لكبيرة التونسي (أبوظبي)
دفق الماء وانكسار موجه وارتطامه بالحاجز الصخري محدثاً صوتاً هادراً، وروائح الأسماك المنبعثة من المكان الممزوجة بأصوات النهامين وأشعارهم المختلطة بالشجن والشوق والحنين، وشباك وقراقير، ورجال يتقاسمون الشاطئ ينشغلون بحياكة أدوات الصيد بمهارة وهم يسردون الحكايات، يسترجعها أولئك الذين خطبوا ود البحر فخاطبهم: أنا لكم فاغرفوا ما شاء لكم من رزقي الوفير.
تلك توليفة جعلت من البيئة البحرية بمنطقة الحصن الوجهة التاريخية والثقافية في الإمارات نقطة جذب للزوار، وأكدت أن للبحر حديثه الخاص. عكست البيئة البحرية وما تضمنته من مفردات ارتبطت بالإنسان الإماراتي منذ القدم، ما عاشه أهل الساحل في أبوظبي، مساحة شكلت جذباً لكل الأجيال والأعمار، عبر حكايات البحر والصيد والغوص واللآلئ تأبى أن تشيخ، فنون وحرف تقف شاهدة على مهارة الإنسان وصبره الذي راود البحر وأخرج مكنوناته غذاء وحلياً، تسافر بالصغار إلى عوالم الغوص والبحث عن اللؤللؤ، قصص نبتت في أعماق البحر يرويها الرجال بحب وحنين لزمن كان فيه الجسد ينهك من التعب، لكن القلب والروح تنبض بالحياة، ومنصة للعبور إلى الذكريات بالنسبة لكبار السن ومتنفساً للبوح بحكاياتهم التي ارتبطت بزمن اللؤلؤ والغوص، ذكريات تأججت لديهم بفعل مؤثرات المكان.
حراس البحر
سكنهم البحر بكل تفاصيله، مارسوا جميع المهن المرتبطة به وعاشوا كل التجارب منذ نعومة أظافرهم، خبروا أعماقه، استفادوا من خيراته، علمهم البحر كيفية تجنب غدره، هذا ما ترويه مجموعة من كبار المواطنين حراس البحر ولآلئه، والشاهدين على رحلات الغوص، عن أضواء اللؤلؤة وبوح الأمواج، عوالم المنطقة من خلال سرد حياة صيادي اللؤلؤ البسطاء، والحرف التقليدية التي امتهنوها على مدار مئات السنين، حتى بدأت في التلاشي في القرن العشرين، مع ظهور «اللؤلؤ الصناعي»، منهم أحمد محمد الحمادي الذي انهمك في فلق محارة تلو أخرى بنهم علّه يخرج لؤلؤة براقة تبهجه، عن طريقة الحصول على اللؤلؤ ومكان تواجده بالمحارة، قال الحمادي إنه مارس الغوص المتوسط والصغير الذي يقاس بعدد الأمتار في عمق البحر ومدة الرحلة، مؤكداً أن والده وأبناء عمومته كانوا غواصين مهرة يذهبون في رحلة تتجاوز أحياناً 6 أشهر، بينما كان يقوم برحلة غوص يخرج لها صباحاً ويعود مساء، ويطلق على هذا النوع من الرحلات الهلات، مشيراً إلى أن البحر يحمل العديد من أسرار الغواصين مع أطفالهم ونسائهم، كان الزوج يغيب والزوجة حامل، وقد يولد الطفل من دون حضور والده، وكانت النساء هن من يقمن بأشغال البيت وتربية الأولاد في غيابه، ورغم كل تفاصيل الحياة في تلك الفترة، فإننا كنا نعيش حياة هانئة مرتاحي البال، الجار يربي والعم بمثابة الأب، والخالة بنفس مرتبة الأم، بخلاف اليوم، الحياة صارت أسهل، لكن العلاقات الاجتماعية تراجعت، وبتنا نعيش الفراق العاطفي والوحدة.
