لم يعد التأليف واشتغال الكتابة والنشر هو اشتغال النخبة فقط بل وفرت الثقافة الأفقية التي منحتها وسائل الاتصالات الجديدة كشبكة الإنترنت عالما فسيحا، والعالم الافتراضي مساحة جديدة وجديرة بالاهتمام وفي متناول الجميع (أفقية الثقافة وتغذيتها من الأطراف)، بل وأصبح هنالك جيل وجد ملاذاً ومهرباً من سلطة الناشر عبر المدونات والمواقع الشخصية والمنتديات، كما يقول الإعلامي السعودي الدكتور فهد العرابي الحارثي في كتابه “الثقافة الأفقية وموت النخبة”: “لقد تهاوت تقاليد وقيم كثيرة في صناعة الثقافة وفي التعامل مع مصادرها وفي مواصفات القائمين عليها إنتاجا وتصديرا، فهي أضحت بلا حيطان فيسهل اختراقها من الأطراف، وهي لم تعد بتلك الوعورة فيساهم في خلقها وإنتاجها الجميع”، بل إن ثمة تجارب أيضا تطرح نتاجها كاملا على الشبكة العنكبوتية بتلقائية وبلا رتوش بل ويدعى الناس والقراء إلى المشاركة وإبداء الرأي. العالم إذا والثقافة على وجه الخصوص يشهد تغيرات جذرية وعميقة وعلى مستويات عدة من ناحية الصورة والخبر وتبادل المعرفة والمعلومة.. إنه كما يصفه الحارثي مجتمع ما بعد الصناعة وما بعد الحداثة، حيث انهيار الأرقام وسحقها، وحيث هندسة المعرفة والمنزل الذكي والمدن الآلية وصناعة الأخلاق، وبعبارة أخرى يمكن أن نسميه مجتمع التكنولوجيا. في الفصل الأول يوضح الحارثي ارتباط فكرة مصير العالم والفرد بما سبق، حيث أصبحت التكنولوجيا فعلا هي العامل الحاسم في تحديد مصير العالم، إن هذه التكنولوجيا فرضت أنماطا جديدة ومنظمة على المستهلك والاقتصادي والمثقف بل وجميع أنماط المجتمع وأيضاً تمكنت هذه الحداثة وما بعدها في التكنولوجي من تحدي الطغيان وأثبتت انه عصر التحرير. وتحت عنوان “غربال المعرفة” يطرح الحارثي أهمية هذه الثورة من جهة أخرى، وهي سرعة الاستجابة لها وماتفرضه علينا من تحرك تجاه فاعليتها والتفاعل معها فهي أيضا تحمل نوعا مع التحدي الجديد مع العالم خصوصا، وهي تحمل لغة العصر وتدعونا لنكون فاعلين في تكوين جزء من المجتمع المعرفي الجديد، وهذا ما يشير إليه الحارثي من جهة “ديمقراطية المعرفة” في فصل تحت عنوان “نهايات النخبوية” حيث إن المعرفة التي أتاحتها الشبكة العنكبوتية متاحة للجميع للضعفاء مثل الأقوياء وللفقراء مثل الأغنياء فهي بذلك حققت أهم ما تتوخاه الديمقراطية في مشروعها، ولذا يرى الحارثي أن أهم ما انتجته أجواء الإنترنت هو انحسار نخبوية الثقافة، ورفعت الحصانات والوصايات التي لا لزوم لها، ومن جهة الإعلام يناقش الحارثي تحت عنوان “تدفق هائل في المعلومات” من خلال استعراضه لكم المعلومة ورعادة تصدير الخبر عبر آلاف المواقع، ويكفي أن موقعا مثل “فيس بوك” ينتسب له مئات ملايين الأشخاص مثلا ليشير إلى تدفق المعلومة في إعلام غير تقليدي مما يجعل