«البيت العود» مدرسة لتعليم تقاليدنا وتجديد العلاقات الأسرية
بيت الجد أو الأب الذي يطلق عليه محلياً «البيت العود»، يعد مدرسة يتلقى فيها الجيل الجديد، التعاليم عن العادات والتقاليد الأصيلة بطريقة غير مباشرة، ويعد ذلك محاولة قوية للتمسك بقيم المجتمع، والتغلب على إفرازات المدنية، ومجاراة الشباب لوسائل الاتصال الحديثة، وهي التي أثرت كثيراً على علاقات الأسرة وتواصلها، فقد تجد داخل البيت الواحد، انعزالية تامة، وكل فرد من الأسرة، متخذاً لنفسة ركناً، يحيى من خلاله مع هاتفه الذكي وحاسوبه اللوحي. واستغل البعض الشهر الفضيل لتجسيد العلاقات، طمعا في التقارب، ومرضاة لرب العالمين الذي وعد المتزاورين بأجر كبير، حيث يعتبر رمضان فرصة، لمن اختاروا لأنفسهم في الأيام الأخرى الابتعاد عن الأهل، لإيمانهم بأن الابتعاد ربما يجعل الحياة أكثر سهولة.
موزة خميس (دبي) - من خلال البيوت العامرة باللقاءات شبه اليوميه بين أفراد الأسرة والأجيال المختلفة الأعمار، وبين الأنساب والأصهار، تبرز شكل من أشكال صور الترابط الاجتماعي الذي يعكس صورة مشرقة، لأهمية التواصل بين الأجيال المختلفة في الأسرة الواحدة، حيث يكون هناك دوما البيت العود أو البيت الكبير، الذي يبقى مفتوحاً للأبناء الذين كبروا وأسسوا أسراً، فيلتقي الجميع من خلال زيارات منتظمة، تمكن الجميع من التجمع بطريقة تعبق بالرحمة والتواصل الرائع، وتمنحهم الشعور بالرضى.
إلى ذلك قال عبيد سالم التميمي: كبر الأبناء، ومنهم من استقل بحياته، ومنهم من بقي معي، وله مكانه الخاص مع أسرته الصغيرة، ولذلك نعمل على زيادة كمية الطعام التي تعد، لأننا نتوقع أن يفطر عندنا أحد أبنائنا مع أسرته، ومن لم يحضر الإفطار نتوقع أن يأتي مع أسرته بعد صلاة التراويح، ولا تكون هذه الزيارات من أجل الطعام، فكل أسرة اليوم لديها ما يكفيها دون الحاجة لأحد، وحتى من ليس لديهم عائلاتهم يجدون والحمد لله موائد الخير في كل مكان، لكن الهدف هو صلة الرحم، وقد ذكر الصحابي أنس أبن مالك حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم عن فضل صلة الأرحام، فقال صلى الله عليه وسلم«من أحب أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أجله فليصل رحمة»
ويكمل التميمي: لا أتذكر أن يوما قد مر علي دون أن انتظر أبنائي، وربما ألوم بعضهم إن تأخر علي أياماً عدة، فيشتكي البعض من زحمة الحياة بالمتطلبات والمشاغل، حتى لا يكاد المرء أن يجد الوقت للبر، وقد أجد لهم العذر ولا ألوم أحداً، لكني أشعر أن في لقاءات رمضان أحاسيس مختلفة، لأن الجميع يرغبون في كسب الأجر والمثوبة، ولذلك فإن الجميع يأتون ويصحبون معهم أبناءهم، وتجتمع أربعة أجيال في مجلس واحد، حين يأتي أبنائي مع أبنائهم وبصحبتهم أحفادهم.
أهمية التجمع
وقال إن كان موعد الوصول قبل الغروب، فإن الزوجات يجتمعن مع بعضهن، سواء بناتي أو زوجات أبنائي، وهذا التجمع ربما يكون مدرسة للجميع، حيث إن النفسيات لا تكون متشابهة، ولذلك فإن التي تشعر براحة نفسية، والتي لا تكون مشحونة، لأنها عودت نفسها على العطاء، ربما تؤثر بشكل إيجابي من خلال تصرفاتها على بعض الزوجات أو الفتيات، خاصة من ليست لديهن الإمكانات للعطاء ولا فهم معنى التواصل مع الآخرين، فبعد كل لقاء رمضاني نجد أن هناك اختلافاً للأفضل قد حدث لبعض الأفراد.
