الكبيرة التونسي (أبوظبي)

هي الستر والدفء والظل والغذاء والدواء والمرعى والوقود، أينما كانت أزهرت الأرض حولها. هي النخلة الشجرة المباركة بطلة الواحات في كل الأمكنة والأزمنة، ارتبطت بالخصب والعطاء وهي سر البقاء. حكايات ارتبطت بالنخلة من طلعها إلى عوسجها إلى جذورها، هي الملجأ في القيظ كما في المشتى. منها كل الأدوات التي تسهّل الحياة. ولَم لا وهي التي قال عنها الله في كتابه العزيز: (وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَّهَا طَلْعٌ نَّضِيد) (ق/‏‏‏10)
أسرار أخرى تكشفها بيئة الواحات بمنطقة قصر الحصن الثقافية، التي تعانق يومياً الزوار لتروي لهم قصة النخلة التي منها استمد الرجال والنساء صبرهم وسر بقائهم، ونسجوا منها حياة وفرحاً، توسطت العقد بالمنطقة المتسعة وسع تاريخها الضارب في القدم، افترشت الرمال وبسطت الحبال واستظلت بالنخلات الباسقات، وبثت الفرح في المكان عبر فرجة تمارس خلالها الطقوس المتأصلة، فسمحت للراغبين بتعلم بعض المهارات الحرفية على أيدي خبراء، وهي صناعات ارتبط بعضها بالرجال وأخرى بالنساء.

سر البقاء
عن مكانة النخلة يتحدث صانع الحابول إبراهيم بن عبدالله، فيقول: إن النخلة والماء هما أساس الواحة، مشبهاً النخلة بالأم الحانية التي لا تغضب من أبنائها مهما جفوها، نستظل بظلها ونأكل من تمرها وبها نستتر، وأكد أن صناعة «الحابول» تعد إحدى الحرف الأساسية التي تستخرج من ليف النخيل وتستعمل في ركوب النخل وقت الطلع والتنبيت، مشيراً إلى أن صناعة الحابول تمر بعدة مراحل منها أخذ الليف وترطيبه بالماء وتمييله أي فركه باليد وتطويعه لاستخراج خيوط متماسكة طويلة وقوية، ولا يتم ذلك إلا بمهارة الصانع الذي يحوّل الأجزاء الصغيرة إلى حبال طويلة تحمله إلى أعلى النخلة لقطف ثمارها. وأوضح ابن عبدالله أن الحبال المصنوعة من ليف النخلة التي تسند صاحبها وقت الحاجة، يتم جمعها فيها ولفها بخرق من القماش وضمها لبعضها البعض لصنع الحابول، الذي يمتد منه الساق وهو الحبل الطويل الذي يلف على النخلة أثناء صعودها، بينما يستند راكب النخلة على الحابول من ظهره، ويتحدد طول الحابول بعرض راكب النخلة، بينما يمتد عرضه ليشتمل على أكثر من 20 صفاً من الحبال.

ميلاد الفرح
عبدالله محمد علي الشحي اتكأ على شغفه وانهمك في تمييل ليف النخلة بمهارة، محاطاً بجريد النخل واضعاً بجانبه دلة القهوة العربية التي يرتشف منها فنجاناً دفعة واحدة ويطلب المزيد، قال إن لأرض الواحات جمالاً أخاذاً وتقاليد قارّة، تتمثل في طقوس الزواج والميلاد، ورغم التعب والحفر في الأرض لاستخراج أجمل ما في قلبها، وطلوع النخل وتطويع مواده الشائكة لتحويلها أدوات زينة وغطاء وفراشا، فإن السعادة والأمل والحب هي المشاعر التي تسود الواحات ،كانت الفتاة كما الشاب تساعد في الحقل وفي الصناعات، بعد الفراغ من شغل البيت الذي كان ضرورياً وأساسياً ومقياساً للزواج السعيد، تخرج للحقل لتشد أزر الرجل وتساعده.وأشار إلى أن سكان الواحة يتعارفون فيما بينهم، ويدركون كل تفاصيل حياة بعضهم البعض، من جهة لتحقيق معاني التكافل والتراحم والتآزر، ومن جهة أخرى لضرورة إيجاد فتيات وشبان لإقامة أسر شابة، فكان الجميع يعرف الجميع، وهناك من يسهّل الأمور ويقوم بالوسيط لجمع شمل الأسر. وأضاف:كانت «الشدادية» أو ما يطلق عليها الخطّابة في أماكن أخرى تعرف بنات جميع البيوت وتختبر صبرهن، وتراقب حركاتهن في الحقل وحتى في البيت، حيث يجب أن تجيد شؤونه من طبخ وغسل وتنظيف، وبالتالي تتوجه إلى أم الفتاة لخطبتها لشاب من القبيلة الذي يكون هو الآخر معروفاً من طرفها، وذلك بالتنسيق مع أهل الطرفين الذين يبحثون عن أزواج صالحين لأبنائهم، وفي حال تم الاتفاق والقبول يبدأ تجهيز العرسان وتعم الفرحة. وتسخّر الشدادية نفسها للمساعدة في إقامة الفرح وتستدعي نساء الواحة لخياطة ملابس العروس، حيث كان التعاون السمة الأساسية في أرض الواحة، وهن من يدققن الحناء ويصنعن البهارات وتجهز أدوات الزينة من كحل وحمرة شفاه، وهي أدوات بسيطة، لكنها كفيلة بتغيير الفتاة إلى عروس فاتنة. وتطول الاحتفالات وتطهى المأكولات على (الضو) الحطب، لتنغمس الواحة في فرح يدوم ليالي طويلة. وأكد الشحي أن المهور كانت بركة قليلة لكنها تفي بالغرض.