وعن حصيلة فلق المحار في السابق واليوم أشار الحمادي: كنا نجد بكل محارة لؤلوة أو أكثر، أما اليوم فإنني وجدت واحدة بعد أن قمت بفلق أكثر من 50 محارة، ومع ذلك كنت مبتهجاً جداً بهذه النتيجة، وأضاف: هناك مواسم عدة للغوص والبحث عن اللؤلؤ، ومنها مواسم الغوص العود «الغوص الكبير»، وهو موسم الغوص الرئيس وكان يستمر لأربعة أشهر، ويقوم الغواصون بالغوص في البحر على عمق 20 متراً بهدف حصاد اللؤلؤ، وعادة ما تستغرق الغطسة الواحدة ثلاث دقائق بحد أقصى، يطفو بعدها الغواص لالتقاط أنفاسه وتسليم ما فاء به البحر، ليعاود الكرة مرة أخرى ليستمر هذا النشاط من الصباح الباكر حتى الغروب، حيث يقوم الغواص بحوالي خمسين غطسة في اليوم. وهناك موسم غوص الردة، ويقصد بالردة العودة، بمعنى العودة إلى البحر مرة أخرى بعد انتهاء موسم العود، وكان موسم غوص الردة من عشرين إلى ثلاثين يوماً.
حصاد البحر
القماشة والدانة وغيرها من الأسماء يختزنها الحمادي في «بيت اللؤلؤ» يتحدث عنها للكبير والصغير قائلاً: اللؤلؤ الصغير يطلق عليه «القماشة» بينما تسمى اللؤلؤة الكبيرة «الدانة»، وعاد بذاكرته إلى زمن الغوص قائلاً: عندما كنا نغوص في أعماق البحر نقطف المحار ونضعه في سلال ثم نطفوا إلى السطح لنسحب سلال المحار إلى البر، ثم تأتي المرحلة الثانية وهي فلق المحار للحصول على رزق اللؤلؤ الذي لا يمكن التكهن بنوعه أو حجمه من خلال المحارة الخارجية، حيث نفتحها ثم نقلب تحت اللسان أو في بطنها، لنظفر بهذا الرزق الجميل، ويوضح: عطاء المحار لا يتوقف على اللؤلؤ، وإنما نجد داخلها «الخرط» الذي يصلح للأكل بعد طهوه في الماء الساخن وغسله أكثر من أربع مرات للتخلص من الشوائب، ويتم طبخ «الخرط» مع الأرز أو على شكل صالونة ويتم تناوله إلى جانب الأرز المحمر أو الأرز الأبيض، ولم نكن في ذلك الزمن نتناول وجبة الغداء، وإنما تنحصر موائدنا على العشاء فقط.
حصاد البحر
وتعمل البيئة البحرية في قصر البحر التي صممت على شكل دائري يتوسطها البحر على تعليم الزوار على مختلف الصناعات المتعلقة بالبحر، مثل صناعات شباك الصيد، والقراقير ورمي الشباك وإعداد المالح، وتجفيف الأسماك، وفلق المحار في بيئة مفعمة بعشق وحب لا محدود للبحر الذي كان مصدر رزق لأغلب سكان إمارة أبوظبي، ترجمها سالم محمد الفلاسي الذي انشغل بصناعة القراقير وغطسها في المياه لتحظى بالرطوبة اللازمة لتطويع مادتها وسهولة العمل عليها، والفلاسي امتهن صناعة القراقير يدوياً منذ كان عمره 15 عاماً، أكد أن القراقير أحجام وأنواع عديدة، منها التي تنجز من سعف النخيل وعوسجه، ومنها ما تصنع من الأسلاك بمقاييس مختلفة، مؤكداً أنه يعمل على جميع هذه الأنواع وأضاف: إذا كان سعف النخيل والعوسج طازجاً فإننا نشرحه ونشرع مباشرة في العمل عليه، أما إذا كان يابساً فإننا نعمل على تقطيعه ثم غطسه في الماء مدة معينة حتى يلين ثم نبدأ العمل عليه، واتخذنا من هذه الصناعة حرفة عشنا منها وفتحنا منها بيوت، وحفظتنا من الحاجة، ولا زلنا نمتهنها لعرضها كإرث تراثي للأجيال الحالية، وذلك بالمشاركة في مثل هذه المهرجانات والفعاليات التي تشهد إقبالاً كبيراً من محبي هذه المهن.
