نسرين درزي (أبوظبي)

من الباب العريض يدخل التاريخ مع كل زائر تطأ قدماه أرض قصر الحصن الشامخ في قلب العاصمة ببنيانه الطيني الأبيض. والصرح الأسطورة الممتد أكثر من 255 عاماً إلى الوراء يتألق مع الزمن بروايات الأولين رافضاً أن يشيخ، وكأنه يؤكد مع تعاقب الحقبات أن الولاء متشبث فيه كما الأصالة المتوارثة في وجدان شعبه جيلاً بعد جيل. وفضلاً عن الفعاليات الوطنية التي يستضيفها على مدار العام، يشكل «القصر» بهيئته الأثرية وقناطره والممرات والمشهدية البكر الساكنة فيه، وجهة أساسية بين المواقع الدامغة على قائمة أهم المعالم العمرانية وأعرقها في الدولة. ويجسد قصر الحصن حقيقة أبوظبي في الدلالة على التوحيد بين الناس ونمو الجزيرة، لتصبح إمارة تواكب تطورات العصر مع ارتباطها بالجذور.
مع الاهتمام المتزايد بتعزيز دوره التاريخي كأقدم مبنى في مدينة أبوظبي، تكرس قصر الحصن وجهة ثقافية سياحية جامعة تفاخر بالكشف عن تفاصيل المجتمع المحلي. والجولة فيه لا تشبه أي جولة أخرى، إذ تمنح المحتفين به مع كل خطوة يخطونها مفهوماً مغايراً يفتح الشهية للاستكشاف، ويشبع الفضول لزيارة البدايات.

بالصوت والصورة
وهنا يسكن شعور بالوقار ينبع من الرهبة التي تنشرها خيوط الماضي على سعة الساحات المحيطة بالمقر الأول. وإلى مئات ناطحات السحاب والأبراج المبهرة على امتداد إمارات الدولة، يتعرف زوار «القصر» المتجولين بين غرفه العريقة وقاعاته صعوداً ونزولاً، إلى أمجاد أبوظبي بالصوت والصورة والحس المرهف. ويقلبون بنقرة واحدة ألبومات صور حية تبث في أكثر من مكان بأحدث التقنيات العصرية وتخبر الشغوفين كيف تصنع الحضارات وكيف تبنى الأوطان وتُروى الإنجازات.

أحجار مرجانية
زوار من مختلف الجنسيات يتوافدون إلى «الحصن»، وفي جعبتهم القليل مما سمعوه عن دوره المفصلي في نسج تاريخ الإمارة، ليضيفوا إلى معلوماتهم المزيد عن قصر شيد منذ نشأته ليكون أيقونة ولا يزال. وأولى الحكايات تمتد إلى القرن الثامن عشر عندما ظهرت المياه العذبة في جزيرة أبوظبي وكان لا بد من تشييد برج لمراقبة المكان الذي سرعان ما تحول إلى حصن منيع وأصبح فيما بعد مقراً لإقامة أسرة آل نهيان الحاكمة. والتفصيل المثير والذي اعتبر سابقة في ذلك العصر، أن المواد المستعملة لبناء قصر الحصن كانت من الأحجار المرجانية والبحرية. وفي حينه لم يكن من السهل اعتماد طلاء مناسب للظروف المناخية، حيث وقع الاختيار على خليط من الكلس والرمال والأصداف المطحونة. أما الأرضيات التي لا يزال جزء كبير منها على حاله، فمغطاة بخشب أشجار القرم وكذلك الأسقف المصممة بأسلوب لافت لدقة البناء التقليدي. وكلها أدوات جمالية تحولت مع الوقت إلى معجم أساسي لفنون العمارة الأصيلة. وهذه الأحداث الثابتة التي تروى أمام زوار القصر تفاخر به كأول مبنى يشيّد في إمارة أبوظبي، وبالدور البارز الذي لعبه كدليل للتجار المقبلين على المدينة من مختلف أنحاء المنطقة.

