عزالدين بوركة

نحن والنخلة: عَرَّفَ الخليل بن أحمد الفراهيدي والأصمعي وغيرهما من علماء اللغة العربية الأوائل الـ«نخلة» فقالوا: «إنها شجرة التمر وجمعها نخل ونخيل ونخلات»، وقيل إن الاسم مأخوذ من نخل المنخل وانتخل الشيء أي اختاره. وترتبط النخلة في ثقافتنا ارتباطا بالإنسان عينه، ما يعني أن النخلة لا تعد جزءاً من البيئة العربية فقط، بل إنه متأصلة في جذور الإنسان الذي يشترك معها «مادة الخلق»، إذ ورد في الحديث تشبيه الرسول خلق النخلة بخلق آدم، واصفا إياها بـ«عمتنا». وقد ارتبطت –أيضاً- في الثقافة العربية والإسلامية، إلى جانب الاختيار، بالعلو والسمو والهبة والعطاء والإغداق، وكما جاء في الذكر الحكيم: «وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا» (مريم، 25)، وقوله تعالى: «وَمِن ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا، إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ» (النحل، 67). ما يدل أن المكانة المتميزة التي تحتلها النخلة هي مكانة كبرى في الثقافة العربية والإسلام، بل إنها «عمة الناس أجمعين». إلا أن الثقافة العربية والإسلامية الأكثر ارتباطا بالنخلة، التي غدت رمزاً وعلامة دالة على هذه الحضارة التي خرجت من الصحراء التي تتجذر فيها النخلة وتتفرع.

ومن جانبه، لم يتوقف الأدب والشعر العربي منذ البدء عن التغزل في النخيل أو الجعل منه استعارة ودلالة على الجمال والعلو والعطاء، هذا بدر شاكر السياب يقول في أنشودته:
عيناكِ غابتا نخيلٍ ساعةَ السحَرْ
أو شُرفتان راحَ ينأى عنهما القمرْ.
والنخيل عند الشعراء مثال للحبيبة الظاعنة في هودجها، فنجده يصور هودجها كسعف النخلة في تمايله، وتحريك الرياح إياه، فيقول امرؤ القيس:
أو ما ترى أظعانَّهن بواكرًا ** كالنّخلِ من شَوْكانَ حينَ صِرَامِ
ويقول في موضع آخر:
تَبَيَّنْ خليلي هل تَرى من ظعائنٍ ** لمّية أمثالِ النّخيلِ المَخَارِفِ
بالتالي، فالنخلة تحتل مكانة رفيعة وخاصة لدى الإنسان العربي، ما يجعل منها موروثاً ثرياً ضمن الموروث الثقافي العربي ككل. وقد تغلغلت النخلة مع مرور الزمن في حياة الناس لدرجة كبيرة، لذا نجدها في تفاصيل حياتهم فهي في طعامهم وشرابهم ومسكنهم وعملهم والمهن التي يقومون بها حتى في أدواتهم المنزلية وغيرها من مفردات حياتهم اليومية. ونجد لها حضوراً مميزاً أيضاً عند باقي الحضارات المشرقية أو التي شاركت العرب والمسلمين الجغرافيا الواسعة. لهذا لم يكن من الغريب أن يتم تصويرها واستعارتها في الفنون الصباغية والرسم والتشكيل والمعمار والهندسة المدنية.