السالية
يستكشف زوار البيئة البحرية بمنطقة الحصن مهارات الإبحار وصناعة القوارب والمحامل وخياطة الشباك، وعرض للأدوات التي ساعدت البحارة القدامى في الصيد ورحلات الغوص عن اللؤلؤ، قال محمد عبدالله الحمادي الذي عكف على صناعة السالية، صيد الشباك الساحي والديين وهو أداة لجمع المحار، مؤكداً أن هذه العملية تتطلب العديد من الأدوات منها خيوط القطن، وتستعمل في غزلها المبرم ويتم العمل عليها لنستخرج شكلاً هندسياً بفتحات مختلفة الأحجام تسمح بدخول السمك وحجزه بالداخل، تبدأ بـ40 عيناً وقد تنهي بـ300 عين وأكثر، وكانت السالية تتواجد في كل بيت إماراتي يتموقع على الساحل، كان الصيد وفيراً تطرح السالية لتجذبها والأسماك تملؤها، أما اليوم فاختلف نظراً لانتشار قوارب الصيد الكبيرة، ومن أنواع الأسماك التي كنا نصيدها الخباط والهامور والشعري وغيرها من الأنواع التي كنا نتقاسمها مع الجيران والأحباب والأصدقاء.
حكاية الطواش
دارت حول تجارة اللؤلؤ العديد من القصص والروايات، شغل تاجر اللؤلؤ أو ما يطلق عليه الطواش إلى جانب عمله الأساسي تاجراً للمؤن ووسيطاً بين الغواصين وأهاليهم. فالح محمد أحمد علي الحمادي أحد هؤلاء الطواشين الذي كان في السابق نوخذة ورثها عن أجداده الذين خبروا البحر وتقلباته، جلس يفتح أسرار بيع اللؤلؤ من خلال صندوق «بيت اللؤلؤ» و«حقيبة الطواش»، قال إن تجارة اللؤلؤ، تعد من أبرز الحرف المتعلقة بالبحر، موضحاً أن اللؤلؤ المستخرج من الخليج العربي أهم المصادر الرئيسية للتجارة في هذه المنطقة، وكانت عمليات بيع وشراء اللؤلؤ تتم عبر مجلس «الطواش»، وهو مكان ضيافة في البيت العربي، وفيه يتم وزن اللؤلؤ باستخدام ميزان لتقييم اللؤلؤ بمشاركة عديد من تجار اللؤلؤ خصوصاً من الهند، حيث كان يتم تصدير اللؤلؤ عبر طريق الهند إلى الغرب، وكان الطواش «تاجر اللؤلؤ» معروفاً بالذكاء والكرم والمعرفة بالعمليات الحسابية، ومن هنا يتم الاعتماد عليه في وزن وتقدير قيمة وسعر اللؤلؤ، وأضاف: كان الطواش لا يقتصر على هذا الدور، بل كان يجول البحر لشراء اللؤلؤ من النواخذة أصحاب السفن الكبيرة، ولأن هذه السفن تستغرق مدة إبحارها 6 أشهر فإن الطواش كان يقوم بتجارة من نوع آخر، كتزويد السفن بالمؤن والمياه والتمر والأدوية الشعبية التي يحتاجها الغواصون وإيصال الرسائل أيضاً.
