوق كل شخص وتعكس مهارة المقهوي في مزج هذه المكونات مع بعضها بعضاً بمقادير معينة لإضفاء نكهة خاصة، موضحاً أن إعداد القهوة لا يتم في دلة واحدة وإنما في ثلاث دلال: دلة الخمره: هي الوعاء الذي يستخدم في إعداد القهوة لغلي الماء ويتسع الوعاء من اثنين إلى أربعة لترات من الماء ويصنع من النحاس، دلة التلقيمة والتي تعد فيها القهوة، ودلة المزلة وهو الوعاء الذي يستخدم لتقديم القهوة.

فنجان وراحة بال
معتزاً بما يقوم به من دور في التعريف بطقوس القهوة وطريقة تقديمها، يقول الراوي خميس الشحي: «تعتبر القهوة من أشهر المشروبات تناولاً في الخليج عامة، بحيث لا يكاد يخلو بيت من حبوب البن العربي ذي النكهة المميزة»، لافتاً إلى أن القهوة العربية بمختلف مطيباتها تحضر في جميع المناسبات، وتعد رمزاً من رموز الكرم وحسن الضيافة في الإمارات، ومن حب الضيف عدم ملء الفنجان بالقهوة وذلك لإبقائه أطول مدة، مؤكداً أن أفضل القهوة ما يعد بالطريقة التقليدية على الحطب وعلى نار هادئة، وأن الشعراء هاموا بها وقالوا فيها الأبيات الجميلة، فقد كانت للقهوة مكانة في الشعر العربي، حتى كانت من أهم مواضيع دواوين الشعر العربي سواء الفصيحة أو العامية، وصار يتغنى بها الشعراء، كما أصبحت ضمن الأمثال والحكم أيضاً، ومن هنا فإننا نقدم أفضل ما قيل عن القهوة، سواء كان ذلك أشعاراً أو حكماً وأمثالاً، ومن أجمل ما قيل على لسان الأمير راكان بن فلاح الحثلين: «يامحلا الفنجال مع سيحة البال.. في مجلساً ما فيه نفساً ثقيلـه/‏ هذا ولد عم وهذا ولـد خـال.. وهذا رفيقـاً مالقينـا مثيلـه».

إرث حضاري
بعد أن فرغ المقهوي من إعداد القهوة، سكب القليل منها وارتشف رشفة صغيرة قبل أن يبدأ بصبها للزوار، وتدخل الراوي خميس الشحي وفسر هذه الحركة وقال: إن من أساسيات إعداد القهوة وتقديمها للناس الإلمام بالعادات والتقاليد في تقديمها للضيف، بحيث يتذوق المقهوي القهوة التي أعدها، ثم يمسك الفناجين باليسار والدلة باليمين، ويبدأ بتقديمها لكبير القوم الذي يجلس في صدر المجلس أو لكبير السن ومن اليمين إلى اليسار، كما أنه يسكب القهوة في الفنجان ولا يملؤه، مشيراً إلى أن القهوة عادة ما تقدم مرفوقة بالتمر، لافتاً إلى أن هذا الجيل يجب أن يكون ملماً وواعياً بأهمية هذا الإرث الحضاري.