(1)
ودون أن يُدرك أنه في منتهى التناغم التام مع الطبيعة الأولى، مع خيمياء جلجامش في البحث عن الخلود، وجرياً على عادة مريدي الحكمة وراغبي الانتقال والتدرج إلى البدايات الأخرى، وبعد أن خاض الدخان وأمواج الرّمل وعذابات البحث، عثر أخيراً على موئل الرقدة السماوية، موطن يزرع فيه جسده كشجرة من شعر وزمن يمضي آمناً بين واحة الغاف، بين الرمل الأحمر واحتواءات المياه وأصوات المرعى وأناشيد الحمام البريّ المتزاوج أبداً بين الغصون.
 اختار أن ينام أخيراً ويتحرر من صخب السؤال عن المجهول، حرث أرضاً في (الخرّان) وأهدى جسده لها، ومنذ أربعة قرون والعظام في السكن الغيبي، هانئة في عبورها الأبديّ عبر الأرض الحمراء، تحديداً تحت ظلالنا في جنوب غرب إمارة رأس الخيمة، حيث لا يمكن للعابرين هناك تجاهل النسائم العليلة التي يرسلها ساحل المعيريض والمدينة القديمة والخور بينهما، تلك الرائحة الخاصة الأشبه بالروائح الأولى للأمكنة البكر، أرض روحانية ذات تماس سحري مع الكينونة البشرية والنضج المأمول، بقيت بلا تعمير إلا من بعض الدكاكين والبساتين والمساكن الشعبية البسيطة. ما إن يتنادى أحدهم باسم الخران حتى يتذكر أن مقبرة هناك تغفو منذ سنوات على طرف الشارع، أو لنقل ثلثها في الشارع، تضم رفاة الشاعر المعلم الماجدي بن ظاهر، وقد تناقل الآباء عن أجدادهم الإخباريين موقع ذلك القبر، وتم تحديده بعلامتين من الحجر الجيري الأبيض الحاد. ولا يُعلم تاريخ التحديد، وقد يستعين الكثير من مريدي الماجدي بن ظاهر بأحد أدباء وكتاب رأس الخيمة، أبرز الدلاة هما الشاعر أحمد العسم والمخرج السينمائي وليد الشحي اللذان يبديان اهتماماً ومحبة كريمة لكل سائل ومشتاق لرؤية القبر الذي احتضن على مدى أربعة قرون عظام سيد المجالس الشعرية في الإمارات.

(2)
تصير خفيفاً حينما تصل، ديمومة الخفة تتصاعد بأشواقك المتوحدة مع الطريق، إنك تعبر أسطورياً نحو طبقات الزمن العتيق، ريح خفيفة تهب هناك تبعثر قمح العظام ووريقات الغاف وروائح التحلل، تلاطف النائمين في الأجل، دعهم ينامون بسلام ولتسافر الكلمات بيننا بالهمس، هل لاحظت الكتل البيضاء المبتلة بنعومة الرمل والندى؟ هل أصغيت إلى موسيقى العظام وهي في رحلة الاندماج الكوني؟ (إن ديمومة الكلمات أشبه بديمومة العظام) يقول أدولوف بيكتيه - باحث في السلالات اللغوية - الكلمات عظام منذ لحظة تكونها وانفصالها.
 في الداخل تعبق رائحة الزمن، رائحة اختصت بها أرض (الخرّان) عن سائر بقاع البلاد، فواحة غرائبياً بنثار الموت الفلسفي، كأنك تشم رائحة مخطوطات قديمة، أو بخار يتصاعد من الأرض بعد المطر، أو رائحة جدار معبد أثري ّ قديم، أهي رائحة عُمر الوجود؟ رائحة تنهيدة الأرض؟  
تصير خفيفاً حينما تصل، مثل ذرة رمل، يا ألله ما أخف الخطى في المقابر! تصير غريباً وأليفاً في أن واحد، مستدلاً وتائهاً، حاضراً وغائباً، يقظاً وميتاً، تغمرك نشوة غامضة بينما أنت عامر بالحزن، وتعبر سلسلة المقابر التي بلا أسماء. تصير أخف من النور حين تصل إلى القبر البعيد هناك، المستظل وحيداً بالجدار والمستعين على ذكرى وجوده بحجرين ثابتين شمالاً وجنوباً.
ببساطة أقول لك هذا هو قبر شاعر الوجود يا زائرنا العزيز.
 إنه القبر الذي سمعت عن صاحبه كثيراً وجئت تبحث عنه بلهفة المشتاق، شوق المريد لمعلمه، شاعر وجودي ارتبط زمن القصيدة في الإمارات بقصائده الخالدة، قبر أهم معلّمي الحكمة والفلسفة الشعرية، قبر من زمن الرحلة وإلهام الطبيعة، من عهد خطاب الكون الممتد جذوراً، قبر من شعاع مرئي بالشعر، ناصع ورصين له امتداد في عمق اللغة والأخيلة والتجربة.
تتساءل يا زائرنا العزيز بمجرد أن ترى القبر بلا هوية أو علامة استرشاد أو كتابة:
 «لماذا هو بلا شاهد؟ على الأقل لتُكتب إشارة ما على الجدار المجاور له، أو تسمى المقبرة كاملة باسم (مقبرة بن ظاهر)، كي يستدل ضيوفه عليه، إنه شاعر عاش كريماً مضيافاً عزيز النفس عميق الحكمة وغنياً بإرثه، وتكتسب البلدان عزة وثراء بتقديرها لآثارها وذاكرة رموزها الإبداعية، لكل بلد أيقونة ثقافية متجسدة ومُعتنى بها كأثر يفتخر به، وحين أتساءل من هو أيقونتكم الثقافية في الإمارات؟ أفكّر فوراً بشاعركم المجيد الماجدي ابن ظاهر، غير أن شيئاً من الحزن سيصيبني بعد الآن بمجرد أن أتذكّر حال قبره الذي أراه أمامي».
وكما ترى عزيز الزائر، هو مجرد قبر يتوارى قرب جدار مقبرة عتيقة تطل بأحد أضلاعها على الشارع العام، هذا ما سوف تتذكره.
ستقول: «وقد تتلاشى الذكرى كأي لحظة عبور، إذ كيف بروح شاعر عظيم اختار أن يدفن في (الخران) تحديداً، أن يكون قبره بلا إشارة؟!
عزيزي الزائر، قد يبرر أحد كبار السن مجيباً على تساؤلك - وتلك الأقوال متكررة طبعاً -:« لقد وجدنا القبر على الحال الذي وجده عليه أجدادنا، لم يتدخل أحد، ولن (نبتدع) فكرة الإشارات، فلربما كان الماجدي في قرارة نفسه ينوي النوم بهدوء تام، دون أن يزعج رقدته أحد».
وتظل هذه الـ«رّبما» عالقة عبر الزمن، ومفتوحة على تأويلات شخصية لها مرجعياتها.

