عـلي كـنعان

أبو الريحان البيروني من أعظم علماء الإسلام في الفيزياء والفلك والرياضيات وغيرها. يروى عنه أنه كان على فراش الموت يوم زاره أحد أصدقائه من الفقهاء الأجلاء. تناسى البيروني حالته الصحية وسأل صديقه: أود أن تحدثني عن حكم ما يسمى في الشريعة «ميراث الجدة الفاسدة». سأله صديقه بإشفاق: «كيف تريدني أن أحدثك عن ذلك، وأنت في هذه الحال؟» أجاب البيروني برجاء: «أن أرحل وأنا على علم بذلك خير من أن أرحل وأنا جاهل به». وأجابه الفقيه أن عبارة «الجدة الفاسدة» تعني الجدة التي لا يحق لها أن تنال شيئاً من الميراث، وهي الجدة التي تدلي بولد بين أنثيين.
هذه القاعدة الشرعية المأثورة أيقظها في ذاكرتي كتاب الباحثة الدكتورة خالدة سعيد الموسوم بـ «الثقافة والحرية»، ولا سيما في فصوله الأولى التي تناولت فيها إجرائيات اكتساب المعرفة بصورة عامة، واللغة العربية بوجه خاص، إضافة إلى أنها تطرح «أسئلة الحرية، حرية كل إنتاج ثقافي، وتأتي حرية الإبداع في رأس الاهتمام. لقد شعرت، وأنا في هذه السن المتقدمة من العمر، أن أفقاً جديداً تشرعه الباحثة أمامي، لم أكن على معرفة علمية به. وفي تقديري أن كثيراً من المتعلمين وبعضاً من كبار المثقفين العرب لم يلتفتوا إلى هذا الموضوع اللغوي والتربوي المهم.

الخليج.. الاستثناء
إن واقع التربية والتعليم في العالم أجمع، خاصة بعد ثورة الاتصالات، يعاني مشكلات شتى ويثير العديد من الأسئلة والانتقادات، ويزداد هذا الواقع في معظم البلاد العربية إشكالاً وتعقيداً وإحباطاً. ولقد عقدت مؤتمرات علمية شتى وصدرت دراسات ذات قيمة كبيرة، لم يستفد منها معظم البلدان العربية. ولعل الاستثناء الوحيد الذي تشير إليه الباحثة تمثل في بلدان الخليج العربي الذي راعى تراثه وبيئته وتقاليده الشعبية ولم يتنكر لها، إضافة إلى لبنان بعد الحرب.
وتبين د. سعيد أن اليابان حققت ما فشلت فيه «المدرسة» العربية، رغم أنها «بدأت نهضتها الحديثة متأخرة عن مصر والدولة العثمانية، غير أنها تعاملت مع المعارف الجديدة من داخل شروط الثقافة المحلية، وفي قلب البيئة الحِرَفية أو البنى والمؤسسات الحرَفية القائمة».
وتذكر في مستهل كتابها أن غالبية البلاد العربية تعاني معضلات مزمنة تتمثل بفشل «المدرسة»، ويتجلى هذا الفشل في تراجع اكتساب المعرفة وإنتاجها، على مستويات أساسية ثلاثة:
* مستوى اكتساب اللغة العربية كفاعلية حية وإبداعية.
* عمليات اكتساب المعرفة، من حيث هي كل متكامل.
* إنتاج المعرفة العلمية والتكنولوجيا ومعوقات هذا الإنتاج.
والباحثة ترى أن هذه المشكلات التربوية تتفجر تدريجياً، ويعانيها المعلمون والطلاب معاً، وهي ترجع في معظمها إلى خلل تكويني في «المدرسة» ناجم عن ذلك التصور الجامد لمؤسسات المعرفة. وتؤكد أن «المدرسة» في العالم، وحيثما كانت تقليدية انضباطية مغلقة، تعيش مرحلة حرجة. وترى أن الوقت لن يطول في بعض بلدان أوروبا، حتى يصبح البوليس جزءاً من المشهد المدرسي! أما المدرسة العربية، فهي تعاني مشكلات متداخلة مركبة، أشدها خطراً يتمثل في سلسلة من الانقطاعات تجعل المعرفة سكونية مغلقة وغير دينامية، بل عقيمة.