خروفة البحر
اندفع الصغار نحو الماء والبحارة متلهفين لسماع أجمل القصص والحكايات الشعبية التي ارتبطت بالبحر، ويسردها يومياً الفنان بدر أحمد الرئيسي، ينصتون بإمعان للخراريف والمروي الشعبي، قصص مشبعة برسائل وقيم كفضل الصدقة، والصدق، وانتصار الخير على الشر والأمانة والشجاعة مستلهمة من قصص قديمة مثل قصة الفقير والصياد والنوخذة، الخادم والصياد وزوجته، يقدمها الرئيسي ممثل ومخرج مسرحي في قالب تشويقي، أن هذه الحكايات تسهم في إثراء ذاكرة الأطفال وتزرع في نفوسهم قيم الخير، ونعمل على أقلمة القصص القديمة مع واقع اليوم، لتسهيل استيعابها عبر الصوت والتعبير الجسدي، ومن واقع تجربتي أن طريقة سرد الحكايات تشد الأطفال وتحدث أثراً إيجابياً في نفوسهم وتبعدهم عن عالم التكنولوجيا الذي يعصف بأذهانهم ويسطح تفكيرهم.
سفن الشاش
مسرح مفتوح للأدوات البحرية وما ارتبط به من فنون وأدوات برعوا في صناعتها الرجال، مال الله محمد إبراهيم الحمادي أحد هؤلاء المهرة الذين برزوا في الصناعات وخاصة في صناعة سفن الشاش التقليدية القديمة التي يتميز بها رواد البحر، ويتم صناعتها عن طريق تجميع جريد النخيل جنباً إلى جنب بشكل معين، قال: إن هذه السفن لا يمكن الإبحار بها بعيداً، وهي صنعت للحاجة من النخلة المباركة، بعد جمع الجريد بطريقة معينة يتم رصه وشده بحبال ونضع اللحاء الخارجي للنخلة في قلب المركب، ثم يتم وضع طبقة من سعف النخيل في أعلى المركب لتغطي هذا اللحاء على أن تنتهي قبل حافته بمسافة تسمح الجلوس، موضحاً أن أكبر مركب يصل طوله إلى 3 أمتار حسب طول الجريد، مشيراً أن مركب الشاش يصنع الآن بغرض إحياء المظاهر التراثية القديمة وعرضها على الجمهور للتعرف على الكيفية التي كان يعيش بها الأجداد.
طرب الغاصة.. «يوم رق الليل، يا هموم بت أقاسيها»
طقوس البحر لا تكتمل إلا مع صوت النهامين، طرب ارتبط بالغاصة، مفعماً بالحب والشوق والحنين، استعان به النواخذة أيضاً بشحذ همم الغاصة ودفعهم للتنافس على استخراج أجمل ما يجود به البحر من لآلئ، فنون شكلت لوحة فنية بمنطقة الحصن جذبت جمهوراً عاشقاً للكلمة وآخر متشوقاً لمعرفة ما يصدحون من أشعار عذبة، كان لها وزن ثقيل أيام زمن الغوص، فرقة فنية افترشت الأرض توسطها الوالد ناصر حسن الكاس آل علي رئيس جمعية بن ماجد والتجديف برأس الخيمة، قال إن الفرقة تقدم للزوار الشلات البحرية التراثية التي كانت تصدح بها أصوات «الغاصة» قديماً مع رحلات الغوص، ويحاول إيصالها للجيل الجديد من الشباب الذين يجهلون هذه الموروثات، بحيث تحرص الجمعية على إبرازها في جميع المناسبات، وأضاف آل علي: إن الطرب البحري يعتبر جزءاً مهماً من فنون عالم البحر وتقاليده، لما له من تأثير على رحلات الغوص وغيرها من النشاطات التي تجري في عرض البحر، مؤكداً أن النهام يعتبر المحور والركيزة التي يقوم عليها الغناء وأداء بقية البحارة على متن السفينة، في ترديدهم لكل ما يؤديه النهام، وهو يحثهم ويشجعهم على مواصلة مشوارهم وخاصة في رحلات الغوص القديمة التي كانت تستمر لعدة أشهر، وكان هذا الفن يؤدى من دون أدوات موسيقية، وهو كلام عذب مفعم بمشاعر الوجد والشوق، في بعضه يقول النهام: «يوم رق الليل، يا هموم بت أقاسيها» وغيرها من الأشعار التي تعكس أحاسيس الغاصة وأهل السفن.