رمز النخلة قديماً
عودة إلى الحضارات القديمة، نعثر على رسومات للنخيل في جدران المعابد وعلى الأواني والمسلات وحتى النقود والجدران... إذ تُعدّ نقوش صخرية في جبال أكاكوس، من بين أقدم الرسومات، وتقع في جنوب غرب ليبيا وضمن الصحراء الكبرى، وهي جبال غنية بمجموعة المنحوتات واللوحات المرسومة على الصخر أعلنت من قبل اليونسكو كموقع للتراث العالمي في العام 1985 بسبب أهمية هذه اللوحات والمنحوتات والتي يعود تاريخ بعضها إلى 21 ألف عام. وكما نعثر على رسومات صخرية تعود للعصر الحجري الحديث، أي لما بين 9 آلاف سنة و10 آلاف سنة قبل الميلاد، بطاسيلي ناجر، وهي سلسلة جبلية تقع في وسط الصحراء في الجنوب الشرقي للجزائر. كلها لوحات صخرية تظهر جماعات من بدو الصحراء يجتمعون حول النخيل وهم يقومون بمشاغلهم اليومية.
أما في ما تركه المصريون الأوائل من رسومات، فنعثر على بعضها في «كتاب الموتى: نخت»، للأسرة الثامنة عشرة، حيث يبرز النخيل وسطها في رمزية للمكانة التي يحتلها في الطقوس الفرعونية، وقد كان أبو الهول والنخيل يتم تعيينهما بنفس الاسم، وكلاهما يشيران إلى الشمس. وكما إن النخيل هو رمز الروح والحياة الطويلة، في الحضارة الفرعونية القديمة. وكما يذكر المؤرخ المصري عبدالرحيم ريحان، أن الاحتفال بمصر في عصر الدولة القديمة اتخذ مظهرًا دينيًا حيث يبدأ بنحر الذبائح كقرابين للمعبودات وتوزع لحومها على الفقراء، وكان بعضها يقدم للمعابد ليقوم الكهنة بتوزيعها بمعرفتهم وكان سعف النخيل من أهم النباتات المميزة لعيد رأس السنة، وكان سعف النخيل الأخضر يرمز لبداية العام لأنه يعبر عن الحياة المتجددة كما أنه يخرج من قلب الشجرة وكانوا يتبركون به ويصنعون منه ضفائر الزينة التي يعلقونها على أبواب المنازل ويحملونها كذلك لتوضع في المقابر ويوزعون ثماره الجافة صدقة على أرواح موتاهم وما زالت هذه العادة حتى الآن خصوصًا في صعيد مصر كما كانوا يصنعون من السعف أنواعا مختلفة من التمائم والمعلقات التي يحملها الناس لتجديد الحياة في العام الجديد.
ولم يتوقف الأمر عند المصريين القدامى، بل إن النخيل كان جزءاً لا يتجزأ من قداس وثقافة بلاد ما بين النهرين قديماً، جاء في نص بابلي متأخر 365 فائدة للنخلة، وعددت أُغنية تدمرية فوائدها بثمانمائة، وقال المؤرخ سترابون إن النخلة تزود البابليين بكل حاجاتهم عدا الحبوب. وعرف أهل الرافدين منذ أقدم الأزمنة طريقة تكاثر النخيل بالفسيل وهي الطريقة الغالبة، والتلقيح الاصطناعي، وترك المسافات المناسبة بين أشجار النخيل. لهذا نعثر عليه منقوشاً في العديد من الجدران البابلية والآشورية...
أما عربياً، فقد اعتقد عرب ما قبل الإسلام أن أشجار الصحراء، وبالذات النخلة أنّ لها قوى روحية تكمن فيها. وقد عبدوا نخلة بعينها هي نخلة نجران الطويلة، التي خُصص لها عيد في كل سنة، كما جاء في السيرة النبوية لابن هشام. وقد صورت النخلة وسعفها وجذعها على عدد كبير من الأختام المكتشفة في منطقة الخليج العربي تعود إلى حضارتي ديلمون وماجان ونخلة في أيام العرب، يتخذها المتحاربون رمزاً مقدّساً، وعلامة لإيقاف القتال عند ابتداء عدد من المواسم كالحج أو الأسواق.
هذا إلى جانب حضارات وأقوام وثقافات عديدة اهتمت بالنخلة وما تقدمه من رمزية متعلقة بالعطاء المستدام والعلو والارتقاء، كما في ثقافات إفريقية وغيرها، مزيّنة بها كُتبها المقدسة أو معابدها أو الدور وحتى جزء من الألبسة والزينة والهدايا القيّمة... ما يجعل من النخيل جزءا لا يتجزأ من الثقافة والحضارة الإنسانية منذ نشأتها إلى اليوم.