ازدواجية لغوية
ثم تنتقل الباحثة إلى الكلام على وضع اللغة العربية؛ لأنها لا تُكتَسب قبل المدرسة، ولا يتحقق تملكها وإتقانها في المدرسة. وتبدو هذه الصورة مؤسفة لأننا نعيش حياة مزدوجة ونمارس لغتين: لغة الأم المحكية في البيت والشارع والحياة اليومية وحتى في باحة المدرسة، أما اللغة الفصحى فهي مكرسة في المؤسسات الرسمية والدينية، باعتبارها لغة النصوص المتوارثة من المدونات الدينية والأدبية والخطابة، كما أنها ما زالت كذلك في معزل عن شؤون الحياة والتفاعلات اليومية. ولعلاج أحوال اللغة، عقدت مؤتمرات وخرجت توصيات ونشرت ملفات، لكنها ظلت بعيدة عن الاستفادة والتطبيق.
وإذا تأملنا بإمعان ظروف اكتساب اللغة الفصحى وشروط التمكن منها، نكتشف أن كل واحد منا لا يتعلم الفصحى بطريقة عفوية من محيطه الأول بين الأهل في سنوات الاكتساب التلقائي للغة بنظامها ومنطقها، ووفق الآليات الطبيعية في أي محيط لغوي، بل إن تعلم اللغة الفصحى يبدأ في مرحلة متأخرة بالقراءة والكتابة في المدرسة، وكأن تعلم لغتنا العربية الفصحى يتم وفق التسلسل المتبع لدى تعلم أي لغة أجنبية. وهكذا يبدأ الطفل علاقته بالعربية قراءة أولاً، ثم يأتي دور الكتابة بعد ذلك. وهنا يكمن التناقض في التعبير بين لغة الأم التي تبني القدرة على الكلام باللغة المحكية، لغة الحياة اليومية، وبين التعبير باللغة المكتسبة في المدرسة من خلال القراءة.
وتبين الباحثة، المتمرسة بتجربة تربوية غنية وطويلة، أن «القراءة ليست تعبيراً، بل هي تقنية وتلاوة لنص مكتوب مسبقاً، وهو نص قائم باستقلال عن القارئ». وهكذا، يتعلم الطفل اللغة الفصحى ويتلقاها، لا كلغة ثانية للتعبير، بل كلغة للقراءة والكتابة أرفع من لغة الأم وأرقى. وهنا يتجلى التناقض والازدواجية في أوضح صورهما بين لغتين:
- فصحى شريفة أو متقدمة للقراءة، قراءة النصوص المقدسة أو المكرسة كالشعر والخطب، إلى جانب قراءة الكتب الأخرى لاكتساب المعرفة.
- محكية أدنى من الأولى، لكنها أوضح وأيسر للتعبير العفوي واكتشاف المحيط والتواصل مع الآخرين، لأنها لغة الأم والبيت والمحيط الاجتماعي في الحياة اليومية.
ومواصلة البحث، تؤكد أن وسائط التواصل الاجتماعي الحديثة تشكل حافزاً جديداً لاستمرار هذا التناقض، لأن الكلام بالفصحى غير واجب في هذه الحال، بل إن التكلم بالفصحى بين رفاق الحي والمدرسة والعمل غير مستحب ولا لزوم له إلا في المناسبات الرسمية، لأن الحديث باللغة المحكية أبسط ويتم بيسر وسلاسة. وتبين الباحثة - كما تؤكد لنا سيرورة الحياة اليومية- أن التكلم بالفصحى بين الرفاق وفي التجمعات الشبابية بلا استثناء، وفي المناسبات الاجتماعية العائلية وغيرها، يترك انطباعاً سيئاً لأنه يسم المتكلم بالتكلف والتحذلق. والأدهى من ذلك أن الحديث بالفصحى بين الأهل والأصدقاء يتخذ سمات الاستخفاف والسخرية. وترى الكاتبة أن الذوق المعاصر السائد لا يستسيغ مثل هذا الخيار ولا يشجع عليه. وهذا يؤدي في المحصلة إلى تجاور لغتين وعيارين ومقتربين.