(3)
لا عجب من تساؤلات الزائر، ففي مستهل دخولنا البلدان، نستأنف التفكّر بالشخصية البارزة التي عززت من انجذابنا لذلك البلد والترحال إليه، من الطبيعي أن تكون إحدى دوافع السفر هي التعرف على الأثر، على ما ورثته البلدان من رموزها وعباقرتها.
 تعامل أوروبا آثار رموزها الثقافية ككنوز ينبغي التنقيب عنها وحفظها ورعايتها وبث الروح فيها بعرضها على السائح المهتم والممتلئ شغفاً بالتعرف على هوية البلد والباحث عن التميّز والتفرد. حين تسافر مثلاً إلى (براغ) تجد كافكا ينتظرك هناك، من أول خطوة في مطارها ونزولاً إلى شوارعها وأسواقها ومحطاتها ودكاكينها وبضائعها التذكارية التي تجمح جمالاً وفناً خلاقاً يشير في مجمله إلى أديبها الاستثنائي (كافكا)، كل شيء هو كافكا، إلى درجة أنك قد تنسى اسم المدينة (براغ) وتستبدلها بمدينة (كافكا).
ينطبق ذلك على بلدان كثيرة في العالم تسعى إلى تخليد رموزها، ففي الغابة السوداء في ألمانيا تشد الرحال إلى كوخ هيدغر، وفي سالزبورج النمسا لابد من زيارة متحف موزارت، وفي داغستان يصلك نداء الثلوج لتزور قبر رسول حمزاتوف، وفي أذربيجان شُيّد شارع يجمع أشهر الشعراء الأذريين والفلاسفة والكتّاب، قد اصطفت تماثيلهم ونقشت أسماؤهم وقصائدهم ومقولاتهم في درب طولي مهيب تكسوه الأشجار المعمّرة في العاصمة باكو. وحين تزور الكويت تنتعش روحك بالدعاء قرب قبر الروائي الكويتي الكبير إسماعيل فهد إسماعيل، ولولا الشاهد الذي كُتب عليه اسمه وتاريخ ميلاده ووفاته، لما استدلّ محبوه عليه منذ أول انعطافة إلى أقصى يسار مقبرة (الصليبيخات).
أستحضر ذكرى زيارة قبر الروائي إسماعيل فهد وأتساءل عن سلسلة الوفيات من رموزنا الثقافية على سبيل المثال لا الحصر، منذ الماجدي بن ظاهر قبل أربعة قرون وحتى أحمد راشد ثاني قبل سبعة أعوام، كيف يستدل الزائر على قبورهم لينعشها بالسلام والفاتحة والقصائد؟ هل ثمة مشروع ثقافي أثريّ مستقبليّ يحفظ منزلة الأدباء بعد وفاتهم ويشرّع الكتابة على القبور؟ كتابة إشارية فقط لا أكثر، ولا نتحدث هنا عن تحويل المقابر إلى أضرحة ومراقد ومزارات.
إن الانتباه المبكر لقبور الشعراء والكتاب والفنانين وممتلكاتهم ومخطوطاتهم ومقتنياتهم الشخصية هي مكتسب وطني وأمانة في عنق الدول الطموح والأمم الحيّة، تعد جزءاً يعزز رهان الأمم والشعوب في الانفتاح والتكامل الثقافي وحفظ الذاكرة، وعاملاً يرفد العطاء ويخلق التراكم وينشط حراك السياحة الثقافية، وقد أكرمنا الله بموارد وطاقات تكفل الالتفات إلى هذه القوة الناعمة الساحرة التي تغري بصورة إعجازية قراءة السائح الغريب المتطلع لخطاب الأمكنة والشعوب. وكوسيلة فعّالة للجذب فإن الرموز الثقافية هي أول جسور العبور نحو الآخر، هي اختراق سريع إلى قلب المتعطش للحوار والتعارف الإنساني الراقي. لابد إذاً من صون سريع لآثار ومقتنيات الرموز ومحاولة توظيفها بصورة تنموية جادة عبر استثمارها سياحياً ومعرفياً وإنسانياً وإكسابها روحاً أيقونية متدفقة وغنية ببهجة الاكتشاف والخلود.