إلى ذلك تقول صبيحة سالم: الزيارات في رمضان يجب أن يكون لها وقت في النصف الأول من الشهر الكريم، حيث يخصص يوم لزيارة الأرحام وآخر للوالدين، لأن زيارة الوالدين واجبة، ويجب أن نهرع إليهما في أي وقت ولو كان ربع ساعة أو نصف ساعة إن كان البيت قريبا، أما إن كانت الابنة أو الابن في مكان آخر، فالمطلوب أن يتصل بالوالدين يوميا، وأن يخصص لهما أياماً من رمضان، على أن تكون قبل العشر الأواخر من أجل الاعتكاف، أو قبل أن يتفرغ للعبادة بشكل أكبر.
وأضافت صبيحة: بالنسبة لي أصبحت في منزلي الخاص، وأستغل شهر رمضان لمعاودة التواصل مع الآخرين، حيث أقوم بالاتصال بمن لم يتواصل معي، فربما تمر شهور على بعض الأشخاص، يقنعون فيها أنفسهم أن مشاغلهم ومهامهم، تفوق ما لدى الآخرين، وبذلك ينقطعون عن العالم، إلا من الوظيفة وشخص محدد يختصونه بالاتصال، ومثل هؤلاء أجد متعة في أن أبدأ بالسلام عليهم، وأتمنى أن يكون عملي خالصاً لوجه لله.
التزاور
وأشارت إلى أنها خصصت أوقاتاً للأقارب أو الجيران، على أن لا يكون الوقت طويلا، حتى تستطيع أن تجدد العهد بالتلاقي والتزاور، على الأقل في ثلاثة بيوت في يوم واحد، ويكون بقية وقتها لأسرتها الصغيرة، لتوفي حقها في الزيارة وقضاء بعض الوقت معاً، كما أنها تترك باقي أيام شهر رمضان للتلاوة والصلاة تعويضاً عن تقصيرها في الأيام الأخرى.
أما حميد راشد رجل في الأربعينيات، وهو يسكن بالقرب من مجموعة من الأسر التي تربطه بها صلة الرحم، وهو يتحدث عن الزيارات الرمضانية: لدي أبناء بعضهم قد تزوج، ويسكن بالقرب من أهلي ومنهم الوالد والوالدة، وكنت أشعر بالضيق وأتذمر، لأن الوقت لا يسعفني كي أقضي لأسرتي احتياجاتها، وفي الوقت ذاته أن أقوم بزيارة الأهل، في ظل ما لدي من أعمال تجارية تعتمد عليها حياتي، لكن بمرور الوقت تعلمت خلال شهر رمضان، أن ما كنت أستطيع القيام به من زيارات للأهل، رغم قصر ساعات بقية اليوم من بعد صلاة العشاء والتراويح، ويعني لي اليوم أني أستطيع أن أستمر على ذلك في بقية أشهر السنة، مع اختلاف بسيط، وهو أن تكون الزيارة بوقت مبكر.
ويؤكد حميد أن ليالي رمضان منحته الفرصة كي يرتب الجزء الخاص بالراحة النفسية، حيث لم يكن قد تعلم أن هناك أمراً جميلاً يمكن أن يكتسبه، وهو أن الرزق بيد الله، وهو يطلب منه أن لا ينقطع عن التزاور، ولذلك ازداد إيمانه أنه لا شيء أجمل من التلاقي مع الأبوين، وانتظار بقية أفراد الأسرة، حيث نمد اكفنا إلى طبق واحد ونحن نتسامر، ونتذكر ماذا فعل كل منا من خير كي نشجع بعضنا، ونتفق على زيارة منزل أحد الحضور، أو زيارة قريب لم نره منذ مدة، وقد تأكد ألا شيء يضاهي الاستماع الى أفراد الأسرة، وتعلم معنى الترابط والمحبة، وقيمة الأسرة والجار.
