هاشم صالح

بادئ ذي بدء، اسمحوا لي أن أقول بضع كلمات عن تجربتي الشخصية مع شجرة النخيل. قد يستغرب القارئ إذا ما قلت له بأني لم أرها في حياتي أبداً عندما كنت في سوريا. كان ينبغي أن أخرج في بعثة دراسية عام 1976 لتحضير شهادة الدكتوراه في النقد الأدبي لكي أراها للمرة الأولى في فرنسا! نعم في فرنسا وفي مدينة نيس تحديداً. وهي المدينة الجميلة الواقعة على الشاطئ اللازوردي وذات الكورنيش الشهير المطل على البحر الأبيض المتوسط. وهو كورنيش محاط من كلتا جانبيه بأشجار النخيل الباسقة. وربما كان أجمل كورنيش في العالم، أو من أجملها على الأقل. وهو ذات الكورنيش الذي رقص عليه نيتشه يوماً ما رقصة زرادشت فأصيب المارة بالذعر والاشمئزاز وقالوا: هذا الشخص مجنون، الله يساعده. ومعلوم أنه أنهى رائعته الكبرى «هكذا تكلم زرادشت» في مدينة نيس ذاتها. وعدم رؤيتي للنخلة سابقاً شيء مفاجئ ومزعج، لأن شجرة النخل عربية وليست أجنبية بطبيعة الحال. وبالتالي فكان ينبغي أن أراها في بلادنا العربية وأمتع عيني بمرآها قبل أن أراها في بلاد الأجانب. بعدئذ عشقتها، وقعت في حبها وكأنها عروس. وهي بالفعل عروس العرائس ولا تنافسها أي شجرة أخرى على وجه الأرض. وقد عرفت فيما بعد أن الفرنسيين نقلوها إلى بلادهم من المغرب العربي. بعدئذ رأيتها بالطبع في المغرب كثيراً وأحببتها جداً. فهي تحيط أيضاً بجانبي بعض الشوارع الكبرى في الرباط والدار البيضاء وفاس والعديد من المدن الأخرى الساحرة. وعندما تدخل مدينة مراكش للمرة الأولى تشعر بالانخطاف والذهول؛ إذ تستقبلك غابات من شجر النخيل.. يا له من مدخل رائع، مهيب، لا يليق إلا بمدينة امبراطورية مثل مراكش، عاصمة المرابطين ويوسف بن تاشفين. كانت عاصمة الدنيا أيام زمان.. ويقال بأنها مدينة المليون شجرة نخيل!
إذا كنت لم أر شجرة النخيل في بيئتي الأولى التي ولدت فيها، أرياف اللاذقية وجبلة، فإني رأيتها في خيالي من خلال الشعر العربي الذي يتغنى بها كثيراً. فهي شجرة العرب الأولى بل ورمز العرب والعروبة. ولها مكانة تشبه القداسة، وبحق. ولا يمكن أن تذكر الجزيرة العربية، مهد العرب الأول، إلا وتذكر شجرة النخيل معها، وكذلك الصحراء بطبيعة الحال. وفي طفولتي الأولى امتلأ خيالي بصور الصحراء، والنخيل، وذكرى الشعراء الكبار من أمثال امرئ القيس، والنابغة الذبياني، وعنترة، وزهير بن أبي سلمى، وعشرات غيرهم. كل هذه الذكريات العطرة مرتبطة في ذهني بشجرة النخيل والواحات والعيون والظلال.

في الآداب العربية
دعونا نتحدث أولاً عن هذه الشجرة الباسقة في حضورها العربي. أولا يقف على قمة هذا الحضور ذكرها في القرآن الكريم. ورد ذكر كلمة النخل أو النخيل أو النخلة في العديد من الآيات والسور. وأحياناً يرد ذلك في مقاطع من أروع ما يكون بلاغياً. لنقرأ هذه الآيات البينات من سورة مريم:
«فَأَجَاءَهَا الْمَخَاضُ إِلَى جِذْعِ النَّخْلَةِ قَالَتْ يَا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هَذَا وَكُنْتُ نَسْيًا مَنْسِيًّا * فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا أَلا تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا * وَهُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُسَاقِطْ عَلَيْكِ رُطَبًا جَنِيًّا * فَكُلِي وَاشْرَبِي وَقَرِّي عَيْنًا فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا» [مريم 22-26 ].
