سينما الطريق.. قصائد على الأسفلت
هل خرجت سينما الطريق من معطف الشعر؟
سؤال قد يبدو مستغربا في سياق المقارنة بين معطى يتأرجح بين الشفاهة والتدوين، ومعطى آخر يتكئ على صياغاته البصرية الصرفة والمستقلة، ولكن ما يرجّح التلاقي بين هذين الصنفين هو روح المغامرة والاكتشاف واقتحام المتاهات التي تفضي لمتاهات أخرى في لعبة مدوخة وهاذية، قد تستقر أحيانا على معرفة واكتشاف للذات والعالم، وقد تودي بالسالكين في دروبها ـ في أحيان أخرى ـ إلى مصائر سوداء ونهايات قاتمة.
إن المتابع لانطولوجيا الشعراء المتمردين أو الصعاليك أو الملعونين منذ العصور السحيقة وحتى الحقبة الذهبية التي انحسرت وخبت في الستينات وما بعدها من القرن الفائت، لا بد وأن يعثر على شرارات وبروق والتماعات هيأت لثيمة التعدد أو التشظّي الداخلي الذي يعطي للسفر أو الترحال معناه العميق ولذته المستعرة، فالدروب تتعدد وتفترق وتتقاطع وتصل إلى نهايات أو قد تصل إلى هاويات، والأسفار كذلك تتوزع على مسارات مادية وظاهرية وملموسة وأخرى افتراضية وجوّانية ونفسية، فالأسفار التأملية المتجهة نحو الذات هي أكثر ميلا لبوصلة الروح، أما الأسفار المعنية بمجهول المكان وغامض الزمان فهي أقرب للترحال الجسدي أو الفيزيائي التي تحتك فيه الحواس بمكونات وفضاءات الطبيعة وبكل ما تحمله هذه الطبيعة من جماليات ومن قبح أيضا.
قد يجمع حس التجوال والضياع اللذيذ والنظر إلى الوراء بغضب، بين شاعر جاهلي وصعلوك ومتمرد على قوانين القبيلة مثل عروة بن الورد، وبين شاعر الطريق الأميركي ألان غينسنبرغ الذي لوّن مع رفاقه حقبه الخمسينات وما بعدها بالخطاب الناري لجيل (البيتنكس)، أو جيل (الرفض) المتمرد والضجر والمسترسل مع (عواء) الطبيعة الفطرية والطليقة والمتحررة من قوانين المدن وأقفاص المنزل والوظيفة ومن سجون الإسمنت وناطحات السحاب المجوّفة مثل عيون الموتى.
لقاء قد يكون فائرا وحميميا وشائكا وفاتنا إذا اجتمع الشعر مع السينما على طريق واحد ومشترك ولكن بمعالجات ونوايا وأنماط فنية مختلفة، فالسينما المهمومة بقصص وقضايا إنسانية بالدرجة الأولى، التقطت قفاز الأزمة الوجودية العنيفة والأسئلة المُرّة التي حاصرت الطبقة المثقفة بعد الحرب العالمية الأولى ثم الحرب الكارثية الثانية، كي تتحاور هي الأخرى كفن طليعي مع الأفكار الجديدة والناهضة مثل طائر الفينيق المتخلص من غبار الموت والخراب والدمار الشاسع، هذا النهوض أو القفز أو الطيران فوق جحيم الأيديولوجيا وبؤس النظرية وعنف الآلة العسكرية والصناعية، جعل المخرجين وكتاب السيناريو وصناع الأفلام يتجهون نحو المواضيع السينمائية التي تخاطب وجع الحاضر وألم العيش في مناخ خانق ومشوه، ففيلم مثل “كلب أندلسي” المقلق والمحرّض الذي ظهر مثل صرخة سينمائية مدوية في العام 1929 على يد المخرج الإسباني لويس بونويل وبمشاركة الفنان سلفادور دالي، استند على مفهوم الترحال وسط الأحلام والكوابيس الرائجة في الأدبيات السوريالية، فعبّر بذلك عن العبث السوداوي والهذيان المرعب والعنيف الذي زرعته الحرب في لا وعي الإنسان، وفي تفسيره الهلامي والمرّوع للوجود.
