محمد المنى (أبوظبي)

لم تفتأ منطقة القرن الأفريقي مسرحاً لكوارث طبيعية وأزمات إنسانية متعاقبة. وكما ارتبط اسم هذه المنطقة بويلات الحروب الأهلية وما خلّفته من أزمات لجوء وتشرد ومجاعة، فقد اقترن بكوارث الجفاف والفيضانات وما ينتج عنها من حركات نزوح وأزمات غذائية وصحية طاحنة. وإن شكّلت الحرب الأهلية مظهراً لإخفاق الدول الوطنية في المنطقة، فإن عجز هذه الدول وافتقارها للقدرات المؤسسية والتنظيمية والتعبوية، ساهم بدوره في تعميق الآثار المأساوية لكوارث التغير المناخي في القرن الأفريقي.
ومع تصاعد حدة المخاطر وزيادة المخاوف من العواقب، يستلزم الأمر إلقاء نظرة على الكوارث البيئية والأزمات الغذائية في منطقة القرن الأفريقي خلال سنوات العقد الحالي (2010 -2019)، لبيان علاقتها بالتغير المناخي، وتسليط الضوء على موجات الفيضانات والجفاف التي تعصف بالقارة منذ سنوات، وحجم الأضرار الناجمة عنها، سعياً لتحديد مقاربات أو استراتيجيات لمعالجة آثارها.

تُطلَق تسمية القرن الأفريقي جغرافياً على المنطقة التي تشكل في شرق القارة الأفريقية شبه جزيرة ممتدة من الساحل الجنوبي للبحر الأحمر إلى الساحل الغربي لبحر العرب، مروراً بخليج عدن، والتي تبدو على الخريطة شبيهة بقرن حيوان وحيد القرن. وتضم المنطقة في الوقت الحالي أربع دول هي إثيوبيا والصومال وجيبوتي وإريتريا. وبحكم وضعها بين بحرين، ومساحتها الموزعة بين الصحاري والجبال، فهي منطقة ذات مناخ متنوع يمنحها إمكانات زراعية ورعوية عالية، لكن التغيرات المناخية كثيراً ما أفسدت المواسم الزراعية وأدت إلى نفوق المواشي في المنطقة.
وتعاني المنطقة قلة الأمطار وعدم انتظامها، حيث رصدت منظمة الأمم المتحدة ووكالاتها المختصة، على مدى العام الجاري وحده، حدوث نقص شديد في الأمطار المتهاطلة والمتوقعة على بلدان القرن الأفريقي، وحذّرت من الآثار القاسية لهذا النقص؛ كونه يعرّض ملايين السكان للمجاعة ويجبر ملايين آخرين على مغادرة مناطقهم، تماماً كما تفعل الفيضانات المتكررة في أنحاء المنطقة.

أزمة الريف
يتمتع اقتصاد إثيوبيا منذ عام 2008، بديناميكية واضحة، ويكافح نحو 41% لعبور خط الفقر. ويعتمد الاقتصاد على القطاع الزراعي الذي يمثل 43% من الناتج المحلي الإجمالي، و80% من الصادرات، كما يشغِّل 80% من القوة العاملة النشطة. لذلك فإن إثيوبيا شديدة التأثر بأي جفاف أو نقص في الأمطار. وقد تعرضت لأزمات غذائية متكررة خلال النصف الثاني من القرن العشرين وكانت كلها بسبب الجفاف، وكانت أشدها، مجاعة عام 1983 التي خلفت نحو مليون وفاة. ثم تعرضت لموجة جفاف عام 2010، تبعتها أخرى في عام 2014، لتتجدد في 2016 ثم في 2019. وقد جعل جفاف عام 2016 حوالي 10 ملايين إثيوبي في احتياج لمساعدات غذائية طارئة، وفقاً للأمم المتحدة التي أطلقت نداءً عاجلاً لجمع 1.4 مليار دولار من أجل توفير أغذية طارئة لإثيوبيا. ثم أعلنت الحكومة الإثيوبية، في مارس 2018، عن حاجتها لـ1.66 مليار دولار لتوفير مساعدات غذائية للمتضررين من الجفاف. كما أعلنت في أغسطس الماضي أن هناك 8.3 مليون شخص بحاجة لمساعدات بسبب الجفاف.
وبعد أن عرفت الأشهر الأخيرة من عام 2018 بعض التعافي المناخي، أعاد الجفاف كرّته في إثيوبيا عام 2019، معرِّضاً الاقتصاد الريفي لأزمة أصابت الغالبية السكانية التي تعيش على الزراعة وتربية المواشي.

