عصام أبو القاسم (الشارقة)

كشف الروائي الليبي إبراهيم الكوني (71 عاماً) عن تجربة تيهٍ اختبرها في الصحراء استمرت لأكثر من 30 ساعة حينما كان في الخامسة من عمره، وقال إنه عرف بعدها أن الصحراء التي ضاع فيها غير التي عاش فيها وعرفها، مشيراً إلى أن وقائع تلك الحادثة هي منهل رواياته وهي خلفيته ككاتب روائي حول الصحراء، وقال إنها «سخرتني للصحراء وسخرت الصحراء لي».
الكاتب الذي يُعرف على نطاق واسع بتكريسه تجربته الإبداعيّة لمقاربة عالم «الطوارق» في الصحراء الليبية، ذكر في محاضرة له بنادي القصة في اتحاد أدباء وكتاب الإمارات بمقره في الشارقة، نظمت، مساء أمس الأول، تحت عنوان «أدب الصحراء: الهوية والرؤية والاستشراف» أنه صُدم حين سافر للدراسة في الاتحاد السوفييتي قبل نصف قرن حاملاً (حلم إنقاذ حضارة آيلة للزوال حضارة الصحراء عبر الرواية بالذات)، إذ وجد أنهم «يلقنوننا فكرة أن الرواية بنت المدينة.. اكتشفتُ أن ما أدرسه في معهد غوركي يعاديني.. وكنتُ قبل وصولي موسكو قد بدأتُ كتابة القصص حول الصحراء والواحات».
وقال صاحب رواية [نزف الحجر 1990] إنه ظل ينازع لوقت حتى يوفّق بين شغفه بالصحراء وما يتلقاه من معارف أدبية ونقدية في المعهد السوفييتي الذي تخرج فيه 1977، خاصة (نظرية الرواية) التي طرحها جورج لوكاش، حتى التقى لاحقاً بالروائي العراقي الراحل غائب طعمة فرمان [1927- 1990]، فنصحه هذا بالإبقاء على ولعه بالصحراء والكتابة عنها.
وظل الكوني لستة عشر عاماً مهجوساً ما بين رؤية لوكاش ورأي فرمان ليكتب بعد ذلك روايته الأولى (البئر)، التي جاءت على أربعة أجزاء، وكان قد انتقل للعيش في بولونيا.
وقال الكاتب الليبي في المحاضرة، التي قدمها وأدارها الكاتب العراقي شاكر نوري، إنه وصل إلى قناعة بأن «مركز الرواية هو الإنسان وليس المكان، وأن في كل إنسان ثمة ملحمة» ولذلك (استنطقتُ الإنسان المشبع بروح المكان)، وقال إن حركة الاستشراق عاملت الصحراء بوصفها «أكزوتيك.. أو عجيبة من العجائب»، وعمدت إلى «تسفيهها» و«إلغاء تاريخها»، بعدما غزتها بهدف «تلبية أطماع الطبقة البرجوازية التي أرادت الهيمنة على العالم»، مشيراً إلى أنه لا يتذكر أي (نص غربي) تناول الصحراء ولم يكن منظوره سياحياً، وقال إن «الصحراء أم الحضارات..»، ناقداً الفكرة الرائجة التي تربط الحضارات بمجاورة الأنهار، حاكياً عن طبيعة الإنسان الصحراوي، مشيراً إلى أن هذا الإنسان يتسم بنزوعه الحار إلى الانطلاق ولا يذعن للقيد ولا يحب الاستقرار، فهو «إنسان بريّ، والبر من البراءة.. والبراءة هي العيش على الناموس الطبيعي»، وأضاف: «الحرية هي رأسمال الإنسان الصحراوي أما الإنسان المدني فرأسماله السلطة والملكية.. ولذلك اخترع القوانين»، وتابع: «لذلك لم تولد النبويات في العمران.. إنما في الصحراء». ولفت إلى الرسالة المحمدية، كمثال، مبيناً أن البيئة الصحراوية تمكن ساكنيها من «الرؤية، والتجلي، والحدس»، واستعاد مقولات لفلاسفة ومتصوفة في هذا السياق ليظهر العمق الروحي للصحراء.
وألح الكوني على المكانة الحضارية لبلاده، وأن حركة الاستشراق تعمدت التعتيم على «ما قاله هيرودوت من أن ما حققه اليونانيون الإغريق استعاروه من ليبيا»، كما ذكر أن «أول من كتب الرواية في تاريخ البشرية هو ليبي»، في إشارة إلى كاتب رواية [الحمار الذهبي] لوكيوس أبو ليوس، نافياً أن يكون منطلقه في ذلك «الشوفانية»، مبيناً أن اسم «ليبيا» كان يطلق على الجزء الأكبر من شمال أفريقيا، وقال: «عشتُ لخمسين سنة في أوروبا ولم أكتب سوى عن ليبيا هناك مكان نسكنه وهناك مكان يسكننا الكاتب لا يكتب الواقع إنما يصوغ الواقع لكي يهرب منه».
ورداً على سؤال لـ «الاتحاد» حول أثر حركة الاستشراق على صورة مجتمعات الصحراء في غير الجغرافية العربية، قال: «لا ثقافة صحراوية سوى في ليبيا» قبل أن يعود، في جزء متقدم من المحاضرة، ليشير إلى صحراء الجزيرة العربية وليؤكد أنه ككاتب يتمثل ويتسلح بتاريخ «كل ثقافة صحراوية»، مشيراً إلى أنه لا يكتب عن الصحراء ولكن «عن الوجود في صورة صحراء».
وحول القصر والطول في الكتابة الروائية أفاد بأن «المطولات الروائية مخاطرة في ظل وجود الإنترنت فمن الصعب قراءتها ولكن لو قرأني ِأحدهم فهذا يكفي..أنا أقوم بواجبي وحسب ولا أتوقع أي تكريم»، مشدداً على أنه لم يقل كل شيء بعد برغم إنجازه لهذا العدد الكبير من الروايات والنصوص لا سيما حول الصحراء، فلا «قدرة لنا على قول كل شيء..اللغة لا تسعف بذلك، والحقيقة هي فوق اللغة».
وحول منظوره لموقع أعماله عربياً ومدى انتشارها، قال: «الغرب أنصفني أكثر، فما أن تترجم أعمالي حتى تكتب عنها كبريات الصحف في أوروبا.. وفي برلين تُدرس أعمالي لطلاب السنة الرابعة إلى جانب أعمال هوميروس وشكسبير.. ونلت 15 جائزة.. أما في العالم العربي فيتم التركيز على الشخص لا على إبداعه»، مشيراً إلى أنه ظل لنصف قرن يفخر بعيشه في الغرب لكن باعتباره عربياً لا يتكلم في أي مجال بغير لغة الضاد، كما تحدث عن ريادته في تأسيس أول مجلة عربية في العاصمة البولونية مكرسة للثقافة العربية والإسلامية.
وفي ختام الأمسية التي شارك في طرح أغلب أسئلتها الحضور في الصالة، قدم أعضاء اتحاد أدباء وكتاب الإمارات شهادة شكر وتقدير للكاتب إبراهيم الكوني، الذي كان قد بدأ حديثه معزياً الكتّاب الإماراتيين في رحيل الشاعر حبيب الصايغ، مشيراً إلى أن الظروف لم تجمعه به ولكنه سمع الكثير عن سيرته الإبداعية والثقافية من أصدقاء مقربين له.