في قراءة لمدى وصول أدبنا العربيّ إلى «العالميّة»، ومدى إحساسنا أو ثقتنا بأنّ لنا إسهاماً ما في الأدب الإنسانيّ، يقف «الاتحاد الثقافي» على آراء عدد من الكُتّاب والأكاديميين والأدباء، في مكاشفة صريحة حول حضور المؤسسة العربيّة في ترجمتنا إلى الآخر، فكراً وإبداعاً في السّرد والشعر، وخطابنا الثقافيّ الذي نظلّ مغرمين بأن ننقله إلى غيرنا، ربما بدافع سيكولوجي يشعرنا بالنديّة في مضمارٍ كانت اللغة العربيّة سبّاقةً فيه خلال عصورها الزاهرة، مثلما يشعرنا بقوّة المشروع العربيّ لأن يظلّ حاضراً في الثقافات الإنسانيّة.
غير أنّ لذلك شروطاً، في الطليعة منها «الترجمة»، التي يبدو أنّها لا تزال قاصرةً عن الوفاء بالتزامات هذا الطموح، في حين أنّ بصيصاً من نور يدفعنا لأن نحترم دور مشوار دول مجلس التعاون الخليجيّ في نقل تراثنا إلى اللغات الحيّة، ومن خلال المبادرات الفاعلة التي احتضنت كثيراً من الإبداعات العربيّة وأوصلتها إلى العالم.
من جهةٍ أخرى، يبدو أنّ ثقافةً جديدة ربما تخلط الأمور، كأدواتٍ للمعرفة وكوسيط للتفاعل مع العالم، تحملها وسائط «السوشيال ميديا»، التي لا تخلو من محتوى كبير غير منظّم ويتّسم بالتسطيح والبساطة والارتجاليّة، وجميعها أمورٌ لا تغني عن المشروع الجاد في الترجمة الجادّة التي تظهر أحقيّتنا، نحن العرب، في التشاركيّة أو النديّة مع هذا العالم.
هل يمكن أن نضع في اعتبارنا أهميّة الترجمة إلى لغات حيّة غير اللغة الإنجليزيّة؛ فنفطن إلى ثقافات دول وشعوب، مثل اليابان والصين؟!.. وما هو حال لغتنا العربيّة لدى «الآخر»؟! خصوصاً أنّ «اليونانيّة» التي كانت يوماً ما أُمّاً لمعارف وعلوم وإبداعات كثيرة، ربما لم تعد كذلك اليوم،.. هل نعاني تسويق المحتوى الأدبيّ العربيّ المترجم؟!.. وهل استفدنا من الومضة الإبداعيّة لأدباء المهجر ومشعل التجديد وإسهامات نجيب محفوظ وطه حسين، نحو مشروع عربيّ حضاري يجعلنا نعتزّ به ونسعى إلى تأطيره لدى شعوب العالم؟!.. وهل صحيحٌ أنّ الكاتب العربيّ، طالما يكتب بلغته الأمّ، سيظلّ بعيداً عن الانتشار العالميّ؟!.. وهل اتصال أدبنا الحديث بماضيه يمكن أن يقف سدّاً أمام طموح الانتشار العالمي؟!.. كلّ ذلك ومواضيع متّصلة هي تساؤلات راهنة جديرة بالنقاش، عبر هذه الآراء.
ترى الروائيّة اللبنانيّة المقيمة في بريطانيا مريم مشتاوي أنّ الأدب العربيّ قدّم الكثير، وأن الإجابة عن سؤال «ماذا قدّم الأدب العربيّ للإنسانيّة؟!» سؤالٌ ربّما يحتاج منّا إلى أطروحة دكتوراه؛ مؤكّدةً أننا، نحن العرب، قدّمنا أعمالاً جليلةً ومهمّةً للعالم، في الرواية والشِّعر والنثر، وأنّ لنا أن نفتخر بهذا. وتدلل الأديبة مشتاوي بأحدث إنجازاتنا في هذا المجال، وهو فوز رواية المبدعة العُمانيّة جوخة الحارثي والمعنونة بـ«سيّدات القمر» منذ أشهر بجائزة البوكر البريطانيّة «إنترناشيونال مان بوكر»، وهي جائزة لها قيمتها المرموقة، فأن تصل رواية عربيّة إلى هذه الجائزة، بل وتفوز بها، هو أمرٌ يجعلنا نثق بما لدينا؛ خصوصاً والرواية تتحدّث عن مرحلة مهمّة من تاريخ سلطنة عُمان. وتضيف الأديبة مشتاوي بأنّ أعمالاً أدبيّةً كثيرةً وصلت إلى العالميّة بجوائز عالميّة، وتمّت ترجمتها إلى اللغة الإنجليزية.