انهيار الحزام الزراعي
أعلنت إريتريا على لسان وزير خارجيتها عثمان صالح، خلال الدورة الـ74 للجمعية العامة للأمم المتحدة (سبتمبر 2019)، أن منطقة القرن الأفريقي باتت عرضة للجفاف وعدم الانتظام في سقوط الأمطار، وأن استراتيجية أسمرة للتخفيف من آثار تغير المناخ وتحقيق الأمن الغذائي، تشمل بناء السدود وتطويع التضاريس الجبلية.
ومع ذلك فقد عانت إريتريا الجاف ونقص الأمطار منذ بداية الألفية الحالية، مما جعل الأمم المتحدة تناشد المانحين من أجل توفير الأموال لمساعدة 1.7 مليون إريتري يواجهون نقصاً في الغذاء عام 2004. وفي العام التالي، أعلن تقرير لـ«الفاو» أن خمس سنوات من الجفاف الشديد في إريتريا أدت إلى انتشار الفقر وانعدام الأمن الغذائي. وذكر التقرير أن أكثر من 60% من السكان، أي نحو 2,3 مليون نسمة، يعتمدون على المعونات الغذائية للبقاء على قيد الحياة.
وعقب الجفاف والمجاعة اللذين ضربا القرن الأفريقي بين عامي 2010 و2012، قالت منظمات دولية، إن اثنين من كل ثلاثة إريتريين يعانون الجوع. وذكر برنامج الأمم المتحدة للغذاء ووكالات إغاثة دولية أن الحزام الزراعي لإريتريا متمثلاً في إقليم «جاش باركا» يواجه مخاطر جسيمة باعتباره سلة الغذاء الرئيسية للبلاد، وأن هناك تحديات تواجه القطاع الزراعي الإريتري؛ مثل الحرارة المتزايدة، والتوزيع العشوائي للأمطار، والفقر الذي يحول دون امتلاك المزارعين للمدخلات اللازمة لزيادة محاصيلهم.

نزوح جماعي
وتعد جيبوتي إحدى أكثر دول العالم تأثراً بالتغير المناخي، نتيجةً لموقعها المطل على سواحل واسعة، وقد تعرّضت في 27 نوفمبر الماضي لسيول غمرت مناطق شاسعة منها. وجاء في بيان مشترك صادر عن حكومة جيبوتي والأمم المتحدة، أن أمطاراً غزيرة تعادل ما يسقط في عامين، هطلت على البلاد في يوم واحد، مما تسبب في أضرار لنحو ربع مليون شخص خلال أربعة أيام فقط. وحدث ذلك بعد جفاف متقطع عانته جيبوتي منذ عام 2004، أدى إلى نفوق واسع للماشية التي تعتمد عليها آلاف العوائل الجيبوتية في إنتاج الغذاء وتوليد الدخل.
وشهدت السنوات الثلاث الأخيرة من العشرية الأولى للألفية الثالثة تحسناً في الحالة المطرية لجيبوتي، مما كان له أثره الإيجابي على الوضع الغذائي للسكان. بيد أنه ابتداءً من عام 2010 أصبح القطاع الريفي في جيبوتي ضحية للجفاف، مما أدى لنزوح جماعي من المناطق الريفية إلى العاصمة، وإلى انتشار الأمراض وسوء التغذية.