وإذا انتقلنا إلى الشعر العربي، فقد ورد ذكر النخلة أو النخيل فيه مرات عديدة لا يعرف إلا الله عددها ومداها. ومن أجمل ما قيل فيها تلك الأبيات التي يحن فيها صقر قريش بكل حرقة ولوعة إلى مسقط رأسه، إلى المشرق العربي. وقد حركت لواعجه رؤية نخلة مفردة وحيدة في رصافة الأندلس فأنشد قائلاً:
تبدت لنا وسط الرصافة نخلة
تناءت بأرض الغرب عن بلد النخل
فقلت شبيهي في التغرب والنوى
وطول التنائي عن بني وعن أهلي
نشأت بأرض أنت فيها غريبة
فمثلك في الإقصاء والمنتأى مثلي
ثم يقول متفجعاً باكياً في مكان آخر:
يا نخل أنت غريبة مثلي
في الغرب نائية عن الأصل
فابكي وهل تبكي مكممة
عجماء لم تطبع على ختل
لو أنها تبكي إذا لبكت
ماء الفرات ومنبت النخل
نعم النخلة عربية قبل أي شيء آخر. وعندما رأيتها أنا على الكورنيش الساحر لمدينة نيس الفرنسية، انتابني نفس إحساس عبدالرحمن الداخل الملقب بصقر قريش. وفهمت عندئذ معنى تلك الأبيات بشكل أفضل.. شعرت بأن غربتي قد خفت حدتها فجأة. شعرت وكأني قد عدت إلى أصلي وفصلي. بوجودها لم أعد غريباً. بل ودهشت قائلاً بيني وبين نفسي: ماذا تفعلين هنا أيتها النخلة يا بنت العرب والعروبة؟ من أتى بك إلى هنا؟ شكراً لك وألف شكر: الآن لم أعد أشعر بأني وحيد في هذه البلاد القصية.
والآن، دعونا نطرح هذا السؤال: بم يذكرك منظر النخلة عندما تتمعن فيها وتراها باسقة، صاعدة نحو السماء بكل غنج ودلال؟ أنا شخصياً، تذكرني بالشموخ، والشهامة، والكبرياء.. إنها تذكرني بالسمو والعلو.. إنها ترمز على كل ما هو نبيل في هذا العالم. إنها ترمز على القيم العربية الأصيلة التي طالما تغنى بها شعرنا العربي القديم. وبالتالي فلا يمكن فصل الآداب العربية عن هذه الصورة الجميلة الخالدة لشجرة النخيل. يمكنك أن تفصلها عن شجرة التفاح أو الخوخ مثلاً ولكن ليس عن شجرة النخيل. هذا لا يعني أني لا أحب الخوخ أو التفاح! معاذ الله. ولكن لشجرة النخيل شخصيتها الفريدة وخصوصيتها التي لا تضاهى. ولهذا السبب فهي عزيزة على قلوبنا جميعاً. إنها إرثنا، أو تراثنا الأبدي الخالد. إنها جزء لا يتجزأ منا، من تاريخنا وهويتنا. لا يمكن أن تذكر اسم الجزيرة العربية مهد العرب الأول، إلا وتذكر شجرة النخيل. بالأمس القريب اشتريت كمية كبيرة من التمور الطرية هنا في المغرب، وفي مدينة القنيطرة تحديداً. قال لي البائع الذي يخبئ لي دائماً الأشياء اللذيذة النادرة: لك عندي هدية سوف تعجبك: إنها تمور طازجة أو ما دعاه بالرطب. قلت له: من أين؟ فأجابني بكل اعتزاز وافتخار: من الإمارات.