بداية اقتصادية
ولعل القوام الأمثل الذي تشكل بداخله مفهوم سينما الطريق بدأ مع أزمة الكساد المالي الذي عصف باقتصاد الشرق الأميركي في الثلاثينات من القرن الماضي، فكانت الهجرة نحو الغرب غير المكتشف وغير المأهول هي طريق الخلاص للمفلسين والجوعى والمشردين، واستثمرت السينما درب الآلام والأحلام هذا كي تعالج قصصا وعذابات وتفاصيل إنسانية متأرجحة بين الأسى والأمل وبين العوز والثراء وبين الجرح الذاتي والطموح المتوثب، وكان فيلم “عناقيد الغضب” للمخرج العبقري جون فورد بمثابة المنصة الذهبية التي مهدت لولادة مصطلح جديد وملفت في السينما يعتمد على ثيمة الهجرة من مكان إلى آخر كقالب بصري وموضوعي، وكمحتوى واقعي وصادم تتشكل فيه مصائر البشر داخل أتون ومصهر الأخطاء والخطايا التي يمارسها السياسيون وأرباب المال، هذه الأخطاء التي تفرّخ معها مرارات وشرور هائلة ومدمرة، اعتمد فورد في هذا الفيلم على الرواية الشهيرة لجون شتاينبك التي صورت معاناة المزارعين الأمريكان في فترة الثلاثينات مع بزوغ كارثة الأزمة الاقتصادية التي زعزعت منظومة الحياة الاجتماعية السويّة لمئات الآلاف من البشر وجعلتهم يهاجرون نحو الغرب الأميركي كمنفذ أخير للخلاص ولخلق فرص جديدة للحياة.
ومع ظهور فيلم مثل “إيزي رايدر” في العام 1969 أصبحت هوية (سينما الطريق) أكثر وضوحا وتماسكا، وأصبح الفيلم نفسه بمثابة أيقونة لعشاق هذه النوعية من الأفلام، والتي يتحول فيها السفر إلى مغامرة روحية وذاتية مسورة بالدهشة والاكتشاف والإيغال في أسرار الطبيعة والبشر الآخرين، قام بأدوار البطولة في الفيلم دنيس هوبر وجاك نيكلسون وبيتر فوندا، الذين مهدوا في العمل لثقافة راكبي الدراجات النارية وهي ثقافة تعتمد على نمط مختلف في اللباس وطريقة العيش، روّج الفيلم أيضا للأسلوب البوهيمي المتحرر والقائم على متواليات الصدفة ولعبة الحظ والفوضى والعبث والتمرد على كل قيد أو نظام، وهو ذات النمط الذي اختاره جيل الستينات من الهيبيز والوود ستوك والبيتيلز والروك ومع أيقونات متوهجة ومحطمة في ذات الوقت مثل جيمي هيندركس وبوب مارلي وجيم موريسون الذي قدمه المخرج أوليفر ستون في فيلم حمل عنوان “ذا دورز” ــ 1991 ــ وهو عنوان يحيل على عبارة للشاعر وليم بليك حول الأبواب الخفية التي تتفتح في إدراكات الحالمين ووعيهم المختلف، وستون نفسه قدم لميراث سينما الطريق عملا مدوخا في العام 1994 حمل عنوان “قتلة بالفطرة” الذي يتقاطع مع الفيلم الذي تحول إلى ظاهرة في العام 1967 وهو فيلم “بوني وكلايد” للمخرج أرثر بن، ففي هذين الفيلمين نرى السيارات المسروقة والطرق الواسعة وهي تتحول إلى مرتع للجنون والجريمة والحب والعنف وإلى ساحة شرسة من المطاردات والكر والفر وكسر القوانين على حساب التعلية من قيمة الحرية الفردية والخروج من أسر العائلة والمنظومة الاجتماعية الخانقة، هذا الطريق الخطر لن يكون سوى الوعد المتبخر مع هلاوس الأفيون والأحلام الوحشية والمعتقدات الروحانية المتطرفة والغريبة.
