بقلم: فاني-ميشيل دانساك - آني كوبيه
ترجمة: أحمد عثمان
من بلاد الرافدين إلى مصر، من الشرق إلى اليونان، تمثل النخلة أحد الموضوعات النباتية الممثلة كثيراً في العصور القديمة، وهي الوحيدة المعينة ربما بفضل مورفولوجيتها وهيئتها النوعية نوعاً ما. وبين أنواع النخيل في مختلف الأقاليم الجغرافية - النخلة المثمرة، نخلة كريت، النخلة-الدوم، النخلة القزم، نخلة أرغون -، نخصص هذا المقال لدراسة أيقنة النخلة المثمرة.
ليس هدفنا بحث أصل النخلة المثمرة ولا تاريخ فلاحتها. نطاق الفلاحة محدد بصورة كبيرة لأن النبات محتاج للمياه والحرارة المرتفعة - وهو ما يمثله القول العربي المأثور: «جذور النخلة في المياه ورأسها في السماء». بالتالي، هناك بعض المناطق الجغرافية التي تثير اهتمامنا - تحديداً واحات بلاد الرافدين ومصر - وفيها نمت فلاحتها على مساحات واسعة. فلحت هاتان الحضارتان مبكراً الشجرة، وأعدت مفردات تشير إليها وإلى وظيفتها، مما أدى إلى تكوين مصادر مصورة نسعى إلى استحضار ثرائها. بعيداً عن هذين الإقليمين، وبالتحديد في قبرص واليونان، مصورة النخلة متنوعة للغاية. طورت كل حضارة، حول الشجرة المثمرة، مجموعة من الدلالات التي تشهد على نقاط الالتقاء والاتصال بين الشعوب، وكذا أنواع النخيل الموجودة في كل منها.
تغطي فلاحة النخيل على وجه الخصوص مساحة شاسعة بدءاً من الأهوار جنوب حوض الرافدين إلى بابل. تحلل كثير من النصوص السومرية - الأكدية، ذات الخاصية الاقتصادية والأدبية، المكانة السامية للنخلة في هذا الإقليم. يشهد حوار كلاسيكي يضع النخلة مقابل الأثل، حيث تؤكد الأولى على رفعتها على جميع النباتات. يحتل موضوع النخلة المثمرة مكانة مهمة في أيقنة حضارة الرافدين، وقد تبدى جلياً نحو 2500 قبل الميلاد في بلاد سومر. تم تمثيلها بطريقة سهلة، مع تبيين أنواع التمور، وربطها بتصورات الخصوبة، الفلاحة الناجحة وتجديد «التنبت». هناك مثال معتبر، وهو الختم- الأسطواني الأكادي لكاتب زغنيتا، الذي يرجع تاريخه إلى عام 2250 قبل الميلاد، مصوراً جمعاً من الآلهة يعمل على تجديد الطبيعة، أي على عودة الربيع. يتبدى هذا التجديد مرمزاً بنخلة كبيرة محملة بالثمار، صورة المحصول الوفير والمثمر الذي يتجدد كل عام بفضل حركة الآلهة.
القصر الملكي لماري (إحدى ممالك الحضارات السورية القديمة)، في القرن الثامن عشر قبل الميلاد، في تدمر، يمنح الشجرة المثمرة دوراً رمزيا مهما. في وسط الساحة التي تفضي إلى صالة العرش، تنتصب شجرة كبيرة من المعدن. الحائط الجنوبي مزخرف برسوم عن التنصيب الملكي التي تصور تسليم السلطة للملك من قبل عشتار، في مشهد تؤطره نخلتان.
وفي مصر القديمة، منح اسم الشجرة المثمرة من مكانها. حسب إحصاء الأشجار المزروعة في حديقة النبيل الطيبي إنيني الذي عاش في بداية حكم الأسرة الثامنة عشرة، تمثل النخلات المثمرة (وهناك أيضاً النخلة- الدوم ونخلة أرغون) ثلثي الأشجار المزروعة. تحتل النخلة مكانة ثقافية ورمزية قوية في الديانة المصرية.