ناقوس الخطر المتكرر
كان الصومال ولا يزال أكثر بلدان القرن الأفريقي تأثراً بنتائج التغير المناخي، مما زاده هشاشةً وعرّضه للأزمات، وجعله يحتل صدارة قائمة الدول الفاشلة طوال السنين الماضية. وقد شهد في مطلع التسعينيات مجاعةً واسعةً جرّاء تضافر الجفاف والحرب الأهلية على أرضه، ثم مجاعة أخرى في مستهل العشرية الثانية من القرن الحالي عندما ضرب جفاف شديد منطقة القرن الأفريقي، قبل أن يتجدد موعد آخر للصومال مع الجفاف خلال السنوات الثلاث الماضية. وتعد مجاعة عام 1992 التي ترافقت مع بداية اندلاع الحرب الأهلية في البلاد عقب سقوط نظام محمد سياد بري، إحدى أسوأ المجاعات في تاريخ القرن الأفريقي، إذ أودت بحياة حوالي 300 ألف شخص وتسببت في تشريد نحو ثلاثة ملايين صومالي، بين نازح في الداخل ولاجئ في الخارج. وأدت المجاعة الثانية بين عامي 2010 و2012 إلى وفاة 258 ألف شخص، منهم 133 ألف طفل دون سن الخامسة، وفقاً لمنظمة «الفاو» التي ذكرت أن الأزمة الغذائية أدت أيضاً إلى نزوح نحو مليون شخص.
أما الأزمة الغذائية الحالية التي يعانيها الصومال منذ عام 2017، فقد جعلت، وفقاً للأمم المتحدة، أكثر من مليوني شخص في الصومال عرضة للمجاعة، علاوة على 4 ملايين آخرين يعانون نقص الطعام أو سوء التغذية. وقد حذّرت «الفاو» في سبتمبر الماضي من أنه في غياب المساعدات الإنسانية، وبحلول نهاية العام، سيرتفع العدد الكلي للصوماليين الذين يعانون نقصاً في الطعام ويحتاجون لمساعدات عاجلة إلى 6.3 ملايين شخص، أي نحو نصف سكان البلاد.
ولعل ذلك ما دفع منسق الشؤون الإنسانية للأمم المتحدة، بيتردي كليرك، في أكتوبر الماضي، إلى المطالبة بإنقاذ ملايين الصوماليين من ويلات الجفاف عبر تقديم مساعدات عاجلة لهم. وتحدّث كليرك عن الجفاف وقال إن عدم هطول الأمطار الموسمية في عام 2018، إلى جانب الحروب والصراعات المسلحة، تسبب للمجتمع الصومالي في نتائج غير محمودة إنسانياً خلال عام 2019.

«دير» و«غو».. والأزمة الغذائية
يعتمد اقتصاد الصومال على ثروته الحيوانية الكبيرة (نحو 45 مليون رأس)، كما يعتمد سكانه في ثلث غذائهم على الزراعة المحلية. وبدوره فإن هذا المكون الريفي شديد الأهمية في حياة الصوماليين يعتمد على الأمطار التي تتهاطل في موسمين متمايزين؛ أولهما «غو» الذي يمتد من مطلع مارس إلى نهاية يونيو، وثانيهما «دير» الذي يستمر بين سبتمبر وديسمبر، حيث يتراوح المعدل السنوي للتهاطلات المطرية خلال الموسمين بين 10 و20 بوصة، لكنها انخفضت خلال الأعوام 2017 و2018 و2019 بنسبة 60%، مما سمح بالحديث عن جفاف متواصل لولا فيضاني 2018 و2019.
وقد رصد تقرير «خطة الاستجابة لتأثير الجفاف في الصومال عام 2019»، الصادر عن مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية، في يوليو الماضي، العلاقة بين الوضع الغذائي وحالة الأمطار في الصومال خلال الأعوام الأربعة الأخيرة، موضحاً أن فصل «دير» في عام 2015 كان مواتياً من ناحية معدلات هطول الأمطار خلاله، مما انعكس إيجاباً على الأحوال الزراعية والرعوية، حيث تراجعت أعداد الذين يعانون «أوضاعاً غذائية غير آمنة» إلى أقل من أربعة ملايين (3.725 مليون شخص)، والذين يعانون «أزمة غذائية» إلى ما دون المليون (930 ألف شخص)، والذين يعانون «أوضاعاً إنسانية طارئة» إلى 22 ألف شخص فقط. لكن «الأوضاع الإنسانية الطارئة» سجلت أعلى مستوى لها في موسم «غو» عام 2017 بوجود 803 آلاف شخص ضمن هذه الحالة، انخفضت أعدادهم في موسم «دير» التالي إلى 494 ألف، وواصلت انخفاضها في موسم «غو» لعام 2018 إلى 157 ألفاً، وفي موسم «دير» الذي تلاه إلى 139 ألفاً، بيد أنها عادت للارتفاع خلال موسم «غو» عام 2019 إلى 477 ألف شخص. أما الذين يعانون «أزمة غذائية» فبلغ عددهم ذروته في موسم «دير» عام 2017 حين سجلوا الرقم 2.472 مليون شخص، والذي ظل يتراجع إلى أن وصل 1.388 مليون شخص في «غو» عام 2018، قبل أن يعود للارتفاع في «غو» عام 2019، حيث أصبح 1.752 مليون شخص. وكان أكبر عدد لمن عانوا «أوضاعاً غذائية غير آمنة» في «غو» عام 2015 حيث بلغوا 3.86 مليون شخص، قبل أن ينخفض العدد إلى 2.7 مليون شخص في «دير» 2017، ثم ارتفع إلى 3.385 مليون شخص في «دير» عام 2018، قبل أن ينخفض قليلاً في «غو» عام 2019 بتسجيله 3.193 مليون شخص.