ومن أجمل ما قيل في النخلة هذه الأبيات الشجية لمطيع بن إياس. وكان قد افترق عن حبيبته ورأى نخلتين متجاورتين، وربما متعانقتين، في حلوان. فهاجت هوائجه فأنشد:
أسعداني يا نخلتي حلوان
وابكياني من ريب هذا الزمان
واعلما أن ريبه لم يزل
يفرق بين الآلاف والجيران
ولعمري لو ذقتما ألم الفرقة
أبكاكما الذي أبكاني
أسعداني وأيقنا أن نحساً
سوف يأتيكما فتفترقان
ويقال بأن إحداهما قطعت بعدئذ، وظلت الأخرى واقفة ولكن حزينة جداً على فراق صديقتها. فلماذا قطعوها؟ من هو هذا المجرم الذي قطعها؟ وهكذا تحققت نبوءته التشاؤمية السوداء. وكان يقصد بذلك أن الفراق حتمي وأنه «لا يوجد حب سعيد على هذه الأرض» كما يقول الشاعر الفرنسي الكبير أراغون من قصيدة يغنيها المطرب الشهير جورج براسنز.
وأكبر مديح لشجرة النخيل هذا البيت:
كن كالنخيل عن الأحقاد مرتفعا
يُرمى بصخر فيلقي أطيب الثمر
وهذا دليل على مدى كبرياء شجرة النخيل وتعاليها على الصغائر. إنها فعلاً رمز العرب والعروبة.
ثم ما رأيكم بهذه الأبيات للسري الرفاء؟
فالنخل من باسق فيه وباسقة
يضاحك الطلع في قنوانه الرطبا
أضحت شماريخه في النحر مطلعة
إما ثرياً وإما معصماً خضبا
تريك في الظل عقياناً فإن
نظرت شمس إليها خلتها لهبا

في الآداب الأجنبية
عندما فتحت كتاب الناقد الفرنسي الشهير رولان بارت، للمرة الأولى، فوجئت بهذه العبارة التي تتصدره: الأشجار ترمز على حروف الأبجدية كما يقول الإغريق. من بين كل هذه الأشجار والحروف، فإن شجرة النخيل هي الأجمل. فالكتابة بغزارتها وتمايز حروفها تشبه سعف النخيل من حيث القذف أو الارتماء. إن شجرة النخيل تشبه الكتابة أو تمتلك ميزتها العظيمة إن لم تكن الأعظم: مهوى السقوط
ماذا يقصد بارت بهذا الكلام الذي يعبر عن إعجاب حقيقي بشجرة النخيل؟ إنه يقصد أن شجرة النخيل تمتلك خاصيتين متعاكستين في آن: الأولى صاعدة والثانية هابطة. فهي كشجرة تشبه حرف الأبجدية الأول، أي حرف الألف، من حيث سموها وكونها مستقيمة سامقة. ولكنها تشبه الكتابة من حيث تدلي أغصانها إلى الأسفل بشكل رائع يثير الإعجاب الشديد. فالكتابة الأدبية لكي تكون بليغة ينبغي أن تعرف كيف تنتهي بالضربة القاضية: أي بالكلمة الأخيرة الصاعقة التي تنهي الجملة بشكل بليغ وقاطع. وهذا ما تفعله سعف النخيل عندما تتدلى إلى أسفل بعد شموخ وعلو. إنها تتدلى أو تهبط بكل سعفها إلى أسفل بطريقة تجعلك تدخل في نوع من الشاعرية الأخاذة، وعندئذ لا تملك إلا أن تستسلم أمام هذا المنظر الخلاب وتنحني.
لا أعرف فيما إذا كنت قد نجحت في ترجمة عبارة رولان بارت إلى العربية، أنا المختص في الترجمة منذ أكثر من ثلاثين أو أربعين سنة. ولكني فعلت ما أستطيع.
وربما كان أقدم ذكر لشجرة النخيل في الآداب العالمية ما ورد في نشيد الأناشيد التوراتية. تقول هذه العبارة اللافتة:
قامتك مثل النخلة الباسقة
يقول ريمون روسل في كتابه: انطباعات من أفريقيا:
بالقرب من الهيكل، على اليمين، تنهض شجرة نخيل عملاقة مخضوضرة. إن ازدهارها الخصب دليل على عمرها ونضوجها.
أما شاتوبريان فيقول ما يلي:
أجمل نبات ورقاً وزهراً لا منافس له إلا شجرة النخيل التي تتمايل أغصانها الخضراء بالقرب منه.
والآن دعونا نختم بهذا المثل الأفريقي الرائع:
لا تنس أنك عندما ترى شجرة النخيل فإنها تكون هي التي رأتك أولاً!
عبارة خاتمة ولا زائد لمستزيد..