إنّ كلمة «التّسامح» هي من الكلمات المشكلة في معانيها رغم كثرة دورانها على الألسن في السّنوات الأخيرة. وإنّنا نعتقد أنّها تحيل أساساً على معنيين شائعين نودّ أن نتناولهما من المنظورين الدّينيّ والأخلاقيّ.

التّسامح بمعنى القبول
كثيراً ما تعترضنا عبارة: «التّسامح بين الأديان». وإنّنا نفترض أنّ شيوع هذه العبارة متّصل بانتشار بعض التيّارات السّياسيّة الدّينيّة من جهة وبتبنّي بعض الشّباب المنزع التّكفيريّ الّذي بلغ حدود الإرهاب أحياناً من جهة أخرى. واعتماد عبارة التّسامح في هذا المقام يفيد معنى القبول أي قبول وجود أشخاص وجماعات لهم أديان مختلفة ومعتقدات متنوّعة ورؤى متعدّدة.
وإذا كانت عبارة «التّسامح» تُعتمد خصوصاً في مجال الحديث عن علاقات الناس بعضهم ببعض في مجال المعتقدات، فإنّ كلمة «القبول» تعتمد أساساً عند الحديث عن «قبول الآخر». وفي الحالتين، تَطرح مسألة التّسامح العلاقة مع غير الجماعيّ إن من المنظور الدّينيّ أو من المنظورات الأخرى.
ومن المفارقات أنّ كلّ الأديان، حتّى وإنْ قدّمت نفسها بصفتها طريقاً أمثل وسبيلاً أكثر صحّة من سواها، فإنّها لا تقوم أبداً على نفي التّقاليد الرّوحانيّة المختلفة والمتنوّعة. بل إنّ القرآن مثلاً يقرّ أنّ الدّين عند الله الإسلام، لكنّه يؤكّد في الآن نفسه أنّ الإيمان حرّية ومسؤوليّة فرديّة إذ «... فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر...» (الكهف، 29). وليس هذا التّسامح قائماً فحسب على إقرار إخباريّ في القرآن، وإنّما هو من جوهر الإرادة الإلهيّة. فلنتذكّر قوله تعالى في الآية 99 من سورة يونس: «ولو شاء ربّك لآمن من في الأرض كلّهم جميعا، أفأنت تكره النّاس حتّى يكونوا مؤمنين؟».
أن لا تكره الآخر على شيء وأن تقبله كما هو، مهما يكن معتقده، هو إذن من جوهر الإرادة الإلهيّة. والإرادة الإلهيّة ليس لها مقابل، إنّها الموجب المطلق بصفتها نافذة بالضّرورة. والمتأمّل في مسألة قبول الآخر يجد أنّ هذا القبول حاصل بالقوّة لأنّ موضع الاعتقاد لدى الإنسان عصيّ عن كلّ تدخّل خارجيّ أو تأثير أجنبيّ.
لنفترض أنّك لست متسامحاً، لنفترض أنّك لا تقبل معتقد الآخر، فإنّ عدم قبولك لن يغيّر في واقع الأمر شيئاً. لنفترض أنّك تعنّف شخصا لتغيّر موقفه، فلن يمكّنك عنفك مهما يبلغ توحّشه من تبديل ما يقتنع ذلك الشّخص. وكلُّ ما قد تنجح فيه في أقصى الأحوال، هو أن تجعل الآخر يتظاهر بالتّخلّي عن معتقده الأصليّ. وحيث تتصوّر أنّك تزرع إكراها للآخر على اعتناق فكرة مّا، فإنّك لن تحصد إلاّ نفاقا ورياء. وهذا ما أثبته التّاريخ الّذي نقل لنا أحوالا شتّى لمجموعات بشريّة اضطرّت إلى إخفاء معتقداتها وممارسة شعائرها وطقوسها سرّا، ولكن لا أحد أمكنه أن يجبرها على تبديل أفكارها وتمثّلاتها العميقة.
