رضاب نهار (باريس)

يقدّم الراقص والكوريوغراف البريطاني العالمي على خشبة مسرح LA Villette في باريس، عرضه «XENOS» المشحون بالمشاعر وبأفكار لن ينتهي يوماً تأويلها، وسط إيقاعاتٍ موسيقية تشكّل جسده وتطوّعه كصلصالٍ ذكي وحر.
أكرم خان المولود لعائلة بنغلاديشية، يختصر في أدائه الساحر، تجربته المسرحية وخبراته في عالم الجسد الإنساني التي اكتسبها من فلسفة المسرح الشرقي وخصائصه الفنية والثقافية. وبين عالم الكاتاكالي وفنون الرقص المعاصر، نختبر معه في حوالي الساعة و10 دقائق، قصة البحث عن الخلاص وبر الأمان.
يبدأ العرض، وهو من تأليف Jordan tannahill ودراماتورجيا Ruth Little، برقصات تقليدية يؤدّيها خان برفقة موسيقي ومغنٍ في مشهدٍ من الفلكلور الشرقي لبلاد الهند، تسكنه عناصر الطقس الاحتفالي. ثمّ يتحوّل المشهد إلى تراجيدي. يرحل الموسيقيان، تختفي قطع الديكور وتصبح خلاخل خان المزيّنة لقدميه، سلاسل أسرٍ تقيّده وتقتاده ليجد نفسه وحيداً. ثم تبدأ رحلة خان الجديدة، مع موسيقيين يعزفون ألحاناً من واقع المأساة بلباسهم الشرقي ولكن على آلاتٍ غربية. فالحياة القاسية حان موعدها الآن.
يروي خان بجسده مأساة مليون ونصف هندي من بين 4 ملايين جندي تمّ تجنيدهم من قبل الجيوش الأوروبية والأمريكية في الحرب العالمية الأولى. استُغلّوا وانقهروا بعيداً عن أهلهم فداءً لتأسيس إمبراطوريات لا تقهر، بنوها بأجسادهم وحدها. حفروا الخنادق، جهّزوا المقابر، سيّجوا الأسلاك الشائكة بأيديهم العارية، ولم يذكرهم التاريخ سوى أرقام متتالية دون أسماء.
لكنّ خان أراد إحياء ذكراهم. ووجّه تحيته لأجسادهم من خلال رقصات جسده وانثناءاته المتألمة كأنهم جميعاً في كيانٍ واحد، من لحم ودم. فصرخوا معاً، غاضبين ومقهورين. نظروا إلى السماء، ارتموا على الأرض، ارتطموا بجدرانٍ من منفى ومن تراب، كلهم في حركاتٍ موحّدة تطالب التاريخ بالعدالة، والذاكرة بعدم النسيان. إنهم الغريبون. إنه الغريب، اسم العرض ومعناه. تجسّد رقصات خان المستوحاة من رقصة «الكاتاكالي»، الرقصة التقليدية في بعض مناطق الهند، الخوف والألم كعنصرين شكّلا معنى حياة أولئك الجنود. نراه يتخبّط أحياناً. يصارع الموت برغبةٍ خجولةٍ في الحياة. يعاني ويعاني، وتستمر المعاناة كأنه بروميثيوس المحكوم بالموت والولادة من جديد في دورة مستمرة.
لم يكن اختيار أكرم خان لأداء الكاتاكالي ترفاً فنياً. فالفكرة الجوهرية تكمن فيها. إنها دليله على تعلّقه بأرضه الأصلية.
لعبت إضاءة العرض، دوراً محورياً في تحديد هويته البصرية والفكرية. اعتمدت اللونين الأسود والأحمر وتدرجاتهما التي توحي بالعزلة وبالظلم وبالموت على خلفيةٍ لتل ترابي، هناك حيث كان المتعبون يحفرون طرق الإمبراطوريات العظمى بين الرمال.
أصوات الحفر نقرت رؤوسنا أثناء العرض. حفرت في داخلنا ونبشت أرواحنا. تماماً مثلما فعلت بالمساكين الذين لازمتهم المعاول في لحظاتهم الأخيرة على هذه الأرض.تمتدّ على طول الخشبة في الخلف، مجموعة من الحبال. رقص خان معها والتفّ حولها كثيراً. استخدمها في الصعود خطوة تلو الخطوة، كانت دليله وربّما طريق نجاته. وغالباً كان يفشل. إلى أن نجح أخيراً. حيث أصبح الخلاص صفة رقصته في دقائقه الأخيرة حين يصل إلى أعلى التلّ، وينعتق إلى الأبد.