روايات دسمة
وبمزيد من الحرص على الموروث بكامل أبجدياته، يظهر قصر الحصن من خلال رواياته الدسمة المؤرخة بصور الأبيض والأسود كيف تحول محيطه إلى ما يشبه قرية صغيرة تنتشر حولها الأكواخ المصنوعة من سعف النخيل. وتكشف قصص الماضي كيف تراجعت تجارة اللؤلؤ في المنطقة وحان وقت التنقيب عن النفط والذي ترافق مع أعمال التوسعة التي شملت مختلف أجزاء القصر مع خمسينيات القرن التاسع عشر. وكانت المحطة الأبرز في التاريخ الحديث بداية الثمانينيات، حين قرر المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، مؤسس الدولة، أن يتم إجراء أعمال تجديد شاملة على مبنى قصر الحصن، ليحوله من مقر إقامة للأسرة الحاكمة إلى متحف ومعرض للكثير من القطع والمجموعات الأثرية التي ترتبط بتاريخ أبوظبي ومنطقة الخليج. ومن المحطات البارزة التي يتعرف إليها زائر قصر الحصن المتتبع لملاحم أبوظبي وإنجازاتها أن المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان أمر في أواخر الستينيات ببناء مقر المجلس الاستشاري الوطني خارج جدران القصر. وقد شهد هذا المقر انعقاد الاجتماعات التي ناقشت اتحاد الدولة عام 1971.

منزل ومبانٍ
خلال فترة حكم المغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان تم تجديد مبانٍ عدة داخل الحصن، بدءاً من عام 1966 عندما تم تحويل أحد المنازل ليصبح مكتبه الخاص. واستعمل عام 1968 منزلاً آخر لحفظ المعلومات، يعرف اليوم بالمركز الوطني للوثائق والبحوث. ومع استكمال أعمال الترميم الأخيرة عام 1980، شغل المركز كل الغرف والأقسام التي يتكون منها «القصر».

سرد التغيرات
يكشف قصر الحصن تاريخ أبوظبي من خلال معارض دائمة تسرد التغييرات الجذرية التي لحقت بالمدينة منذ أكثر من 255 عاماً والنمو الذي طال المجتمع الصغير القائم على أنشطة الصيد ليصبح اليوم نموذجاً عصرياً للمدينة العالمية. ويتلمس الزوار في أروقة المعرض الروابط التي تركت آثارها على الأجيال المتعاقبة منذ بدايات قصة قصر الحصن كأول مبنى حجري مستمر في جزيرة أبوظبي منذ كان قصر الحاكم والشاهد على نشأة المدينة وتطورها، ورمزاً لقوتها وشموخها.

بناء وأشياء أخرى
تحرص الوفود السياحية الزائرة لقصر الحصن على تأمل التصاميم الأثرية والأدوات المعيشية لمجتمع أبوظبي، والتي تظهر من خلال معارض توثيق التطور المعماري والحضاري للدولة على مدار قرنين ونصف قرن، بما فيها من تغييرات لا تزال بذورها راسخة في الأذهان. وتتمثل في البناء والشعر وفنون الحياكة بالخوص والتلي والمشغولات المستوحاة من التراث، وتعكس لوحات من الفلكلور أكثر ما تتجلى في العروض الشعبية ورقصات اليولة والعيالة.

بيئة صحراوية
يمزج قصر الحصن بما يمثله كمعلم تاريخي أساسي في ذاكرة الوطن بين الماضي والحاضر في توليفة تضيء على القيمة الحقيقية للموروث الشعبي الذي تثمنه الأجيال. وتكشف أجنحة القصر ووحداته الداخلية والخارجية طبيعة الحياة قديماً عندما كان الأجداد يمارسون حرفهم التقليدية في مواجهة تحديات البيئة الصحراوية.