إنّ التسامح بمعنى القبول هو بشكل من الأشكال قدَر للإنسان في علاقته بالإنسان الآخر المختلف. وهو تسامح تثبته الأديان ويؤكّده منطق التّعامل بين النّاس.
أذكر خبراً عن الرّسول صلّى الله عليه وسلّم مفاده أنّه قام إذ مرّت أمامه جنازة يهوديّ، فتعجّب أحد مرافقيه قائلا: إنّه يهوديّ، فما كان من الرّسول إلاّ أن أجابه: «وما له، أليست نفسا؟». إنّ هذه الإجابة شديدة العمق من حيث أبعادها الأخلاقيّة. فالتّسامح مع الآخر ليس فحسب قدَر الإنسان لخروج موضع الاعتقاد عن نفاذ الغير إليه، وإنّما التّسامح خصيصة أخلاقيّة منطلقها الجامع المشترك بين النّاس، وهو انتماؤهم جميعا إلى خلق الله تعالى، ففي نهاية الأمر كلّنا حاملون لنفحة الرّوح الإلهيّة. إنّ الله عزّ وجلّ كثيرا ما يخاطب في القرآن البشر جميعهم بلا استثناء بقوله: « يا أيّها النّاس»، بل القرآن يؤكّد أصل النّاس المشترك: « يا أيّها النّاس إنّا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إنّ أكرمكم عند الله أتقاكم إنّ الله عليم خبير» (الحجرات، 13). إنّ هذا كلّه يؤكّد أن ليس لأحد، مبدئيّا، أن يُعدّ نفسه أفضل من الآخر بما أنّه عزّ وجلّ وحده بدرجات تقوى النّاس عليم. وليس لأحد من ثمّ أن يرفض قبول الآخر بما هو عليه من صفات وخصائص ومعتقدات. إنّ البشر جميعاً أصل واحد وإن اختلفت صورهم وتنوّعت.. وليس من الصّدفة أن نجد العبارات المشيرة إلى الإطيقا والأخلاق تذكّر بجوهرنا الواحد، ألا نتحدّث عن الإنسانيّة؟ وألا نصف من يتسامح مع الآخرين ويهتمّ بآلامهم بأنّه إنسانيّ؟ وألا نَصِف الحروب الّتي هي تجسيم لرفض الآخر ونبذ التّسامح بأنّها لا إنسانيّة؟
إنّ التّسامح، بما هو قبول للآخر، يجسّم المشترك البشريّ بيننا أحسن تجسيم. فماذا عن التّسامح بمعناه الثّاني؟

التّسامح بمعنى العفو
أسلفنا أنّ التّسامح بمعناه الأوّل هو قبول للآخر في اختلافه جنساً أو لوناً أو فكراً أو معتقداً إلخ... وهذا القبول يتوجّه نحو الآخر المختلف الّذي لا يلحق بنا أذى. أمّا التّسامح بمعناه الثّاني، فيسائل موقفنا من الآخر إذا خرج عن القانون الأساسيّ الّذي يجمعنا نحن البشر، وهو أن لا تفعل لغيرك ما لا تريد أن يُفعل بك.
التّسامح بهذا المعنى الثّاني يفيد العفو. والعفو مفهوم فرديّ أساسا وليس مفهوما جماعيّا، فالتّسامح لا يعني غياب المحاسبة أو غياب تفعيل القوانين في حال اعتداء فرد أو مجموعة على الآخرين. التّسامح لا يعني أن لا تعاقب القاتل أو السّارق أو المعتدي وفق قوانين عادلة وصارمة لأنّك في هذه الحال تخرم نظام التّجمّعات البشريّة وتفقد الاجتماع البشريّ ضوابطه وحدوده. ألا يؤكّد الله تعالى أنّ لنا في القصاص حياة؟: «ولكم في القصاص حياة يا أولي الألباب لعلّكم تتّقون» (البقرة، 179).