وللكاتب والروائي مشعل حمد، من الكويت، رأيٌ يؤكّد فيه أننا بالفعل وصلنا إلى العالميّة، وأنّ دور النشر الخليجيّة والعربيّة وصلت بهذا الأدب إلى هذا الحيّز الإنسانيّ، مدللاً بأحدث معارض الكتاب العربي، وهو معرض الشارقة الدولي للكتاب، مع أننا- كما يقول شعوب عربيّة نعاني من الكسل؛ فلا نسعى إلى ترجمة إصداراتنا وكتبنا إلى اللغات الأخرى، أو الوصول بها إلى المسابقات الدوليّة.
وفي السياق، يعرب الروائي حمد عن أسفه لموضوع يراه مؤرّقاً، وهو أنّ أدبنا العربيّ يواجه حرباً كبيرةً من خلال «السوشيال ميديا»، في «فيس بوك» أو «تويتر» أو «انستغرام»؛ موضّحاً أنّ الجيل الجديد إنّما يتّجه نحو هذه الوسائط بديلاً عن الكتاب، وباعتبارها فضاءً مفتوحاً من المعلومات والأخبار المتدفقة واللانهائيّة، فهي تدخلنا في تشعّباتها وتداخلاتها ومتاهاتها، كونها وسيلةً للتواصل وللمعرفة أيضاً؛ إذ قد نجد فيها ملمحاً ثقافيّاً وعلميّاً وفنيّاً، غير أنّها- كما يرى- ثقافة تتسم بالسطحيّة و«الدغمائيّة»، فلا تتحرّى الدّقة أو تتسم بالحياد في كثيرٍ من الأحيان.
مشاريع الخليج الرائدة
من جهتها، تشيد الناقدة والأكاديميّة د. ضياء عبدالله خميس الكعبي، من البحرين، بدول مجلس التعاون الخليجي، التي احتضنت، ولا تزال تحتضن، المبدعين العرب في المؤتمرات والمهرجانات والمشاريع الثقافيّة التأسيسيّة القائمة على الشراكة، وتوضّح الكعبي أنّه ومنذ عقود، اشتغلت دول الخليج العربي على صناعة الثقافية في مجال التأسيس، فكان المحيط العربيّ حاضراً دائماً في تلك المشاريع الثقافية الكبرى؛ ولذلك نستطيع القول وبقوّة إنّ دول الخليج العربي هي مراكز ثقافيّة كبرى وفاعلة على المستوى العربيّ.
وللروائيّة الكعبي رأيٌ مغاير في موضوع الأدب العربيّ وخطابه العالميّ؛ إذ ترى أنّ أدبنا العربيّ، وبما يحمله من سماتٍ تميّزه وبما يمتلك من خصوصيّة تعبّر عن شعوب تحمل ثقافةً وتراثاً عرِيقيْن، فإنّ ذلك معناه أننا يجب ألا يكون جُلّ همّنا منصبّاً على مخاطبة الغرب، المتمثّل في الولايات المتحدة وبريطانيا، عبر اللغة الإنجليزية؛ فلا بدّ من الانتباه إلى أهميّة اللغات والثقافات الأُخرى، والتي تكاد تكون أكثر قراءة، كاليابانيّة والصينيّة والكوريّة، والشرق الأقصى بصورةٍ عامّة.
وتلفت الكعبي إلى أنّ هناك أزمةً حقيقيّةً يواجهها الأدب العربيّ؛ نتيجة عدم وجود مؤسسات قويّة ضخمة مشتركة، تعمل بشكل «مؤسساتي جماعي» يمثّل الدول العربيّة كافّة، لكي يصل نتاجنا الثقافيّ بالشكلّ المخطط إلى الآخر، علماً بأنّ الأزمة لا تقف عند حدّ الترجمة ونقل الأدب إلى لغةٍ أخرى، بقدر معرفة فنون التسويق وكيفيّة وصول الأدب المترجم إلى المتلقي والقارئ الأجنبي، بمختلف جنسياته ولغاته، معترفةً بوجود أزمة في تسويق الأدب العربيّ المترجم.
