شهد مسرح أبوظبي أمس الأول واحدة من الليالي الرمضانية تداخل فيها الشعر والغناء بالإلقاء، قدمتها فرقة استوديو مركز الإبداع الفني التابعة لوزارة الثقافة المصرية، أمتعت الجمهور الكبير الذي ملأ جنبات المسرح، حيث أدت الفرقة مجموعة من اللوحات الإبداعية في مدح الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم، خلال عرض مسرحي غنائي عكس قدرات فنية مبهرة تتماشى مع الأجواء الروحانية للشهر الكريم. جاء العرض المسرحي المتميز ضمن فعاليات المهرجان الرمضاني السابع، الذي يسدل نهايته في الثالث والعشرين من شهر رمضان الحالي، ويرعاه سمو الشيخ سلطان بن زايد آل نهيان ممثل صاحب السمو رئيس الدولة رئيس نادي تراث الإمارات، وينظمه مركز سلطان بن زايد للثقافة والإعلام ونادي تراث الإمارات. خشوع وجلال حضر الفعالية حبيب يوسف الصايغ مدير عام مركز سلطان بن زايد للثقافة والإعلام ورئيس الهيئة الإدارية لمسرح أبوظبي، وشعيب عبدالفتاح المستشار الإعلامي للسفارة المصرية، وأعداد كبيرة من الجماهير المهتمة بفن الإنشاد الديني والقصائد النبوية المستمدة من التراث الشعري العربي على مر العصور. بخشوع وجلال يتناسب مع الكلمات الرائعة لأبيات قصيدة البردة للأمام البوصيري، التي بدأ أعضاء الفرقة في ترديدها، أخذ المنشدون بأرديتهم المشرقة في أداء وصلة افتتاحية تغزلت في الشمائل النبوية الكريمة، ودارت معانيها حول قيمة الصلاة على الرسول “صلى الله عليه وسلم”، وفي التقرب من المولى سبحانه وتعالى، وإضفاء السكينة على من يلتزم بها دوماً، والتذكير بأن تأدية الصلوات على الرسول هي امتثال لقوله تعالي (إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا) (الأحزاب:56) صدق الله العظيم، كما عددت كلمات الأنشودة مناقب الرسول الكريم وفضائله على البشرية، وبأنه أرسل هداية للناس كافة. إلقاء شعري مولاي صلي وسلم دائماً أبداً.. على حبيبك خير الخلق كلهم، كانت مدخلاً للوحة الغنائية التالية والتي صحبها إلقاء شعري لبعض من مقاطع بردة البوصيري في حب الرسول “صلى الله عليه وسلم”، وتضمن الأداء الشعري وصايا ترسم طريقاً للسير على نهج الرسول الكريم اتباعاً له وحباً في كل ما ورد عنه صلى الله عليه وسلم. وتشارك في أداء هذه الأشعار بعض من أعضاء الفرقة ليزينوا مسرح أبوظبي بتناغم فني فريد عكس قدرات ومهارات تعبيرية عالية، تحلّى بها أعضاء الفرقة، التي كانت جميعاً من الشباب الجامعي ذوي موهبة خلاقة مكنتهم من تقديم هذا الأداء الغاية في الإدهاش، وهو ما عكسه التصفيق الحار من الجمهور عقب كل فقرة يؤدونها مقطوعة غنائية أخرى بعنوان “محمد سيد الكونين والثقلين.. والفريقين من عرب ومن عجم” شهدت تناغما رائعا في الإلقاء، مصحوباً بخلفية موسيقية مبدعة، وأداء صوتي راق من أعضاء الفرقة أبرزوا من خلاله قدرات صوتية قوية ممتزجة بشجن جميل، انتزع إعجاب الحضور في جنبات المسرح فكان البعض يقول “الله.. الله”، لدى شعوره بنشوة السماع الصوتي الراقي الذي شكله أفراد فرقة مركز الإبداع الفني. أعقب ذلك أداء جماعي مبهر لشباب وشابات الفرقة، تغنوا فيه بمولد الرسول الكريم، الذي أبان عن طيب عنصره، حيث صاحب مولد الرسول الكريم أحداث جلل وعظام، لتبين قدر هذا الحدث العظيم في تاريخ البشرية. خير البرية وكشفت الفقرة التالية عن مجموعة أشعار رائعة سطرت ابتهاج الطبيعة من شجر ومدر وحجر، بمولد خير البرية، وهنا برع المخرج في التعبير عن قيمة ميلاد الرسول بوصفه الحدث الأضخم للناس عامة والمسلمين خاصة، وذلك من خلال التوزيع المدهش لأعضاء الفرقة على خشبة المسرح والتي بدت حركاتهم وملامح الوجوه، في صورة غاية