المقيظ والمشتى
نسجت النخلة حضارة، فقد تجمّع الناس حول المجالات المائية التي تخترق المنطقة، فساهمت بشكل أساسي في استيطان المجموعات البشرية منذ القدم، كما أنها ساهمت في تشكيل حياة خاصة تستمد من هذا الفضاء معاني حياتها، ما أنتج تراثاً طبيعياً ومجالاً متميزاً، ومشاهد طبيعية متعددة ومتنوعة، عكستها بعض الجوانب بمنطقة الحصن الثقافية. وعن ذلك تقول فاطمة سليمان إن حياة الواحة تميزت بخصوصيات مرتبطة بالنخلة والماء، فقد شكلت مقيظاً للهاربين من حرارة الصيف الحارقة، ومسكناً لهم في بيوت العريش أثناء فصل الشتاء، مؤكدة أن بيوت المشتى تختلف عن بيوت الصيف، فالأولى تتكون من جريد النخل المتراص المتماسك، بينما بيت العريش بالصيف به الفجوات بين أغصان الجريد بما يسمح بدخول الهواء والدوران في المساحة محدثاً برودة لطيفة، مؤكدة أن الواحات تميزت أيضاً بإنتاج أنواع من الزراعات مثل اللومي والهامبا (المانجو) والطماطم وأنواع من الخضراوات، والشمام واليح (البطيخ الأحمر) إلى جانب تربية (الحلال)، لافتة إلى أن هناك صناعات ارتبطت بالنساء وأخرى بالرجال، إلا أن المرأة والرجل كانا يتآزران على حرث الحقول وزرعها. وأضافت أن المرأة شكلت عصب الحياة في الواحة، هي المداوي والمجمل والمربي والراعي والخبير، استغلت فطنتها لاستخراج الأدوية من الطبيعة كما الأكل والشرب وأدوات الحياة.

نساء الصبر
تشتمل الصناعات اليدوية المرتبطة بالمرأة، كل الأدوات ذات الاستعمال المنزلي وحمّالات المفاتيح، فالنساء حوّلن خشونة سعف النخيل إلى نعومة بصبرهن، وصنعن من الخوص أعمالاً للضروريات ولم ينسين الكماليات أيضاً، ويعكس حضورهن بقصر الحصن ما كانت تقوم به أسلافهن إلى جانب الأعمال والأخرى مثل أشغال البيت، والزراعة وصناعة البهارات ودق الحناء وصناعة (الجامي). ومن الصناعات البارزة والمترابطة بالواحة صناعة الخوص التي تتميز بالإتقان والدقة، ومنتجاتها التي تعكس مهارة المرأة الإماراتية. وهي عبارة عن أدوات من أوراق سعف النخيل تجمع وتصنع باليد بطريقة تجديلة عريضة تضيق أو تتسع باختلاف الإنتاج، وتتشابك أوراق الخوص مع بعضها في التجديلة بعد أن تتحول إلى اللون الأبيض نتيجة تعرضها للشمس، ويتم تلوينه لإضفاء رونق خاص عليه، بينما تعمل العديد من الجهات على إدراجه في الديكورات العالمية. وحول هذا الموضوع تقول شيخة علي سعيد الشحي بنت الواحة إنها تعلمت صناعة الخوص لتوفير ما يحتاجه البيت من أدوات مثل السرود والمكبة والجفير والمهفة وغيرها كثير، مشيرة إلى أنها اليوم تشارك في المعارض كوسيلة للتعريف بالتراث الإماراتي ولتحقيق دخل إضافي. وأوضحت أنها تتقن جميع الحرف المنزلية المرتبطة بالواحة من دق الحناء وصناعة البهارات، ومخض اللبن واستخراج الجامي، وغيرها من المهن. وتلفت إلى أنها اليوم أقلمت حرفة الخوص مع العصر، حيث باتت تعكف على صناعة بعض التذكارات مثل الشنط العصرية، وحاملات الأقلام والهواتف وغيرها من المنتجات التي تغلف بـ«البلاستيك» لإضفاء الملمس الناعم البرّاق.

العيالة.. فن الفُرجة الأصيل
يتواصل الفرح بمنطقة الواحة بقصر الحصن، عبر فعاليات متنوعة تروي قصة الأجيال الأولى من الإماراتيين، وتدعو الزوار لاستكشاف وتجربة تقاليد حياة مجتمع أبوظبي عبر مشاهد تؤجج مشاعر الكبار، وتُوشَم في ذاكرة الصغار لتنهض بمعارفهم وتثبت جذورهم في أرضهم المعطاء. وكانت فرقة العيالة من عناوين البهجة بالمنطقة عكست احتفالات وفرح أهل هذا المجال، في الأعياد والأعراس وجميع المناسبات السعيدة. كما يستمع الزوار إلى القصص الشعبية بطريقة مسرحية تشويقية، حيث يتم إشراك الأطفال في الحكي مما يعزز القيم لديهم مثل الصدق والأمانة والخير. ويقول مصبح خلفان جمعة رئيس فرقة شباب العين، إنه يؤدي فنون تتمثل في فن العيالة وهي فنون مرتبطة بالواحة، وهي أشعار وقصائد عادة ما تدور حول الفرح تؤدى بأصوات الرجال مرفوقة بدق الطبول إلى جانب آلات أخرى. ويوكد أن الحفل يسدل الكثير من الفرح على منطقة الواحة بقصر الحصن، لافتاً إلى أن العديد من الشبان والأطفال ينخرطون في الأداء مما يحدث بهجة في المكان.