وتواصل الباحثة إيضاح الفكرة من جوانب متعددة، قائلة إن مشكلات الفصحى متولدة من التعامل مع هذه اللغة، في سنوات التعلم، حيث تدرس كغاية في ذاتها، كلغة للثوابت والمتعاليات وما هو «أشرف» من الزمن اليومي الذي يفسده التغير... وهذا ما يدفع إلى التماس الخلل في الموقع الأساسي الذي يجري فيه التعلم؛ أي المدرسة.

ميراث التلقين
ومن منظور تاريخي، نرى أن طرائق التعليم في معظمها قائمة على التلقين والحفظ، وليس على التفاعل والفهم والاستيعاب. إن المدرسة العربية المعاصرة وارثة لمدرستين تاريخيتين: الأولى هي المدرسة الدينية وما تقوم عليه من مبدأ القراءة والترديد والرواية عن السلف والأمانة للنص المقروء والحذر من التغيير، وبالأخص الحذر من التساؤل والتشكيك والابتداع والاختلاف. وذلك لأن تقاليد التعليم وموضوع العلم تضفي على المعلم والكتاب عصمة معرفية...
المدرسة الثانية هي الموروثة، منذ عصر النهضة العربية، أي المدرسة الأوروبية العقلانية والمَعمَلية التي برزت مع الثورة الصناعية ونشوء طبقة عمالية. وهذه المدرسة توجهت نحو تكوين عمال مرتفعي الكفاءة والانضباط الآلي، وإعداد النخب عن طريق البرمجة وتسريع التحصيل... وقد اقتبس العثمانيون هذه المدرسة مع السلطان محمود الثاني، كما أخذها محمد علي باشا وابنه إبراهيم باشا في مصر (خلال النصف الأول من القرن التاسع عشر)، ثم اتسع هذا الاقتباس في عهد الخديوي إسماعيل في النصف الثاني من ذلك القرن.
وتبين الباحثة خالدة سعيد أن هذه المدرسة هي سليلة المدرسة اللانكاسترية، نسبة إلى المربي والمصلح الإنجليزي جوزيف لانكاستر (1778- 1838) الذي أسس مدرسته النموذجية في لندن عام 1808، ثم انتشرت في الغرب خلال سنوات معدودة، كما اقتبستها مصر والدولة العثمانية ثم البلدان العربية في إطار تحديث الدولة. لقد أنشئت في أوروبا في ظروف الانقلاب الصناعي، وكانت أقرب إلى سلسلة الإنتاج، وهي تهدف إلى تأهيل عمال ذوي كفاءات متساوية وحركات وسلوكات جسدية متماثلة، منظمة ومنضبطة وقابلة للاستجابة المتماثلة.
وتوجز الكاتبة هذه اللمحة التاريخية بقولها: هذه المدرسة «الحديثة» هي ابنة الدولة «الحديثة» التي سعت بشكل متواصل إلى برمجة المجتمع وضبطه في مؤسسات منظمة تساعد على بسط الهيمنة والتحكم ومرور الأفكار والتعليمات والنظم.
وخلاصة البحث، أن الثقافة لا تزدهر ولا تتطور إلا في مناخ الحرية، وقد ورثت جميع الأحزاب السياسية في معتقداتها أيديولوجيا السلطة الدينية، وتحول المثقفون إلى«متحازبين» وأدوات لخدمة أحزابهم وزعامات تلك الأحزاب. وهكذا استمر الواقع على حاله عشرات السنين.