دور الأعلام اليوم أهم ويحمل معه منعطفا خطيرا، كما يشير الحارثي إلى مواقع عدة مثل “ماي سبيس” و”غوغل” إن هذا الإعلام الجديد عبر الإلكتروني يحمل تحديه للإعلام الورقي، فكثيرا ما سمعنا بسبق صحفي عبر موقع أو مدونة أو فيديو أيضا، وهذا سيزيد من دور الإعلام الورقي مثلا وتقنيته والذي اعتمد هو الآخر على هذه التكنولوجيا من خلال مواقع إعلامية لصحف وقنوات اتصال مختلفة أتاحت للقارئ أيضا أن يغير تفاعله مع المقروء من خلال التعقيبات والتعليقات وإبداء الرأي، وهذا لم توفره ثقافة الإعلام الورقي بهذا القدر من الإيجابية، بل ويحدث عبر هذه الوسائل والمتغيرات الهائلة إرهاصات لموت الكتاب التقليدي في زمن الكتاب الإلكتروني، قد لا يموت الكتاب الورقي في الوقت القريب على الأقل، لكن صار الكتاب الذي يصعب وجوده أحيانا متوافراً بنقرة زر، ومن خلال مواقع متخصصة مثل: “أمازون”، بل وأصبح الكتاب أنفسهم يروجون لمؤلفاتهم عبر الإنترنت، وأصبح الكتاب الإلكتروني منتشرا خصوصا أنه ميسر للمقتدر وغيره بدون وسائط أو علاقات مع أشخاص لهم علاقة بالنشر الورقي. إنها كما يشير الحارثي نبوءة بموت الكتاب الورقي، وليس موتا بمعنى النهاية وإنما بمعنى أن هناك بدائل أكثر راحة ويسر من حيث الوقت والمال، فموقع مثل “أمازون” يوفر الآن 90 ألف كتاب رقمي مثلا، من جهة أخرى يعود الحارثي إلى “أفقية الثقافة وتفاعل القارئ الآن” ويصف بأمثلة مما يحدث في فضاء الإنترنت إذا تقرأ بعض المدونات عبر آلاف القراء في اليوم ويتفاعل معها بالتعليقات وإبداء الرأي. ويتطرق الحارثي إلى تقنية “الجوال” ومدى إفادة الآخرين منه في نقل المعلومات ويرى مثالا بكاتبة يابانية كانت تكتب رواياتها عبر رسائل الجوال ومن ثم تنقلها إلى ورقة وقت فراغها حتى أنتجت روايتها، وهناك شريحة تتعامل مع أجهزة متطورة، لكنْ أجهزتهم أكثر تطور منهم كما يقول الحارثي. وفي فصل أخير يعبر الحارثي عن مخاوف المحافظين الذين اعتادوا على ثقافة صارمة، ويطرح سؤالا حول “بعد ردم هذه الفجوة الرقمية هل سنجد أنفسنا أقل محافظة؟ وهل سننظر إلى هذا التطور كقيمة ومن مقومات حياتنا الجديدة؟ إنه مجتمع جديد معلوماتي ومتدفق انهارت فيه الحواجز وذابت فيه الفواصل، وتفتت به الجماعات. ويدعو الحارثي مع كل ما قال عن أهمية الإنترنت وأفق الثقافة إلى مواجهة هذه الثورة وتحديها بالتعمق فيها وقراءة مستقبل الثقافة والعالم من حولنا وتفكيك ما يحدث اجتماعيا وثقافيا وأن الهروب للداخل هو ضرب من ضروب الجهل والجبن لأننا لا نحتاج إلا إلى مواجهة واعية ومنهجية ومدروسة، وأن تعقيد النظام الجديد يتطلب بدوره تبادلاً متزايداً للمعلومات بين مختلف وحداته ونظمه ومعارفه. الكتاب: الثقافة الأفقية وموت النخبة المؤلف: الدكتور فهد العرابي الحارثي الناشر: المجلة العربية