هذا العدد الذي يبدو متواضعاً الآن يمثل ثلث سكان الإمارات في ذلك الوقت والذي قدر الكتاب نفسه عددهم بحوالي 300 ألف نسمة· ورغم أن هذه الاحصائيات كانت تميل إلى تضخيم العدد، إلا أن الحقيقة تظل رغم هذا التضخيم لتبين أن السكان مقارنة بعددهم الآن كان يمكن جمعهم جميعاً في ساحة عامة أو مسجد كبير· وهذا ما جعلني أشعر بعد أيام من إقامتي أن جميع سكان أبوظبي يعرفون بعضهم البعض ويترابطون إما من خلال العمل المشترك أو التعارف والتلاقي بعد إنتهاء الدوام الرسمي، فلا يكاد وافد جديد يصل إلى المطار حتى تكون أخباره قد وصلت إلى معظم سكان المدينة وتسارعوا للتعرف عليه وتقديم ما قد يحتاجه من خدمات ومساعدات· الجو الحميم وكان هذا الجو الحميمي الرائع ينعكس من خلال الزيارات بين العائلات·· فلا تمر ليلة دون أن يكون هناك لقاء بين الأصدقاء أو الأقرباء لا فرق بين مواطن ووافد·· حتى كدت أتخيل أن جميع سكان أبوظبي في ذلك الوقت ليسوا إلا عائلة واحدة·· وأعتقد أن الأمر نفسه كان في بقية الإمارات·· فقلة عدد السكان من جهة، ومشاعر المحبة التي غمرت الجميع هي التي جعلت سكان كل مدينة يشعرون أنهم أسرة كبيرة· ورغم إدراكي أن التطور الذي حدث ووصول عدد السكان الآن إلى ما يزيد على ستة ملايين نسمة كان أمراً طبيعياً بل وضرورياً تم من خلال وصول الدولة إلى مستوى الدول الكبيرة القوية إلا أنني أتمنى في الوقت نفسه ألا تغيب ظاهرة المحبة والترابط التي لقيتها في زمن البدايات، فهي ظاهرة صحية وحضارية ونحتاج إليها في مسيرتنا الحالية المباركة· وقد التفت الشاعر الدكتور مانع العتيبة إلى هذه الظاهرة في إحدى قصائد ديوان ''لماذا'' عندما قال: أعودُ إليك رمال بلادي بحلقٍ مرير ودمع أمرْ فلا أستطيع التعرف حتى على واحدٍ من مئات البشرْ بناءٌ يطاول فيك السحاب وخضرة زرعٍ تسرُّ النظرْ ولكن تغيّر فيك الرجالُ وماضي المحبة فيك اندثرْ فصرتُ غريباً على أرض أهلي وصار عزائي الوحيد السفرْ لماذا نسينا زماناً جميلاً وجيلاً على شحِّ أرضي صبرْ وكيف أضعنا صفاء النفوس ودفء الوفاء ونور البصرْ أعودُ إليك بلادي حزيناً بدمعٍ على الرغم مني انهمرْ وأعلنُ أنك مهدي ولحدي حمى الله أرضك من كل شرْ وإذا كان عدد السكان في ذلك الوقت قليلاً مقارنة بعدد السكان الآن، فإنه كان أقل مقارنة بمساحة الأراضي·· فمساحة أبوظبي تصل إلى حوالي 80 ألف كيلومتر مربع ويبلغ عدد جزرها حوالي مائتي جزيرة· ··والبحر الكريم معظم تلك الجزر كانت بلا سكان·· ولم يكن مثيراً للدهشة أو الاستغراب أن نلجأ إلى إحدى هذه الجزر بعد رحلة صيد في المياه القريبة من أبوظبي وننصب فيها خيمة أو ننام على رمالها ونتجول فيها طولاً وعرضاً فلا نرى إلا طيور (اللوه) ببيضها المنتشر على رمال الشاطئ وفراخها الصغيرة التي تنتظر امتلاء الأجنحة بالريش لتبدأ الطيران وتعتمد على النفس في جمع غذائها من أسماك البحر الصغيرة· في إحدى هذه الرحلات مع الأخ عيد الظريف، هبت على زورقنا الصغير رياح الشمال·· وأقرب جزيرة كانت أمامنا هي جزيرة صير بونعير، فلجأنا إليها في اللحظات الأخيرة وعشنا ثلاثة أيام