حوادث المرور شكل من أشكال الإهمال والتمرد على حقوق الله
لعلَّ أحد أهم المشاكل التي تواجه عصرنا اليوم هو كثرة الحوادث المرورية والتي تضع الدول والمجتمعات أمام الأزمات التي قد تعصف ببعض مقوماتها، وهذا يعني أن يصيب هذه المجتمعات الهشاشة والضعف والانفراط السهل، ولا ريب أن الرعونة التي قد يتسم بها المتسبب في الحادث من حيث تهاونه واللامبالته وعدم احترامه للأنظمة المرورية لتعبير واضح عن تلك الأنانية المفرطة التي قد تلازم بعض الناس.
ولكي يتم حل هذه المعضلة أو التخفيف منها على الأقل، كان لا بدّ من وجود معايير ومبادئ يرجع إليها المجتمع لتنظيم السلوك المروري للحفاظ على حقوق الناس، وتفرض وجود ضوابط تستوعب التناقضات المتداخلة والمصالح المتعارضة والمتشابكة، لأن النظام في المجتمع ليس سلوكاً غريزياً ولا تلقائياً ولكنه ينجم عن الضبط الاجتماعي ويتوقّف عليه، وهو ما يطلق على اسم (القانون).
قوانين المرور
لكن نلاحظ وجود أنظمة قانونية مرورية متقدمة ومع ذلك الحوادث تترى، وهذا يدل على وجوب النظر إلى المسألة من جهة النظر الشرعي الذي يعتبر التسيب والرعونة من الفساد والإفساد الذي يذمه ديننا الحنيف لأنه إحداث للفتنة والدمار في المجتمع، وأي فساد أكبر من القتل والإعاقة وضياع لأموال الصحة والدواء بما يمثله من هدم وتدمير وتخريب، ومن المعلوم أن الإفساد في الأرض يطلق على أنواع من الشر وقد قال الله تعالى: (وإذا تولى سعى في الأرض ليفسد فيها ويهلك الحرث والنسل والله لا يحب الفساد). وقال تعالى ناهياً عن إتيان الفساد بقوله: (وَلا تَبْغِ الْفَسَادَ فِي الأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْـمُفْسِدِينَ)، وفسر العلماء ذلك بقولهم: أي لا تعمل بالمعاصي، لأن النتيجة هي أن الله عز وجل لا يحب أعمال المفسدين، أو لا يقترب منهم، وهذه قرينة تدل على قوة وشدة تحريم من يتسبب بقتل نفسه أو قتل الآخرين أو إعاقتهم على الطرقات وما يماثله على جهة فساده وإفساده، وذلك مس لنفس شريفة ومكرمة، والله تعالى يخبرنا “عن تشريفه لبني آدم، وتكريمه إياهم، في خلقه لهم على أحسن الهيئات وأكملها، يقول الله عز وجل (وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ عَلَى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا) “الإسراء، 70”.
اعتداء
حوادث المرور ليست اعتداء على النفس الإنسانية فحسب بل هي شكل من أشكال التمرد على حقوق الله عز وجل واختياره لتكريم ابن آدم، فكأن فعل مخالفة قوانين المرور تعبير عن قدح في ربوبية الله، وهذا أمر لا شك خطير وعميق في القبح والشناعة، لأن النفس الإنسانية “أشرف النفوس الموجودة في العالم السفلي وبدنه أشرف الأجسام الموجودة في العالم السفلي”، ولهذا كان العقاب الشديد والتحذير البليغ لمن سولت له نفسه وارتكب الفعل الشنيع الذي يؤدي إلى قتل النفس، بل نجد في هذا الصدد علاقة واضحة بين الفساد والتطرف ونفس الإنسان، في قول ربنا جل سلطانه: (مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا) “المائدة، 31 - 32”، وهو قول بليغ حقا لما تتضمنه من تحذير وترهيب من الاعتداء على النفس المكرمة وترغيب وحث على حفظها وحمايتها من تعرضها لأي أذى، فإن لم يكن قتلا متعمدا فهو من باب الترويع المنهي عنه، يقول الرسول صلى الله عليه وسلم: “لا يحل لمسلم أن يروع مسلما”، (أبو داود)، وهذا مما يميز هذا الدين الحنيف الذي ينهى حتى عن مجرد التخويف والتهديد، وكيف لا يكون ديننا بهذا الامتياز والعظمة وهو قد حرم علينا الاعتداء على الحيوانات التي هي أدنى في الشرف والقيمة، فقد أخرج البخاري في صحيحه عَنْ ابْنِ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا عَنْ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: “قَالَ عُذِّبَتْ امْرَأَةٌ فِي هِرَّةٍ سَجَنَتْهَا حَتَّى مَاتَتْ فَدَخَلَتْ فِيهَا النَّارَ لَا هِيَ أَطْعَمَتْهَا وَلَا سَقَتْهَا إِذْ حَبَسَتْهَا وَلَا هِيَ تَرَكَتْهَا تَأْكُلُ مِنْ خَشَاشِ الْأَرْضِ” (البخاري).
إن الإسلام دعا بكل قوة إلى حياة صحيحة واقعية إنسانية سمحة منفتحة بنظرة متوازنة شاملة للإنسان والحياة والكون بعيداً عن الفتنة التي تسببها هذه الأفعال الشنيعة، من حيث ضرورة احترام القوانين لما في ذلك من نفع عميم على الفرد والمجتمع، قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم) “النساء، 59” ومن حيث احترام مبدأ حقوق المجتمع للعيش بسكينة وهدوء، لأن اللامبالاة وما تؤدي إليه من فوضى تفقد توازن الإنسان والحياة، وتمثل مجانبة الطريق المستقيم والقرآن يقول: (وأنَّ هذا صراطي مستقيما فاتَّبِعوه، ولا تَتَّبِعوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بكُم عن سبيله، ذلكم وَصَّاكم به لعلكم تتقون) “الأنعام 153”، كما تؤدي كثرة الحوادث إلى تحصيل عوائق للتنمية والتقدم.
د. محمد قراط
المصدر: أبوظبي