جفاف ثم فيضان.. فنزوح
وتمثل الصدمات المناخية وأنماط الطقس المتقلبة أهم عامل لأزمات الأمن الغذائي في الصومال، وذلك وفقاً لـ«الفاو» التي ذكرت في تقاريرها الأخيرة أن الحصاد الزراعي في البلاد خلال عام 2019 كان الأسوأ منذ عام 2011، في إشارة إلى الجفاف الذي ضرب البلاد في ذلك العام، والذي تلقت بعده أجزاء مهمة من الجنوب أمطار «دير» جيدة بين شهري أكتوبر وديسمبر 2012. ثم كانت الحالة المطرية في عامي 2013 و2014 شبيهة بنظيرتها في عام 2012، بينما كانت أفضل منها قليلاً مواسم عامي 2015 و2016، قبل أن يضرب الجفاف ضربته الجديدة في عام 2017، والذي لم تكفِ الأمطار الفيضانية عام 2018 لغسل آثاره. أما في النصف الأول من عام 2019، فسجلت «الفاو» نقصاً كبيراً في هطول الأمطار، وكان النقص الأشد منذ عام 1981. وكما كان موسم «دير» الأخير مخيباً للآمال، شأنه شأن موسم «غو» الذي سبقه، كما تذكر «الفاو»، فإن سبعةً من مواسم الأمطار الأخيرة في الصومال، بين عامي 2015 و2019، كانت منخفضة إلى درجة الانعدام أحياناً، كما تقول منظمة Save the Children.
لقد عانى الصومال الفيضانات كما عانى الجفاف، إذ لم يكد يتعافى من جفاف (2010 -2012) حتى ضربته في أكتوبر 2014 فيضانات كانت تأثيراتها ثقيلة اقتصادياً واجتماعياً وإنسانياً. ثم ما أن بدأ يتجاوز آثار جفافه لعام 2017، حتى تعرّض لفيضانات في نوفمبر 2018 ألحقت خسائر جسيمة بالمحاصيل الزراعية. وبعد الجفاف الذي عرفته البلاد طوال الشهور التسعة الأولى من 2019، اجتاحتها فيضانات أخرى في أكتوبر الماضي غمرت مياهُها مناطق واسعة في الأقاليم التي يمر بها نهرا «شبيلي» و«جوبا»، عقب أمطار رعدية غزيرة هطلت على المناطق المرتفعة في الصومال وإثيوبيا، حيث توجد منابع النهرين.
وقد أدت الفيضانات خلال الفترة بين عامي 2011 و2019 إلى انخفاض إجمالي إنتاج البلاد من زراعة الحبوب في المتوسط بنسبة 60% وفقاً لـ«الفاو»، مما تسبب في نقص الأغذية وارتفاع أسعارها.. كما ساهمت في حركة النزوح السكاني وما يرافقها من مجاعات وأوبئة، وفقاً لمفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين. فقد دفعت فيضانات عام 2018 حوالي 300 ألف شخص لترك بيوتهم، ثم جاءت فيضانات 2019 لتتسبب في نزوح نحو نصف مليون آخرين من ديارهم. وكحصيلة للعوامل المختلفة، من جفاف وفيضان وصراع مسلح، هناك اليوم في الصومال نحو 2.6 مليون مشرد داخل البلاد، منهم 360 ألفاً في «بيدوا» وحدها، وفقاً لمنظمة الهجرة الدولية.