نأكل بيض (اللوه) ونتقاسم مياه الشرب القليلة التي كانت معنا، وندافع عن زورقنا بوضعه في ملاذ آمن من الرياح حتى لا يتحطم وعدنا بفضل الله وخبرة الأخ عيد الظريف بميكانيك إصلاح ماكينات القوارب بأمن وسلام إلى جزيرة أبوظبي ومعنا من خيرات البحر والجزيرة ما لا يمكن أن ننساه· جزيرة صير بونعير أو جزيرة القواسم لم تعد جزيرة غير مأهولة الآن·· ولا توجد حتى جزيرة واحدة غير مأهولة·· بل إن إمارة دبي قامت وتقوم بإنشاء جزر جديدة في بحرنا المعطاء·· وفوقها قامت المساكن الفخمة التي اجتذبت أغنياء العالم إليها· وهذا ما حدث أيضاً للسعديات التي كنا نصل إليها بالزوارق لقضاء يوم جميل على شواطئها الساحرة وتداخل البحر باليابسة فيها وتشكيل شجرة القرم مع بعض التداخلات المائية ما يشبه الواحات في الصحراء، حيث استطاع هذا النوع من الأشجار أن ينبت ويترعرع في المياه المالحة· لم يكن يمر علينا أسبوع واحد دون أن نصل بزوارقنا ذات المحركات الصغيرة إلى واحدة من جزر أبوظبي القريبة·· وفي كثير من الأحيان كنا نبيت فوقها، أسرتنا الرمال ومجالسنا السمر والتجمع حول النار التي كنا نجمع لها بعض الأعواد والأخشاب التي ألقت بها الأمواج على شاطئ تلك الجزيرة·· وفوق الجمر كنا نقوم بطهي عشائنا والذي يتكون عادة من الأسماك التي نصطادها ومن الأرز الذي نحضره معنا·· كانت الليالي تمر قصيرة بفعل السعادة التي كانت تغمر جميع المشاركين في هذه الرحلة·· وكانت المجموعة التي شاركتها في هذه الرحلات الجميلة تضم شباباً من أبناء أبوظبي مثل عيد الظريف وعبدالله النويس، وشباباً من البلاد العربية الأخرى مثل العراق والأردن وفلسطين ولبنان ومصر··· عندما أعود إلى بعض الصور القديمة أستعيد تلك الرحلات الجميلة·· وأستعيد المغامرات التي كانت تنتهي دائماً بسلام·· وأسأل نفسي: هل يمكن أن أقوم بمثل تلك المغامرة الآن رغم كل التطور الذي حدث سواء بالنسبة للزوارق وقدرتها على مقاومة الأمواج والعواصف·· بالنسبة لنظام الاتصال الذي يجعل الاستغاثة تصل إلى رجال الإنقاذ في خفر السواحل بزمن قياسي قصير·· ويكون الانقاذ بعد ذلك مؤكداً ومضموناً·· ولا أعتقد أن الإجابة عن هذا السؤال بنعم·· أمر سهل·· أو أن هذه النعم تأتي بلا تردد·· الآن بعد غربة عن البحر طويلة·· وبعد أن أثقلت سنوات العمر همة الجسد·· وبعد أن امتلأت جزر أبوظبي بالعمران والحضارة·· فإن الرحلة البحرية التي يمكن أن أقوم بها لن تكون أكثر من نزهة بسيطة لا أبتعد فيها كثيراً عن شاطئ أبوظبي الجميل· الشيء الذي يشعرني بالندم الآن، أنني لم أكن أسجل تلك الرحلات بالصوت والصورة، وكان بإمكاني أن أفعل ذلك بحكم أن مثل هذه التسجيلات كانت تدخل في صميم عملي كمعد ومقدم برامج تليفزيونية·· ولكننا في ذلك الوقت كنا نمارس الحياة·· ولم نعتقد ونحن في خضم هذه الممارسة أننا سنكون بحاجة إلى تسجيل خفقات قلوبنا وبسمات شفاهنا للأجيال القادمة التي نريدها أن تعرف أبعاد تجربتنا في هذا الوطن الجميل، لعلها تكون نافعة ومفيدة·· لذلك أقول اليوم بأسف حقيقي: ألا ليت الشباب يعود يوماً... فأخبره بما فعل المشيب