إنّ تطبيق القانون وتفعيله لتنظيم المجتمع لازم وليس بأيّ وجه من الوجوه خرقا للتّسامح. التّسامح الّذي نحيل عليه في هذا السّياق مفاده أن يختار شخص أو جماعة ممّن يُطلق عليهم وفق العلوم النّفسية ضحايا، مسامحة الجلاّد أو المذنب. يمكن مثلا أن تعفوَ عائلة قتيل عن قاتل ابنها، يمكن أن يعفوَ سجين سياسيّ عمّن عذّبه، يمكن أن يعفوَ مشتوم عن الشّاتم إلى غير ذلك من سياقات العلاقات البشريّة اللاّنهائيّة إلخ...
ومهما تختلف المقامات وتتعدّد، فإنّ قوام التّسامح والعفو هو أن لا تحمل الضّحيّة في نفسها حنقا يبلغ حدّ الحقد أحيانا تجاه المخطئ أو المذنب أو المجرم. ومن هنا نتبيّن أنّه إذا كان التّسامح في معناه الأوّل أي القبول متّصلا بسلوك معيّن تجاه الآخر المختلف، فإنّ التّسامح بمعنى العفو متّصل أشدّ الاتّصال بالمجال النّفسيّ للمتسامح. إنّ التّسامح بمعنى العفو حركة جوّانيّة عميقة الدّافع إليها أمران أحدهما عقليّ والثّاني برغماتيّ.
-فأمّا الدّافع العقليّ للعفو فيستند إلى وعي عميق بأنّ كلّ فرد منّا قابل لأن يخطئ. لا ننسى أنّ كلّ نفس فيها الخير والشّرّ بالقوّة. يقول تعالى: « ونفس وما سوّاها- فألهمها فجورها وتقواها» (الشّمس، 7,8). ومن هنا فإنّه لا وجود لإنسان معصوم من الخطأ، رغم أنّ الخطأ وأنواعه درجات. «كلّ بني آدم خطّاء، وخير الخطّائين التّوّابون»، هكذا قال الرّسول صلّى الله عليه وسلّم. واستنادا إلى هذا المنظور، فإنّ التّسامح مع المخطئ يكون إقرارا ضمنيّا بمشترك بشريّ بالقوّة بين الجلاّد والضّحيّة وهو إمكان الخطأ. وقد يبدو أنّ هذا المشترك تَجسّم بالفعل لدى المخطئ فقط، ولكن نظرة حصيفة تبيّن لنا أنّ الحقد والكره والشّماتة وتمنّي الشّرّ للمذنب هو أيضا تجسّم بالفعل لخطأ وذنب. أذكر في هذا المقام حديثاً للرّسول مفاده أنّ رجلا أتى الرّسول بقاتل وليّه فقال له عليه الصّلاة والسّلام: اعف عنه، فأبى، فقال: خذ الدّية فأبى، فقال: اذهب فاقتله فإنّك مثله.
إنّ الإقرار بالخطأ إمكاناً بشريّاً هو ممّا يقود إلى التّسامح، لا سيّما إذا تظافر عليه وعي آخر بأنّ كلّ إنسان صنيعة عوامل سابقة له أثّرت في مساره وتمثّله للكون. ومن هنا يكون التّسامح محايثا لعدم إمكان الحكم على الآخر لأنّ لكلّ ظروفه وتجاربه.
وإنّنا إذ نذكّر مرّة أخرى في هذا المقام بالتّمييز بين الحكم الفرديّ القائم على موقف نفسيّ والحكم الجماعيّ القائم على تطبيق القوانين، فإنّنا نعتبر أنّ القرآن أشار إلى المشترك البشريّ لإمكان الخطأ بصفته داعيا إلى التّسامح. فقد بيّن القرآن أنّ جميع النّاس يطمعون في عفو الله تعالى، وهذا يقتضي أنّهم كلّهم يخطئون، فيفتقرون إلى العفو الإلهيّ. يقول عزّ وجلّ: «ولا يأتل أولو الفضل منكم والسّعة أن يؤتوا أولي القربى والمساكين والمهاجرين في سبيل الله وليعفوا وليصفحوا ألا تحبّون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم» (النّور، 22).
