محمود إسماعيل بدر

هل تصنع الأمكنة الجامدة تاريخاً وحياةً؟ يمكن الإجابة بنعم إذا كان الحديث عن مكان يتعلق بحياة شعب وأمة ووطن.. نتحدث عن (دار الاتحاد) في إمارة دبي (قصر الضيافة سابقاً) والتابعة لهيئة دبي للثقافة والفنون، والتي كانت خير شاهد إثبات على ميلاد قرار مصيري تاريخي؛ حينما شهد المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، بعد انتخابه رئيساً للدولة، رفع علم دولة الإمارات العربية المتحدة للمرة الأولى على سارية في المكان، وهي الأعلى ارتفاعاً في سماء إمارة دبي، وذلك يوم الخميس الخامس عشر من شوال سنة 1391 هجرية الموافق للثاني من ديسمبر من عام 1971، إيذاناً بقيام دولة الوحدة وسيادة القانون، لتكون أنموذجاً فريداً في تاريخ المنطقة، وكان هذا الحدث العظيم يوماً من أيام التاريخ المسجلة بحروف من ذهب في حياة وذاكرة الأمة.
بعض المباني تكمن قيمتها في أهميتها التاريخية والتراثية التي تحكي تاريخاً عظيماً يسجل أثره وحضوره الخالد على مر الزمان، وبذلك تعيش هذه الأمكنة في وجدان الأمة وضميرها، وتكون محل فخر وإعزاز وإكبار وإعجاب، ومن هذه الأبنية «مبنى دار الاتحاد» الذي يعتبر من أهم وأغلى المباني في الدولة، حيث شهد واحداً من أهم الأحداث التاريخية في حياة الوطن ومستقبل أبنائه والقاطنين على أرضه الطيبة، وهو باقٍ كأثر واضح لتلك الوقائع التاريخية التي حدثت فيه.

دار للضيافة لكبار الزوار
شيد المبنى في عام 1965م، واستمر العمل في إنجازه ستة أشهر متواصلة، وقد كلف المغفور له بإذن الله تعالى، الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، شركة «عبد الله وجاسم بن درويش» بالإشراف على مشروع البناء وفق المواصفات التي تم تحديدها من قبل سموه. عرف في البداية باسم (قصر الضيافة)، وخصص في الجانب الجنوبي الشرقي من المنطقة المسورة على شكل حرف (U) باللغة الإنجليزية ملحق صغير مواجهاً للشارع العام عرف باسم «دار الضيافة» أو «المبيت»، ويتكون من 6 غرف نوم ومطبخ كبير ومطعم وأماكن مختلفة صممت خصيصاً لراحة ضيوف هذا الملحق.
وفي فترة لاحقة ألحقت بالمبنى مجموعة من الغرف المخصصة لرجال الأمن المكلفين بحراسته ومراقبته على مدار الساعة، وقد صممت تلك الغرف التي بنيت وفق طرز العمارة التقليدية، على شكل حرف (L) باللغة الإنجليزية، وذلك شمال دار الضيافة، حيث كان الممر الطويل ممتداً ما بين الشرق إلى الغرب، وقد استقبل مبنى قصر الضيافة عدداً من الزعماء والشخصيات والوفود الرسمية التي أقامت به خلال عقدي الستينيات والسبعينيات، ومنهم: جعفر محمد النميري الرئيس السوداني الأسبق، وكان أول ضيف عربي يستقبل في القصر، كذلك الملك خالد بن عبد العزيز آل سعود، والرئيس الفلسطيني الراحل ياسر عرفات، والشيخ عبد الله سالم الصباح، وملك الأردن الراحل الحسين بن طلال، وعبد الخالق حسونة الأمين العام الأسبق لجامعة الدول العربية، والراحل الشيخ عيسى بن سلمان آل خليفة، وغيرهم كثيرون.