التجديد الأدبي
د.لانا بدر الدين، من لبنان، ترى أنّ الحركة الأدبيّة العربيّة تسمو بالمزيد من النضج والإبداع المنبثق من التجديد، مدللةً على ذلك بأدب جبران في عصرنا الحديث، وكذلك نجيب محفوظ، وطه حسين، وشعراء المهجر. كما تؤكّد احتياج الأدب العربيّ إلى المزيد من التعرف على التجارب العالمية في صناعة النشر، والدعم الحكومي، والتركيز على العناية بقطاع الترجمة، ليأخذ مكانته التي يستحقها عالميّاً.
وحول علاقة الأدب العربيّ بماضيه، ترى د.لانا أنّها علاقة بإرث كبير؛ فبالرغم من وجود اتجاهين عند المثقفين العرب حول هذه القضيّة، أحدهما راغبٌ في اتصال الجديد بالقديم والآخر يرفض هذا الاتصال، يبقى الأدب العربي بحاجة إلى ترجمة توفّر للمثقف العربيّ مساحةً أو منبراً منسجماً مع طموحه العالميّ لكي يكون مؤهلاً لتحقيقه، كما أنّ اللغة العربيّة استطاعت عبر العصور الأدبيّة المختلفة، أن تتخلّص من تقلباتها وتتحكّم في خيارات القارئ العربيّ والأجنبيّ بأسلوبها السّلس وطرحها المتجدد.
غير أنّ الكاتب والروائيّ المغربي د. مبارك ربيع، العميد الأسبق لكليّة الآداب بجامعة الحسن الثاني بالدار البيضاء، يرى أنّ وصول الأدب العربيّ إلى العالميّة مسألةٌ نسبيّة؛ موضّحاً أنّ هذا الأدب وفيما وصله منذ ثلاثين عاماً، له قيمة عالميّة في جميع ميادين الإبداع، سواءً في السّرد أو الشعر، وفي الرواية بطبيعة الحال، فالعالميّة تُقاس بالوصول إلى القارئ العالميّ، لذلك نحتاج إلى الترجمة وإلى أنشطةٍ أخرى، لأنّ الكاتب العربيّ وهو يكتب باللغة العربيّة يكون بعيداً عن هذا الانتشار العالميّ، ويقترب منها أو يصل إليها إن هو كتب بلغاتٍ مختلفة، لذلك يرى د. ربيع أنّ «العالميّة» تتحدّد بناءً على موقع اللغة العربيّة في العالم، لتكون أدباً عالميّاً؛ مدللاً بأنّ «اليونانيّة» كانت لغةً مهمّةً للأدب العالميّ، أما اليوم فمن يكتب بها لا تحقق أعماله الانتشار العالميّ، خصوصاً أنّ العالميّة تخضع لشروط، فكان لا بدّ من أن يسير التأليف والترجمة في الدول العربيّة جنباً إلى جنب، من أجل نهضة أدبيّة ثقافيّة وفكريّة شاملة، وهو الموضوع الذي لا يزال العالم العربيّ مقصّراً فيه.
ويدلل د. ربيع بأنّ هناك نماذج كثيرةً في الإبداع الروائيّ العربيّ المعاصر لا ينقصها ما يجعلها عالميّةً بالمعايير الإبداعيّة الخالصة، خصوصاً أنّ الأدب العربيّ قدّم الكثير للإنسانيّة؛ باعتباره قيمة إنسانيّة في ذاته ومكسباً إنسانيّاً بوجهٍ عام.
ضعف ترجمة الكتاب العربي
ومثل هذا الرأي يؤكّده الكاتب السعودي د.أحمد الهلالي، في أنّ الأدب العربيّ قادرٌ على الوصول إلى العالميّة، ومع اعترافه بالترجمة بوابةً أساسيّةً لدخول هذه البوابة، فإنّ المشكلة برأيه هي أنّ نسبة الكتب المترجمة، وعلى تزايدها النسبي، ضئيلة جداً في الوطن العربيّ، فليس بإمكانها الاستجابة لمتطلبات الساحة الثقافيّة العربيّة التي تلحّ، فإذا أردنا أن ندرك موقعنا أو نعرف مدى المسافة التي تفصلنا عن الآخر، فما علينا سوى إجراء مقارنة بين عدد الكتب المترجمة إلى العربيّة سنويّاً في مجموع البلدان العربيّة على كثرتها، وعدد الكتب المترجمة في دول قويّة منتجة للمعرفة مثل الولايات المتحدة وفرنسا واليابان؛ ففي حين لا يتعدّى العدد بضع مئاتٍ من الكتب في البلدان العربيّة، يقدّر العدد في اليابان وحدها بعشرات الآلاف.