-هذا فيما يخصّ الدّافع العقليّ للتّسامح/‏ العفو، أمّا الدّافع البرغماتيّ فقوامه الوعي بأنّ غياب التّسامح أو الحقد والحنق والغضب لا يُلحقان في نهاية الأمر أذى إلاّ بمن يحملهما تجاه الغير. أليس من الطّريف أنّ اللّغة العربيّة تجعل في عبارات كثيرة الحقد، وما سار مساره، فاعلاً يضرّ صاحبه المتّصف به؟ إنّ هذا شأن القول الشّائع: «أكله الحقدُ» أو «أعمى عينيه الغضبُ» أو «ملأ قلبه هدفُ الانتقام» إلخ. إنّ العفو قبل أن يكون سماحة تهبها للآخر هو سماحة تهبها لنفسك. إنّ التّسامح من هذا المنظور، هو سبيل راحة واطمئنان وتصالح مع الذّات وسكينة للأعماق. ووفق هذا المنظور نقرأ اعتبار الله تعالى العفو خيراً للإنسان. ألم يؤكّد القرآن أنّ العفو أقرب للتّقوى: «... وأن تعفوا أقرب للتّقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إنّ الله بما تعملون بصير...» (البقرة، 237).
ممّا سبق نتبيّن أنّ التّسامح بمعنييه، معنى قبول الغير كما هو في اختلافه، ومعنى العفو عن المذنب، يجد جذوره في الأبعاد الرّوحانيّة للإسلام من جهة وفي المشترك الأخلاقيّ البشريّ من جهة ثانية. وهو في كلّ الأحوال يؤسّس لمفاهيم التّعايش والمحبّة في علاقة بالغير، ويؤسّس لـ»مشاعر السّكينة والاطمئنان في علاقة بالأنا.
إنّه من اللّطيف أنّ وزن فعل «تسامح» هو «تفاعل»، ومن معاني هذا الوزن التّظاهر بالأمر كما هو الشّأن في «تمارض»، والمشاركةُ كما هو الشّأن في «تعانق». فأمّا معنى التّظاهر فيتجسّم إذ يتحوّل «التّسامح» أحياناً إلى مجرّد كلمة شائعة «على الموضة» مثلما تشيع بعض التّقليعات. وفي هذا الإطار، نجد بعض السّياسيّين يستعملون عبارة «التّسامح» جسداً بلا روح ودالًاّ دون مدلول. أمّا إذا اعتمدنا كلمة «التّسامح» بمعنى المشاركة، وهو ما حاولنا في هذا المقال تحليله، فإنّها بدلالاتها المتنوّعة تذكّر دوما بأنّ البشر كلّهم، مهما تتنوّع صورهم وأشكالهم، ومهما تختلف رؤاهم ومعتقداتهم، ومهما تتعدّد انتماءاتهم وأجناسهم، إنّما يشيرون جميعاً إلى أصل واحد وإلى مشترك جوهريّ بينهم. ومن يصوّب قلبه نحو هذا الأصل الواحد لا يمكن إلاّ أن يكون التّسامح سمته الأساسيّة وبوصلة نفسيّته وسلوكه.

تسامح السياسيين بلا روح
من اللّطيف أنّ وزن فعل «تسامَح» هو «تفاعَل»، ومن معاني هذا الوزن التّظاهر بالأمر كما هو الشّأن في «تمارض»، والمشاركةُ كما هو الشّأن في «تعانق». فأمّا معنى التّظاهر فيتجسّم إذ يتحوّل «التّسامح» أحيانا إلى مجرّد كلمة شائعة «على الموضة» مثلما تشيع بعض التقليعات. وفي هذا الإطار، نجد بعض السّياسيّين يستعملون عبارة «التّسامح» جسداً بلا روح ودالاًّ دون مدلول.