تتبدى صورتها منذ نهاية الألفية الرابعة قبل الميلاد. لوحة عاجية للملك خنت، ترجع إلى الأسرة الأولى، تمثل معبد بوتو، وسط الدلتا، مزدانة بنخلات ومعابد وسط جدول مياه. بستان النخل في بوتو يستخدم رمزية مرتبطة بالنخيل، حيث يماثل البعث النباتي بعث المتوفى. هذه الرمزية من اللازم البحث عنها في الخواص النباتية للنخلة المثمرة، لمعرفة قدرتها على البعث وتعيين المياه، وكذا على التظليل وتوفير الغذاء. هذه الوظيفة الجنائزية لبستان النخيل تتأتى على الأرجح من مفهوم مماثل للمفهوم الذي وجدناه في كثير من تمثلات الحدائق الجنائزية في الامبراطورية القديمة. لنذكر مثلاً حديقتي مقبرتي سين - نجيم ورخميرع، حيث نجد شخصيات - ملاك المقبرة، خدم، كهنة - تعمل في الحديقة، في جذب المراكب وأعمال حقلية أخرى.
الشجرة المثمرة غير متوافرة إلا في الواحات، وبالأخص في تدمر، أريحا وعين جدي على البحر الميت. تامار Tamar (النخلة)، تتبدى كثيراً في العهد القديم، في أماكن جغرافية. بالنسبة للإغريق والرومان، كانت الضفة الغربية مشهورة بنخيلها.
تطور موضوع الأيقنة بدءاً من العصر البرونزي الوسيط والحديث، بعيدا إلى حد ما عن مناطق الثقافة، في مواقع قريبة من ساحل البحر المتوسط. إذ تبدى من دون ثمار - حتى عصور متأخرة، نحو القرن السابع قبل الميلاد - وبطريقة مخططة. في غالب الأحايين، مزدانة بحيوانات، طيور أو «ذوات الأربع». وهكذا، بتغيير صورة النخلة كما كانت في التقاليد القديمة في الشرق الأوسط، أصبح موضوع النخلة المؤسلبة المؤطرة بحيوانات مختلفة يرمز إلى توازن الطبيعة. على إبريق من مجدو، يرجع إلى القرن الخامس عشر قبل الميلاد، هناك طائران على الأرض ونخلة. جرة من مجدو، ترجع إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد، مزينة بعنزتين تشبان وتتناطحان ونخلة. الطيور أو الماعز رفقة النخيل كل لا يتجزأ يتجلى من مجال المقدس. تستطيع النخلة، بنوع خاص، أن ترتبط بالكون كمطلق نسائي.
خارج أقاليم الإنتاج
في الأقاليم التي لا تكون النخلة فيها موضوع ثقافة حقيقية، وكذا التمور صورة النضوج، نلاحظ أن موضوع النخلة يحتل مكانة مهمة. علاوة على شمال الرافدين، والساحل الشرقي، شهدت قبرص واليونان ميلاد أيقنة النخيل، قبل ألف عام على الميلاد. من بين الأمثلة المعتبرة، كأس لابسوس، المؤرخ ما بين 1050 و950 قبل الميلاد، مزين بنخلة حط عصفورين عليها، ختم ميسنس الذي يرجع إلى منتصف الألفية الثانية قبل الميلاد، يمثل التضحية بحيوان من ذوات الأربع أسفل نخلة، وأيضاً على جرة أثينية للرسام أكسيكياس، حوالي عام 540 قبل الميلاد، رسمة لانتحار آياس أسفل نخلة.
ربما أن انتشار هذا الموضوع في أقاليم لا تمتلك النخلة فيها وظيفة اقتصادية يتأتى من الاتصال بين الشعوب المتجاورة - الغزوات، المراقبة السياسية، الرحلات، والمبادلات التجارية. منتجات النخيل (الثمار، المحصول الطازج أو المجفف، «عسل» التمور) راجت وشكلت بصورة مبكرة شبكة من العلاقات مع الأقاليم التي لا تنتجها. وهكذا، اعتمدت حضارات قديمة النخلة وأدرجتها في مفرداتها الأيقونية والرمزية. تظهر بعض الموضوعات الرمزية الكبرى متواترة، وبذا تسمح بملاحظة رؤية الشجرة في كل ثقافة وديانة.