تشكيل النخيل
وبدورها الفنون الحديثة والمعاصرة، نحتاً وصباغة ومعمار وهندسة، اهتمت بالنخيل كجزء من مواضيع أو رموز الأعمال الفنية والإنسانية. والحال هنا، جزر النخيل الثلاثة بالإمارات، نخلة جبل علي، ونخلة الديرة، نخلة الجميرا (التي تمّ إتمامها في عام 2006)، الموجودة بدبي، وهي من أهم وأجمل التحف المعمارية التي شيدتها البشرية، من حيث إنها إلى جانب شكلها المستوحى من النخيل، فهي تعدّ أحد أكبر الجزر الاصطناعية في العالم. ما يجعل من هذه الجزيرة أيقونة (بكل ما تحمله هذه الكلمة من دلالة) سياحية وهندسية وحضارية، تُجسد اهتمام دولة الإمارات برمزية النخلة وتطوير المعمار والبنيان العربي. وقد تم تصميم «نخلة الجميرا على شكل نخلة مكونة من ثلاثة أجزاء هي الجذع، والتاج، وسعفاته 17. ويحيط بها حاجز نصف دائري، مشكلاً حيداً بحرياً اصطناعياً.
أما على المستوى التشكيلي، رغبة في لمس البعد الذي تحمله النخلة في عمق الإنسان العربي، وفي ربط جذوره عميقاً في موطنه مهما بلغت تربته من هشاشة. الإنسان العربي الذي شبهه الفنان المغربي رشيد باخوز بالنخيل، لارتباطه الوثيق بالصحراء وأرضه العربية المثمرة. من النخل مطابق لنا، متعطش يطل علينا من أعلى هذا العالم. علاقتنا به، نحن شعوب ما بين المحيط والمحيط، تمتد إلى أبعد جذور في الميثولوجيا الضاربة في القدم. إذ اشتغل هذا الفنان في إحدى تنصيباته الفنية المدمجة بفيديو فني، على جذوع النخل التي حرقها، في إحالة إلى مصطلح«الحْريقْ» بشمال أفريقيا، الذي يحيل إلى الهجرة السرية. وبعد حرقه للجذوع عمد الفنان إلى الرسم عليها أحرفا عربية ممتدة، مجردة من صيغتها القرائية محافظا على روحها التصويرية، ما يجعلها تقابل رسما باقي الأحرف في لغات عديدة. ما يربط جسوراً وصلات وصل بين الحضرات. معبّرا في الوقت نفسه عن احترق شبابنا وهم يقطعون البحر ذهابا بتذكرة اللاعودة. تاركين جذوعهم مرمية بلا جذور،«أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ».
ونقف على تجربة عربية معاصرة تلقى اهتماماً واسعاً بالنخيل، إذ يعدّ النحت على جذوع النخيل واحدة من الحرف الأصيلة في الجنوب الليبي. ويرجع تاريخ تأسيس المعرض حسب متيطا عام 1990، حيث كانت الهوايات البسيطة في البداية بجمع طوابع البريد والعملة القديمة وبعض المقتنيات الموجودة في المنطقة وما حولها من مواقع أثرية، لما له من شغف في هواية الفنون التشكيلية بشكل عام، فعمل بفكرة كيفية الاستفادة من النخل بشكل عام من الناحية الجمالية كالتحف.
أما الفنانة التشكيلية العراقية نادية فليح، فقد أقامت سنة 2014 معرضاً فردياً، تحت عنوان«جذوع خاوية»، أنجزت فيه مجموعة من الأعمال الفنية تجعل من النخيل ثيمة ومادة لها، إذ ضم المعرض أعمالاً صباغية ونحتية توظف النخيل. منجزات متنوع الأحجام بعض منها حائطية وأخرى معلقة وحرة، حيث تُشاهد من الجهتين بالإضافة إلى الأعمال النحتية، التي أنشأتها من كرب النخيل، إذ نحتت على شكل أجساد خاوية مطأطأة الرؤوس وبعضها من دون رؤوس تجسيداً للعلاقة بين الإنسان والنخلة وما نفذ بهما من قطع وحرق وخراب.

النخيل استشراقاً
ومن جانبهم فقد اهتم الفنانون المستشرقون، منذ الرحالات الأولى، كثيراً بالبيئة العربية التي كان يطبع عليها الطابع الخام، المتسم بمعمار تحظى فيه النخلة بمكانة واسعة. إذ نجد في الدور المغربية العتيقة، المسماة«الرياض»، روضة تتوسط الدار المكعبة الشكل بها في الغالب نخلة مثمرة. من هذه الجمالية استقى فنانو الاستشراق مجموعة من أعمالهم المائية والزيتية. وقد تأثر الفنان الفرنسي جاك ماجوريل بهذه البيئة الخلابة التي تتجاوز أسوار المنازل، ليُنشئ حديقته الشهيرة بمدينة مراكش، والتي اهتم بها لما يزيد على 40 سنة، ضمّ فيها إلى جانب مجموعة من النباتات، مُختلف أنواع النخيل التي تنبتُ في الصحاري العربية. وكما قد سلب رونق وجمال النخيل العديد من الفنانين المستشرقين آخرين، أمثال الفرنسي Alexis Auguste Delahogue (1887-1950)، والذي اهتم بتصوير البيئة الصحراوية بالمغرب العربي. وأيضاً نلمس البعد ذاته في أعمال الفنان السويسري Eugène GIRARDET ((1853-1907، الذي زار المغرب والجزائر وتونس وإسبانيا أيضاً، فتأثر بالبيئة المتشابهة في كل تلك البلدان. وقد قام بثماني رحلات إلى الجزائر من عام 1879، معظمها في الجنوب حول الواحات، وسافر –أيضاً- إلى مصر وفلسطين. عمل في كل لوحاته على تصوير مشاهد من الحياة البدوية والصحراوية. متأثراً عمله بالضوء والجو الشرقي.

ختاماً
يبدو أن النخيل كان ولا يزال موضوعاً مهماً في الحياة الفنية الإنسانية، كما هو جزء مهم في بناء الحضارة، بكل ما يحمله من رمزية ودلالة وحياة. فلم يتوقف الإنسان على تجسيده وتمثيله وتصويره، متأثراً بكل ما يقدمه النخيل من خلفيات متأصلة في الثقافة البشرية الكبرى، والتي خرجت من أعماق الصحراء.