في التعبير والتأثر بهذا الحدث الجلل، بما يعكس خضوع الفرقة لتدريب طويل وشاق حتى يظهر الأداء بهذا الجمال والروعة. جلوساً كانت الأنشودة التالية، والتي عنونت بـ”سريت من حرم ليلاً إلى حرم”، وتحدثت عن رحلة إسراء الرسول صلى الله عليه وسلم والتي تعتبر من أبرز معجزات النبي الأمي الأعظم، ومن خلال تعبير حركي مدهش وتوزيعات عبقرية للإضاءة استطاع أعضاء الفرقة توصيل معان إيمانية راقية وعظيمة ارتبطت بالتكريم الذي لاقاه الرسول الكريم أثناء رحلة الإسراء والمعراج. ومع مزيد من الألحان الشجية والكلمات الجميلة المعبرة تناولت الشعور بالأسف والندم على الذنوب والآثام الناجمة عن الابتعاد عن الطريق المستقيم الذي خطه أشرف الخلق لمن أراد الهداية والطريق القويم، ثم طلب الشفاعة من الرسول “صلى الله عليه وسلم”، لمساعدة الأنفس على العودة إلى طريق الرحمة والغفران من الله العلي العظيم. قهوة سادة بعد انتهاء العرض قال خالد جلال مخرج العرض والذي يشغل منصب وكيل وزارة الثقافة المصرية، إنها المرة الثانية التي يقدم فيها عروضاً في العاصمة الإماراتية وتحديداً في مسرح أبوظبي بمنطقة الكاسر، حيث سبق وأن قدم مسرحية “قهوة سادة” وحققت نجاحاً كبيراً بين الجمهور الظبياني آنذاك، وهو ما دفع المسؤولين إلى توجيه الدعوة له ولأعضاء الفرقة مرة أخرى لتقديم هذه التجربة الجديدة والطرح المميز لبردة الإمام البوصيري، والتي جاءت في قالب استعراضي غنائي حركي، يخرج بها عن النمط التقليدي الذي عرفت به البردة على مر العصور، حيث كانت أغلب الأحيان تعرض من خلال منصات شعرية ثابتة حتى لو كانت على خشبة المسرح، فلم يكن يصحبها أي أداء حركي أو تقسيمات متفاوتة للمجموعات البشرية التي تؤدي العرض، غير أنه حرص على كسر هذه القوالب الجامدة في التعامل مع بردة البوصيري، بحسب جلال. وحول قدرته على المزج الناجح بين عمله الإدارى كوكيل لوزارة الثقافة المصرية، والإخراج المسرحي، أكد جلال أن عمله الفني كمخرج هو الدائم كون تاريخ الفن باقيا ويصعب اندثاره إذا ما كان فناً جيداً، فالعمل الفني هو الأصل والأساس في مسيرته الحياتية، بينما منصبه في وزارة الثقافة، جاءه وفقاً للتسلسل الوظيفي الطبيعي بعد التحاقه بها عقب عودته من منحة لدراسة المسرح في إيطاليا نتيجة نجاحه بتفوق في دراسته للفنون المسرحية. منصات ثابتة وبالحديث عن دقة الأداء وكيفية التحكم في العدد الكبير لأفراد الفرقة، وكذا كيفية حفظهم وتعاملهم مع هذه الأبيات الشعرية، من خلال تقسيمات وتوزيعات متباينة على المسرح، أكد جلال أن العمل في هذا المشروع الفني استغرق شهوراً طويلة من التدريبات قبل ظهوره إلى النور وطرحه على خشبة المسرح للجمهور. وقال إن البردة قدمت عدة مرات على منصات ثابتة، ولكن هذه المرة قدمت بشكل مختلف وتخلل العرض حركات مسرحية وتقطيعات ضوئية جعلت الجمهور وكأنه يتابع مشاهد سينمائية ما جعل العرض ممتعاً ومثيراً لمزيد من التفاعل بين الشعر وبين الجمهور في المسرح ولفت مخرج العرض أن جميع أعضاء الفرقة من الطلبة الجامعيين يأتون ضمن مائة وستين شاباً وفتاة، نالوا منحة دراسية مجانية من صندوق التنمية الثقافية بوزارة الثقافة في جميع مجالات التمثيل والإخراج والديكور والأزياء وإدارة المسرح. واشار إلى أن هذا العرض تم عرضه مرتين فقط خلال الشهر الماضي في مصر، ويعتبر هذا العرض الأول له خارج مصر، ومنتظر أن يقوم بجولة في عدة بلدان أخرى، موضحاً أن هذه هي الدفعة الثالثة من فرقة استوديو مركز الإبداع الفني، وأن الدفعتين السابقتين شهدتا تخريج نجوم كبار في مجال الأداء المسرحي والغنائي وأصبح لهم مكانة معروفة في الساحة الفنية.