النخلة والمياه
تطورت رابطة المياه والنخيل على وجه الخصوص في عالم الشرق الأوسط ومصر. هذه المعلومة الإضافية، الأساسية على المستوى الفيزيولوجي، واضحة في الأيقنة الرمزية في بلاد الرافدين. على ختم الكاتب زغنيتا، المذكور سلفا، النخيل مرتبط بإله المياه الجارية إنكي، وهو يعرف الأمواج التي تحيطه، والتي تنبجس من إناء يحمله في يده. هذه المعلومة الإضافية عن المياه والنخيل تكتسب بعداً مهماً على وجه الخصوص في مصر، وبالتحديد في الامبراطورية الحديثة: نخلتان منتصبتان على ضفتي الأحواض والقنوات: تعرفان، رفقة أشجار الجميز، الحدائق الجنائزية الواجب زيارتها على المتوفى لكي يروي ظمأه. وكانت المقابر تقام في الصحاري، بعيدا عن مناطق الفلاحة المتميزة. صورة النخلة تذكر الميت بطلاوة المياه الجارية: في مقبرة نفر حتب، يجثو المتوفى لكي يرتوي من حوض تحيطه نخلات. في الشرق، بالارتباط السياسي والثقافي مع مصر، معلومة المياه والنخيل تتبدى في كثير من تمثلات الأسماك والأمواج. ختم سوري يرجع إلى العصر البرونزي الوسيط يمثل سمكتين تحاذيان جذع نخلة. على قدح من تل الحزر يرجع إلى نهاية الألفية الثانية قبل الميلاد، نرى نخلة تنعكس على مجرى مياه. على خلاف ما نتوقعه، تصوير محاصيل التمور غير منظم. تلك هي حالة اليونان التي يغيب فيها تصوير الثمار، وهو يماثل واقعة نباتية، إذ تبين النصوص أن النخيل شجرة غير منبتة لا تنضج ثمارها أو لا تنتج ثماراً على الإطلاق.
في المقابل، وضح تصوير الثمار المظهر الإنتاجي والغذائي للنخيل. في بلاد الرافدين، محصول التمور يتبدى أحيانا من دون نخلات. الآلهة ننهورساج مصورة دوما بين النخيل، وهذه الهيئة تبين سلطتها على الخصوبة. على نصب تذكاري وجد في مدينة «تلو» (جنوب العراق)، يرجع تاريخه إلى منتصف الألفية الثالثة قبل الميلاد. في مصر، تذكر نصوص الأهرام التمور والمياه كعناصر أساسية لتغذية المتوفى وإرواء ظمأه. تظهر في قوائم القربان بدءا من الأسرة الثانية. في فترة لاحقة، تؤسس التمور قربانا أوزيريا بنوع خاص.
في القرن الرابع قبل الميلاد، ذكر ثاوفرسطس (287 - 371) أن ثمار النخيل في قبرص لا تنضج أبداً. ومع ذلك، تشهد صور محاصيل التمور على وجودها في الجزيرة بدءاً من القرن السابع قبل الميلاد. ظهرت النخلة في طقوس جني الثمار، حيث نجد تشابها كبيرا بينها وبين طقوس بلاد الرافدين ومصر. في طقوس دينية، على كأس معدني قبرصي- فينيقي، وجد في كورياس (قبرص) صور جني التمور مع مشهد طقسي. وهكذا، النخلة مرتبطة بقوة بآلهة الطعام، التي تظهر أحياناً داخل الشجرة نفسها. وهذا ما نلاحظه على نقش بارز يرجع إلى الأسرة التاسعة عشر، الذي يبين الإلهة - الشجرة، اليدان والرأس تحمل التمور أو على وعاء قبرصي، من كورياس، حيث «الإلهة ترفع ذراعيها» داخل نخلة محملة بالتمور.
خلاصة
سعت المقاربة العرضانية لهذه الدراسة إلى الاهتمام بخلود موضوعة النخلة المثمرة، وهي تلاحظ في مرورها الاختلافات الفنية والايديولوجية لمختلف الثقافات التي ظهرت فيها هذه الموضوعات الرمزية.
النخلة، بعيداً عن الابتذال، بينت بصورة بسيطة الغرائبية الشرقية، بتصوير جمالي وتزييني، ولهذا ظلت محملة حتى يومنا الحالي برمزية دينية قوية. هذا الموضوع فرض نفسه على إقليم جغرافي عريض للغاية، متجاوزاً أراضي انتخاب الشجرة، في فترة طويلة الأمد. وهناك موضوعات نباتية أخرى مثل شجرة الأثل في مصر أو الزيتون في اليونان أو موضوعات «حقيقية» أو «خيالية» عرفت نجاحات كبيرة، ولكن من دون أن تتحصل على قدرة النخلة المثمرة الاستذكارية الثرية.
(*) المصدر:
-Fanny Michel-Dansac et Annie Caubet، « L’iconographie et le symbolisme du palmier dattier dans l’Antiquité (Proche-Orient، Égypte، Méditerranée orientale) »، Revue d’ethnoécologie، 4 | 2013