أداة تحرير
جاءت سينما الطريق أيضا كوسيلة لتحرير الفن من ثوابته التقليدية وأطره الجاهزة والمكررة تماما مثل الدروب الشائكة التي ترجمها أبطال هذه النوعية من السينما إلى واقعية صادمة أو إلى شعرية طوباوية ومترفعة عن البؤس والاستسلام للهزيمة، نتذكر هنا فيلم “ثلما ولويز” للمخرج ريدلي سكوت وبتمثيل رائع للثنائي سوزان ساراندون وجينا دافيس. التي تتحول رحلتهما الطويل نحو الخلاص إلى رحلة محفوفة بالمفاجآت واكتشاف الذات والآخر في مناخ قائم على الحرية القصوى والتمرد المطلق.
شيء من هذا الملمح المتمرد ظهر في فيلمين مهمين للمخرج الغامض والإشكالي والهارب دائما من الأضواء ووسائل الإعلام (تيرانس ماليك) الذي تتحول عنده فكرة الانتقال من مكان إلى آخر إلى هجرة داخلية من أجل تغيير الذات وليس إلى ارتحال فيزيائي، كما أن الشعرية الطاغية التي تلوّن أفلامه تتحول إلى خطاب جمالي صرف وليس إلى نقد مباشر لمواضيع عامة ومتداولة، ففي فيلميه “الأراضي البور” و”أيام النعيم” قدم (ماليك) مشهديات بانورامية غاية في العذوبة، والتقط تفاصيل الأمكنة التي يرتحل إليها أبطال الفيلم كما لو كان يلتقطها بعيني الشاعر الذي يسكنه، مشهديات وتفاصيل تجذب البراءة المنسية للطبيعة وتقحم الممثلين في مناخ متمهل وتأملي رغم خطورة الأحداث المحيطة بهم ورغم وعورة الطرق وعنف المطاردات التي تشوش مداركهم.
قائمة أفلام الطريق تطول وتخرج بالتأكيد عن نطاق الأفلام الأميركية الأكثر شهرة وذيوعا في هذا السياق، ولكن أفلام السينمات العالمية الأخرى قدمت نماذج مهمة وملفتة لأنها خرجت من مجتمعات شهدت تحولات كبيرة وحروب وهجرات وثورات داخلية ودخول أنماط عصرية وحداثية وتغلغلها في نسيج تقليدي ومحافظ ومغلق، هذه التجاذبات والانفلاتات شهدتها الكثير من المجتمعات الشرقية وكان على الأفلام النابعة من هامش وقاع هذه المجتمعات، أن تحاكي هذا النمط المتبدل والمتسارع، وأن تخلق نوعا من الجدل الفني والنقاش النقدي الأقرب لمحاكمة الذاتية وترميم الذاكرة في مقابل الهوس وحمى القفز الأعمى نحو المستقبل، تناولت السينما العربية والهندية والتركية والإيرانية والصينية والكورية وغيرها من سينمات الشرق هذه الظواهر الجديدة والثورية في الحياة ووثقتها من خلال الكاميرا ومن خلال سينما اقتبست من مفهوم (الطريق) معناه ومساره الافتراضي الذي يرتحل بين المدينة والريف، وبين القديم والراهن، وبين طفولة المجتمعات الشرقية وبراءتها وعزلة وقتامة المجتمعات الحديثة والمحاصرة بإشكاليات وأسئلة تتعلق بالهوية والروح والتراث المغيّب والمقصي.
عموما فإن سينما الطريق ستظل سينما مفتوحة على الأنماط والاتجاهات السينمائية الأخرى ولكن مرتكزها الأساس سيظل ثابتا على مغزى “التنقل”، سواء كان هذا التنقل مشفوعا بفكرة التمرد ورفض الواقع واقتحام المستقبل، أو بفكرة الارتداد إلى الماضي أو إلى الجذور من أجل التصالح مع الذات، وهناك بعض الآراء النقدية التي تضيف مسارات جديدة لهذه السينما مثل الارتحالات النفسية والفلسفية والروحية التي تتناوب محطاتها في التاريخ الذاتي لأبطال وشخصيات فيلم الطريق، وهي أراء مقبولة لأنها قائمة على البحث ومحاولات التغيير والانتقال من حالة إلى أخرى، رغم إنه انتقال يتم في داخل الذاكرة، وفي عمق السراديب الغامضة للنفس البشرية.