تغيرات حادة
يمثل التغير المناخي تهديداً كبيراً للبيئة الطبيعية وللحياة البشرية ككل، وله مظاهره القاسية في منطقة القرن الأفريقي على الخصوص، والتي تعاني قلة الأمطار وعدم انتظامها، لاسيما خلال العقدين الأخيرين، حيث تراجعت كميتها وتقلّصت فترات تساقطها وازدادت تذبذباً، وتحولت إلى أمطار فيضانية أحياناً.. مما يشير إلى تغير مناخي حاد جعل منظمة «إنقاذ الطفولة» تقول في مايو الماضي، إن «تواتر وشدة الجفاف الحالي في الصومال لم يسبق لهما مثيل»، كما دفع مساعِدة الأمين العام للأمم المتحدة للشؤون الإنسانية، «أورسولا مويلر»، عقب زيارة قامت بها في أكتوبر 2019 للقرن الأفريقي، إلى القول إن التغير المناخي في هذه المنطقة بات حقيقة واقعية تمكن رؤيتها بالعين المجردة.
والواقع أن المنطقة وسكانها ضحايا وليسوا مساهمين رئيسيين في ظاهرة التغير المناخي التي تمثل تحولاً كونياً يعود إلى أسباب كثيرة عرضها تقرير تحت عنوان «علماء العالم ينذرون بتغير المناخ»، صادر في نوفمبر 2019، بمناسبة مرور أربعين عاماً على أول قمة حول المناخ. وقد حرره خمسة من كبار علماء البيئة، هم ويليام ريبر (من جامعة أوريغان) وكريستوفر وولف (من جامعة أوريغان) وتوماس نيوسام (من جامعة سيدني) وبويبي برنار (من جامعة كيبتاون) وويليام مومو (من جامعة تافت في ماساشوست)، ولخصوا فيه أسباب التغير المناخي في ثلاثة رئيسية: النمو الديموغرافي الهائل، التوسع المذهل في النقل الجوي، والزيادة الكبيرة في استهلاك اللحوم. ويتحدث التقرير بالأرقام عن ارتفاع نسبتي الميثان وثاني أوكسيد الكربون في الجو وعن زيادة حرارة سطح الأرض بين عامي 1980 و2018. كما يسجل 25 مقياساً ومؤشراً للتغير المناخي، منها: ذوبان جليد «جرين لاند»، وارتفاع عدد حالات الطقس المتطرف من 200 حالة عام 1980 إلى حوالي 800 حالة عام 2018، وارتفاع مستوى سطح البحر بحوالي 7.5 سنتمتر بين عامي 1993 و2018.
وفيما يخص منطقة القرن الأفريقي تحديداً، فثمة اعتقاد يتعزز لدى الخبراء المختصين بأن الاحترار العالمي يسهم بشكل رئيسي في الكوارث الطبيعية التي تشهدها هذه المنطقة، لاسيما هذا التعاقب المتكرر بين دورات الجفاف الشديد وهطول الأمطار الفيضانية. فبعد جفاف عام 2010، حلت بالمنطقة فيضانات في العام التالي، وبعد جفاف عام 2017 عرف عام 2018 فيضانات هو أيضاً. وبينما يتواصل الجفاف الحالي في المنطقة، ضربتها أمطار طوفانية في شهري أكتوبر ونوفمبر الماضيين أدت إلى تشريد أكثر من مليون شخص (200 ألف في إثيوبيا و250 ألف في جيبوتي و300 ألف في الصومال و300 ألف في كينيا).