ضغوط الحياة
وقال، عندما كنت منشغلا بالعمل، لم أكن أتذكر أن أقول لأبنائي ان عليهم زيارة أرحامهم، ولذلك كبروا حتى بلغوا مرحلة الزواج، وهم لا يعيرون للجار أو زيارة الأهل أهمية، فكانت حياتهم عبارة عن نوم ودراسة أو الوظيفة والخروج مع أصدقاء، وربما كانوا أصدقاء في تقصير مع أهلهم، لكن بعد التلاقي مع الأهل في شهر رمضان، لاحظت الاختلاف وشعرت بالمودة والألفة التي بين بقية إخوتي وبينهم، وبين والدي، والجو الدافئ المرح الذي بين الجميع، وقد تساءلت لماذا نحن في أسرتي مختلفون؟، وهكذا قررت أن أندمج معهم واليوم لا يمر يومان في رمضان، إلا وأنا وسط أهلي، ويأتي أبنائي للمشاركة كي يتعلموا كيف يكون التواصل، حيث إن رمضان يعتبر مفتاحاً لعلاقات جميلة تتجدد بين الأهل والجيران.
أما زوجة حميد الملقبة بأم صقر فقالت: عندما كنت صغيرة كنت أرى كثرة من يأتون لمنزلنا طوال أيام السنة، فكل يوم هناك زائر، والأغلبية هم أقارب أو من الجيران، وكنت أشعر بضيق ووعدت نفسي أن أبتعد بمجرد أن أتزوج، كي أرتاح من المجاملات ومن محاولة إرضاء الآخرين، وبعد أن تزوجت، أصبحت لا أزور بيتنا، ولا أرد على اتصالات الكثيرين ممن يحبونني، وأصبحت أجلس كثيراً بمفردي.
وقالت، في قرارة نفسي كنت أشعر بشيء من الضيق ولا أعرف السبب، حتى جاء ذلك اليوم الذي تحدث لي فيه زوجي، وأوضح لي أن ما أعيشه هو حياة فارغة، وأن الحياة الجميلة هي في أداء الواجبات تجاه من أحبونا، فهم ليسوا بحاجة لأموالنا وطعامنا، لكنهم بحاجة للفرح معنا والتواصل، ولأن رمضان كان على الأبواب في تلك السنة، فقال زوجي، ليكن فرصة لتجربة جديدة، كي أعرف لماذا لا أشعر بالراحة؟ وكثيرا ما كنت أتأفف من الملل، فرغم أن لدي أطفالاً لكني لم أكن أعرف معنى قيمة التواصل معهم.
وبعد خمسة أعوام من أسلوب اخترته لنفسي، وعشت خلالها لنفسي قررت أن أبدأ مع رمضان، فكنت أذهب مع زوجي إلى منزل أهلي يوماً ولمنزل والديه يوماً آخر، وخصصنا أياماً لأشخاص كبرنا ونحن نراهم في بيتنا، وهم أحباء الوالدين وكان التواصل جميلا، خاصة أنه في شهر الخير والرحمة، ولذلك بدأت فعلا أشعر أن لي قيمة، وأن ما أقوم به عظيما، مقارنة مع من انقطعوا عن الأهل والأحباب والجيران، والأهم من هذا أصبحت أستمع لمنجزات السيدات والفتيات، مثل جمع التبرعات العينية والمير الرمضاني والعيدية وزيارة المرضى والعجزة والتبرع لأداء واجب تجاه بعض ممن لا يستطيعون أن يؤدوا كافة الأعمال لأنفسهم.
إضاءة
قالت إحدى الزوجات إنها من خلال الزيارات الرمضانية تعلمت كيف تصنع الراحة النفسية لذاتها، وبدأت في التخطيط في كل عام وقبل رمضان، حيث إنها تجهز كل متطلبات رمضان والعيد قبل فترة طويلة، وتقضي ليالي رمضان في أمسيات جميلة تجدد المحبة، بل ربما تولد عنها محبة لشخص لم تكن قد تقربت منه، ولذلك لم تكن تعرف قيمته، لكن من خلال ليالي رمضان والتلاقي في البيت العود، أو في منزل الجد الكبير، أو في منزلها ربما تستمع لإنسان، وتتعلم منه وتقوم بالأعمال ذاتها التي جعلت منه شخصاً عظيماً.