مركز الحدث
المبنى الدائري المطل ببهاء على ضفاف مياه الخليج العربي هو مركز الحدث، وشهد توقيع اتفاقية إعلان الاتحاد. يتكون المبنى المستدير استدارة كاملة في تصميم فريد من نوعه من جزأين متداخلين يحيط أحدهما بالآخر، ويقوم المبنى على أعمدة خرسانية أسطوانية الشكل ومشيد بالكامل من حيث الواجهات بالزجاج والألمنيوم، باستثناء الجزء العلوي «السقف» والسفلي منه «الأرضية» فقد شيدا بالمواد الإنشائية الحديثة، ويتم دخول الزائرين والضيوف إليه من مدخلين كبيرين أحدهما يقع في الجهة الشمالية والآخر يقع في الجهة الجنوبية، وتتقدمهما وحدات عريضة من الدرجات الرخامية زاهية الألوان.
أما المبنى من الداخل؛ ففيه ممشى طويل مستدير باستدارة المكان، ولك أن تلاحظ عند زيارتك لهذا المكان البديع تصميماً ومعنى ودلالاتٍ تاريخيةً، وجود مخرج صغير من الجهة الجنوبية الغربية منه، وصولاً إلى درج منحرف يوصل إلى سطح المبنى الذي يحيطه سور من القضبان المعدنية القصيرة، وكان الشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، قد وجّه بإنشاء هذا الدرج الموصل إلى السطح لإقامة الصلوات في أوقاتها، أما بالنسبة للسقف فقد علقت به مجموعة ثمينة من الفوانيس الكبيرة لأغراض الإنارة الكهربائية، وأما الجزء الآخر من المبنى فإنه يختلف كثيراً من حيث مواد الإنشاء المستخدمة وهندسة الإنشاء، وله مدخل واحد فقط يقع في الجهة الجنوبية، وقد علقت في منتصف السقف «ثريا» كبيرة الحجم محاطة بمجموعة من المراوح الكهربائية. ومن أهم ما يحتويه هذا المبنى مجموعة الصور الفريدة بالأبيض والأسود والتي توضح خطوات توقيع اتفاقية الاتحاد وسط حضور عدد كبير من المسؤولين وكبار رجال الدولة والشيوخ ورجال الإعلام العرب والأجانب، وهذه الصور بالطبع تحكي تاريخ هذا المشروع الوحدوي الذي ما زال مثار إعجاب العالم حتى اليوم.
الجولة في المكان الذي كتبت على مدخله الآية الكريمة التالية: ((وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلَا تَفَرَّقُوا وَاذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا)) (آل عمران، آية 103) تكشف عن العديد من الإنجازات البنائية التي تحيط الآن بدار الاتحاد، حيث هناك العديد من المشاريع والطموحات المستقبلية، ومنها إنشاء مبنى الإدارة العامة عام 2004، لمهمة استقبال الوفود الزائرة وتقديم المعلومات اللازمة عن هذا الحدث الوطني الكبير، ويتكون المبنى ذي الواجهة التراثية، من مجموعة من المكاتب الإدارية وغرفة عرض للمعلومات والصور الخاصة بالاتحاد.
كان قصر الضيافة بمثابة المجلس الخاص بالشيخ راشد بن سعيد آل مكتوم، طيب الله ثراه، وفيه استقبل القائد المؤسس الشيخ زايد، ودار بينهما حديث مستفيض حول الإعداد لمشروع الاتحاد وخطوات توقيع الاتفاقية في جو ساده المحبة والإخاء والتضامن، ومنه انتقلا إلى المبنى الدائري، حيث تم هناك توقيع الاتفاقية والإعلان عن زايد رئيساً، وراشد نائباً للرئيس، وتعيين الشيخ مكتوم بن راشد، رئيساً لمجلس الوزراء الاتحادي، وتم تأدية اليمين الدستورية ونصها:
(أقسم بالله العظيم أن أكون مخلصاً للإمارات العربية المتحدة، وأن أحترم دستورها وقوانينها، وأن أرعى مصالح شعب الاتحاد، وأن أؤدي واجبي بأمانة وإخلاص، وأحافظ على استقلال الاتحاد وسلامة أراضيه).