«النينو» وانحسار الاخضرار
بيد أن آثار التغير المناخي في شرق أفريقيا، كما تقول «مريم سو سوماري» مسؤولة البرامج في «الشراكة الجديدة من أجل تنمية أفريقيا» (نيباد)، لم تظهر الآن فقط، بل بدأت تبرز منذ سبعينيات القرن الماضي عندما أخذت الغابات في الانحسار والاختفاء تدريجياً، قبل أن يؤدي تراجع الأمطار إلى تسريع تدهور الأراضي الزراعية. كما لاحظ البنك الدولي في تقرير له يعود إلى عام 2013 أن التغير المناخي مسؤول بشكل أساسي عن كوارث الجفاف والفيضانات في أفريقيا عموماً. وقد عاد البنك وحذّر في تقرير أصدره في نوفمبر الماضي من أن حوالي 100 مليون شخص، معظمهم في أفريقيا، سينحدرون نحو الفقر المدقع بحلول عام 2030، ما لم يتم التقليل من غازات الاحتباس الحراري، مشيراً إلى أن «ضعف المحاصيل الزراعية، جراء انخفاض معدلات الأمطار»، يمثل نتيجة مباشرة لذلك التغير، وإلى أن القارة الأفريقية ستكون الأكثر تضرراً.
ومعلوم أن تزايد الحرارة يؤدي إلى ارتفاع مستوى البحر، مما يزيد ملوحة التربة ويقلل إنتاجيتها، وأن العامل المسؤول عن التباين في وتيرة هطول الأمطار (بين جفاف وفيضان) في شرق أفريقيا هو القطبية الثنائية للمحيط الهادئ، أي الزيادة والنقصان في درجة حرارة سطح مياه البحر، أو ما يسمى «النينا» عندما تكون درجات حرارة سطح البحر أكثر برودة، و«النينو» عندما تكون أكثر دفئاً، كما يوضح خبراء هيئة الأرصاد الجوية الأسترالية (BOM)، والذين يقولون إن «النينو» يَحدُث حين تكون درجة حرارة الماء أعلى من المعتاد على سواحل شرق أفريقيا، مما يسبب أمطاراً غزيرة على المنطقة، وتضاؤلاً في الأمطار على السواحل الأسترالية.
ويتحدث خبراء الوكالات الدولية عن سببين رئيسيين للجفاف وتراجع معدلات الأمطار في القرن الأفريقي؛ أولهما يتعلق بالدورة المناخية للمحيطين الهادئ والهندي، وثانيهما يتمثل في انحسار الرقعة الخضراء أمام زحف التصحر، والذي جعل الاخضرار الذي كان يغطي قبل قرن نسبة 35% من مساحة إثيوبيا (على سبيل المثال)، يتراجع الآن إلى أقل من 20%.

الاستجابة العالمية
ساهمت الوكالات الأممية والمنظمات الإغاثية الإنسانية العالمية بدور كبير في دعم ضحايا كوارث منطقة القرن الأفريقي، كما قدّمت خبرةُ المنطقة للعالم أفكاراً ومعارف ومقاربات كثيرة حول إدارة التدخل الإنساني الإغاثي في ظل انهيار شامل لمنظومات الدول ومؤسساتها المركزية (حالة الصومال). لكن خمس سمات أساسية طبعت جهود آليات الاستجابة الإنسانية في القرن الأفريقي:

1- التدخل التنبؤي:  كثيراً ما تنطلق الاستجابة الإنسانية الدولية لكوارث القرن الأفريقي من توقعات استشرافية لخبراء الوكالات والمنظمات الدولية حول تحولات الطقس وتقلباته الحادة، ومن ثم تقدّر الوكالات والمنظمات حجم الغطاء المالي الضروري لمواجهة الكارثة المتوقعة، وهو ما تسميه الخبيرة البيئية «جولي أريجي»، من مركز الصليب الأحمر والهلال الأحمر المعني بالمناخ، «التمويل القائم على التنبؤ».