(4)
فلسفة جلجامشية
ما المعنى البعيد في أن يختار الماجدي بن ظاهر موضع رقدته الأخيرة؟ وما دلالة انحياز الطبيعة بصورة مطلقة لأرض الخران؟
أليس المعنى وجودياً بامتياز يتأسس على هاجس الإنسان في الفناء والتلاشي؟
بإرادة مستنيرة يتم البحث عن أرض البقاء، تربة تؤمّن رعشة الذوبان البطيء وتمنح ولو حقاً يسيراً في إطالة عمر التحلل؟
لم تكن نرجسية شاعر كما وصف البعض، وإنما هي فلسفة جلجامشية تنزع نحو البحث عن معطيات الخلود، هكذا هي فلسفة الشعراء والهائمين بين ألغاز الوجود، كترياق ضد الوجع الفكري الطوّاف حول أسئلة الفناء، تظل روحهم حوامة بين ملاحم الظمأ الفكري والبحث الدؤوب في الغيبيات، لقد كان بن ظاهر وجودياً وغيبياً وباطنياً في شعره ومزاجه وطريقة عيشه وفنائه واختيار موقع دفنه. لقد كان شاعراً ملحمياً.

ولماذا الخران تحديداً؟
لأنها أرض تشبهه إلى حدّ بعيد، أرض شعرية ملهمة ومستحثة للمكابدات الروحية، تعبد الله وتقول الشعر بهدوء وسكون. القصيدة في الخران، الخران كالجرم الصغير الذي انطوى فيه الشاعر الأكبر، وكأن بالشاعر أراد توريث الشعر لهذه الأرض الولادة للإبداع عبر الأجيال، قبره علامة تنبئ ببركتها وطهارة التاريخ عليها، قبره علامة تمجيدية لإمارة رأس الخيمة، فلعله ارتأى فيها من الوداعة والعشق والخصوبة ما يكفل توارث الشعر وتقدير الجسد الأيقوني النائم بسلام، كل منهما منح الآخر خلوداً وامتيازاً وذاكرة تقديرية ومدلولاً ماضوياً يجمح نحو الاكتشاف والوعي المستقبلي بعظمة المكان المنعزل الذي ضمّ بين أنحائه كوكباً ملحمياً شعرياً مكثفاً بحكاية الدفن الرمزي والمجاز المستتر على الظنون وأصل الحقيقة.

«الخرّان».. لماذا؟
لا أظنه يخفى على القارئ حكاية اختيار بن ظاهر لمنطقة الخران تحديداً دون سواها كي يدفن فيها، كما يُقال أنه قد أجرى بعض التجارب على الأراضي التي أراد أن يُدفن فيها بعد موته، فكان يحمل معه درية (خيوط مطوية من الصوف) وقيل: (كان يحمل معه عظاماً)، ويمر على كل أرض ينزل فيها، يدفن الخيوط الصوفية، ويعود بعد حول كامل لينبش عنها التراب، فيجدها قد تآكلت، باستثناء تلك الخيوط التي دفنها في الخران وجدها باقية على حالها لم تتغير، فطابت له الخران واطمأن لها، واحتفر حفرة قبره فيها، وأوصى ذويه قبل موته بدفنه هناك.