السارية تمثل الإمارات السبع
كانت لحظة تاريخية تلك التي رفع فيها العلم الاتحادي ليرفرف للمرة الأولى على سارية، هي اليوم محط أنظار الزائرين كافة للمكان، نظراً لأهميتها وتصميمها الجميل الذي يحمل معاني عدة.. وهذه السارية تمثل متعة بصرية حقيقية، وتعكس روحاً هندسية دقيقة ومتفائلة في الوقت ذاته، ففي ارتفاعها الملحوظ نظرة مستقبلية طموحة، وفي استدارتها وتفريعاتها جماليات واثقة، كما أنها تحمل في ثنياتها شريطاً من الذكريات الحافلة بالطموحات، وقد صممت السارية بطريقة تشي بالكثير من المعاني المرتبطة بمشروع الاتحاد وتعبر عنه من خلال الزخارف والإنشاءات البنائية الصغيرة، مثل الأيدي السبعة التي تمتد من العمود الأصلي في فراغ يحيط بالسارية، وأخذت ألواناً مميزة عن اللون الأصلي للسارية، وهي تمثل الإمارات السبع أبوظبي ودبي والشارقة والفجيرة وعجمان وأم القيوين ورأس الخيمة، وتتناغم هذه الأيدي في حركة ثابتة وكأنها تتعانق وتتعاهد على المضي في حماية مكتسبات وطموحات وإنجازات الاتحاد، ومن الأيادي السبع إلى يدين اثنتين متقابلتين في مصافحة حميمية وهما تمثلان أيادي الراحلين الكبيرين: الشيخ زايد والشيخ راشد، وفي هذا البهاء البديع كله تبدو من أعلى الأيادي (مصادفة بلورية) تحتضن سبع (دانات) أو (لؤلؤات) تتزين ليلاً بإضاءة ملونة رائعة وكأنها عروس تطل من شرفتها على ماضي وحاضر ومستقبل المنطقة الزاهي، والدانات هذه تمثل أيضاً الإمارات السبع، لتكتمل بذلك حلقة من التصميمات الصغيرة الرائعة المبهرة للعين من كافة زوايا الرؤية.

المبنى.. متحفاً
ولأن طموحات المشرفين على البناء مستقبلية وكبيرة، جرى تحديث البناء المستدير وكافة المباني المحيطة به، وتحول إلى متحف وطني خاص بالاتحاد يضم كافة الوثائق الأصلية والمواد الأرشيفية الخاصة بتوقيع الاتفاقية إلى جانب المزيد من الصور النادرة، معززاً ذلك بإصدار العديد من الكتب والأفلام الوثائقية والنشرات باللغتين العربية والإنجليزية لتقديمها للزائرين والضيوف الرسميين وطلبة المدارس والجامعات لتعريفهم بصورة علمية واضحة بمسيرة الاتحاد الظافرة وإنجازاتها ونتائجها ومكتسباتها منذ انطلاقتها الأولى وحتى يومنا هذا. ويحفل المتحف بالمعرفة والمعلومات التي من شأنها أن تيسر للباحثين ووسائل الإعلام كافة متطلبات الكتابة والإنتاج حول هذا الحدث التاريخي المهم.. هناك في الواقع سعي نبيل وموثوق إلى ربط المواطن بالمكان وتاريخه وأحداثه، لا سيما أبناء الجيل الجديد، لاطلاعهم على أحداث لم يعايشوها ودمجهم بمشروع الاتحاد وبالوطن بشكل خاص.
ومن المهم الإشارة إلى أن مبنى دار الاتحاد هو مكان مختلف في بنائه وحيثياته، حيث يجمع في جنباته الكثير من الأشياء اللافتة للنظر، فهو محاط بشبكة من الطرق والمواصلات التي تؤدي إليه من أكثر من جهة لتسهيل مهمة الزائرين إليه، بالإضافة إلى مواقف السيارات والعديد من القصور الفخمة التي تحيط به، كذلك فهو محفوف بجملة من الحدائق وأشجار الزينة، بينما ترتفع من فوق أطرافه مجموعة كبيرة من أعلام الدولة وأعلام ملونة، ليشكل المنظر في جملته تحفه تراثية تاريخية تستحق الوقوف عندها وتأملها واسترجاع ما حفل به المكان من أحداث ومواقف تاريخية ما زالت مخزنة في الذاكرة الجمعية.

عطور زايد في المتحف
كشف متحف الاتحاد في 05 يونيو 2018 عن ثلاثة عطور من بين العطور الشخصية التي كان يستخدمها المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وذلك في المعرض الذي افتتح ضمن فعاليات نظمتها هيئة دبي للثقافة والفنون، احتفالاً بيوم زايد الإنساني. وهي مجموعة من القوارير الخاصة بالعطور والتي لم تصنع إلا مرة واحدة، وتتميز بكونها ثمينة ونادرة جداً. وهذه العطور هي: «الزعفران الأبيض» وهو عبارة من مزيج من الزعفران والزهور، أما العطر الثاني فيدعى «أميرة الليل» وهو مزيج من دهن العود والياسمين ومجموعة أخرى من الزهور، بينما العطر الثالث مكون من العود بشكل أساسي.