2- تعدد الأجهزة والمجالات: تعمل في منطقة القرن الأفريقي معظم الوكالات والأجهزة التابعة للأمم المتحدة، بما فيها الفاو، واليونيسيف، ومنظمة الصحة العالمية، ومفوضية الأمم المتحدة لشؤون اللاجئين، وبرنامج الغذاء العالمي، والبنك وصندوق النقد الدوليين، ومكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية.. علاوة على منظمات إغاثية وإنسانية أخرى كثيرة. ولذلك فإن معظم مجالات الحياة في مناطق الكوارث تتلقى تغطية ودعماً يناسبان احتياجاتها الطارئة.

3- الطابع التراكمي للعون الإغاثي: إن إلقاء نظرة على سلسلة النداءات الأممية لجمع التمويلات الإنسانية رداً على كوارث القرن الأفريقي، يعطي فكرة عن الحجم التراكمي للأموال التي أنفقها المجتمع الدولي على المنطقة؛ إذ بلغت المساعدات الإنسانية للصومال وحده، استجابةً لجفاف عام 2011 نحو 800 مليون دولار، كما قدّم له المجتمع الدولي خلال عام 2016 نحو 1.3 مليار دولار. وكانت المساعدات الأميركية للصومال خلال عامي 2017 و2018 نحو 605 ملايين دولار، والأوروبية خلال عامي 2018 و2019 نحو 366.5 مليون يورو.

4- المعالجة الشكلية: إن الاستجابة الإنسانية الدولية لأزمات القرن الأفريقي انصب غالباً على معالجة الأعراض وتخفيف التداعيات الآنية، دون إزالة الأسباب الكامنة للهشاشة. ورغم حديث المسؤولين الأمميين حول مسارات التنمية المستدامة في بلدان المنطقة، فإن تدخلاتهم في الغالب شكلية ووقتية وذات مفعول مسكن فحسب.

5- التهويل الأممي: كثيراً ما تبالغ الوكالات الأممية في توقعاتها المحذِّرة من كوارث القرن الأفريقي، فتزيد في تقديراتها حول الكلفة المالية للاستجابة الإنسانية.. وبسبب ذلك التهويل نادراً ما تلقّت هذه الوكالات أكثر من 40% من المبالغ التي تطلبها للدعم الإنساني في القرن الأفريقي.

معالجات الشرط المفقود
تبنَّت دول القرن الأفريقي استراتيجيات وطنية لمكافحة الجفاف والتغلب على آثاره الاقتصادية والاجتماعية والبيئية، وشرعت كل من إثيوبيا وإريتريا في إطلاق حملات وطنية واسعة لغرس ملايين الأشجار، بغية التصدي لزحف التصحر وسعياً لتحسين شروط الطقس الجاذبة للأمطار. لكن ما زال يتعين بذل مزيد من الجهد لمكافحة الجفاف والتصدي لتداعياته، لاسيما في الريف، والعمل على تلبية احتياجات السكان من الماء الصالح للشرب، وتزويد الأسواق بالحبوب، وإغاثة الماشية بتوفير الأعلاف والأدوية لها، وتوفير الدعم وفرص العمل لسكان العالم الريفي. ويستلزم الأمر أيضاً انتهاج سياسات زراعية حكيمة، والتصدي لمشكلات الأمن المائي، وبإنشاء بنى تحتية للتقليل من أضرار الفيضانات الموسمية.
بيد أن كل ذلك يستدعي وجود إدارة حكومية مركزية قادرة على فرض النظام وإنفاذ القانون، أي بالضرورة قيام الدولة كسلطة عمومية لها القدرة على وضع السياسات الوقائية والعلاجية وتنفيذها، وهو شرط مفتقد حالياً أقله في الصومال الذي تتكالب عليه الفيضانات والجفاف وأزمات النزوح ونقص الغذاء.