بادئ ذي بدء سوف أقول: لا تسامح من دون تنوير ولا تنوير من دون تسامح. هذه حقيقة أصبحت بدهية. وهذا يعني أن هناك علاقة جدلية بينهما. ولإضاءة حالتنا العربية الراهنة سوف أطرح السؤال التالي: ما رأي كبار المفكرين بمسألة التعصب والتسامح؟ هل نحن متعصبون بطبيعتنا أم متسامحون؟ ينبغي ألا نخجل من طرح الأسئلة الحقيقية، الأسئلة المحرجة، الأسئلة الحساسة، وإلا فلن نخرج من المأزق.

هذه الأسئلة طرحتها المجتمعات المتقدمة في أوروبا وحلّتها. ولذلك لم تعد توجد فيها حروب أهلية بين مختلف المذاهب المسيحية. لم تعد هناك مجازر على الهوية بين كاثوليكي وبروتستانتي. التعايش السلمي بين مختلف الطوائف أصبح حقيقة واقعة في بلدان أوروبا. واعتراف المذاهب ببعضها بعضاً أصبح حقيقة واقعة أيضاً. وما عاد هناك كاثوليكي واحد يحقد على جاره البروتستانتي. فالتعايش الأخوي والوطني أو المواطني هو السائد. والجميع يعملون للمصلحة العليا للدولة والمجتمع. ولهذا السبب تقدموا وحققوا إنجازات حضارية ضخمة. ولكن ينبغي الاعتراف بأننا لم نستطع نحن حتى الآن تحقيق هذه الطفرة النوعية لا فكرياً ولا سياسياً. والدليل ما يحصل من مشاكل حالياً في العديد من مجتمعاتنا العربية أو الإسلامية، حيث يفرض المذهب الواحد أو الرأي الأوحد نفسه بكل قوة، ولا يسمح بالاختلاف أبداً. والسبب هو أننا لم نشهد بعد حركة تنويرية كبرى كما حصل في أوروبا، ولم ينتصر عندنا الفهم الفلسفي العميق للدين كما انتصر عندهم. ولكن يبدو أننا نقف على مشارف الدخول في هذه النهضة التفاعلية الخلاقة. وقد ابتدأنا نعاني ما نعانيه من مخاضات عنيفة واختلاجات هائجة.
مهما يكن من أمر، فإن كبار المفكرين في الغرب والشرق يقولون لك ما معناه: لقد ظهر مفهوم التسامح في أوروبا كرد فعل على التعصب الديني بعد أن عانت كثيراً من حروب المذاهب المسيحية فيما بينها، وبخاصة الحروب الكاثوليكية ـ البروتستانتية. فلولا إنهم ذبحوا بعضهم بعضاً على الهوية طيلة سنوات وسنوات، بل وحاولوا استئصال بعضهم بعضاً لما ظهر مفهوم التسامح كحل وحيد للتعايش، ولما شعروا بالحاجة إلى بلورة فهم جديد للدين والإيمان. فمتعصبوهم كانوا لا يقلّون خطورة عن متعصبينا ومتطرفينا. لولا إنهم عانوا ما نعاني منه نحن حالياً لما ظهرت كل تلك المؤلفات التنويرية العديدة التي تتحدث عن فضائل التسامح وتدين التعصب وشروره ومخاطره على المجتمع ككل. نذكر من بينها على سبيل المثال لا الحصر كتاب الفيلسوف الانجليزي الشهير جون لوك: «مقالة عن التسامح» 1667، أو كتاب الفيلسوف الفرنسي فولتير بعد مئة عام بالضبط وتحت العنوان نفسه تقريباً: «رسالة في التسامح» 1763 الخ..

التعصب أولاً
ينبغي علينا الاعتراف بالحقيقة التالية: ليس من السهل أن يكون المرء متسامحاً. ليس من السهل أن يقبل بالرأي الآخر المختلف عن رأيه وعقيدته. ليس كل الناس فولتير الذي قال: قد أختلف معك في الرأي ولكني مستعد لأن أضحي بحياتي لكي تستطيع التعبير عن رأيك! هذا موقف ديمقراطي لا يقدر عليه إلا الكبار، أو كبار الكبار. ولذا فان التسامح ليس هو الحالة الطبيعية للإنسان وإنما التعصب هو الحالة الطبيعية. ينبغي أن نعترف بالحقيقة. البشر ليسوا ملائكة! أما التسامح فهو حالة مكتسبة عن طريق التثقيف والتعليم والتهذيب وسن القوانين الجديدة التي تفرض علينا جميعا احترام كرامة الإنسان أياً يكن أصله وفصله أو دينه ومذهبه. وهذا موقف جديد في تاريخ الفكر ويشكل قطيعة كبرى مع العصور الوسطى. ولم تحصل هذه القطيعة حتى الآن إلا في المجتمعات المتقدمة كفرنسا وسويسرا وبلجيكا وهولندا.. هذا من دون أن ننسى البلدان الاسكندنافية التي هي أرقى الجميع: السويد، والدانمارك، والنرويج، الخ.. وبالتالي فالتسامح يتطلب من الإنسان أن يقوم بجهد ذاتي على ذاته لكي يتخلص من العصبية العمياء التي تربض في أعماق أعماقه: أي التعصب الأعمى لعقائد طائفته التي نشأ في أحضانها وتربى عليها منذ نعومة أظفاره. وهذه عملية ليست سهلة على الإطلاق بل ويرافقها تمزق نفساني ونزيف داخلي حاد. بعدئذ يمكن للمرء أن يعترف للآخرين ببعض الحق في الوجود وصحة العقيدة حتى ولو ظل يحب عقيدته أكثر من عقائدهم. فهذا شيء مفهوم. لا أحد يجبرك على أن تحب عقائد الآخرين مثلما تحب عقيدتك. ولكن بإمكانك إذا ما بذلت بعض الجهد على نفسك أن تتفهم حب الآخرين لعقيدتهم وأديانهم مثلما تحب أنت عقيدتك ودينك. وعن هذا التفهم العقلاني الموضوعي ينتج موقف التسامح والقبول بالتعددية.
ويساعد على ذلك توسيع المدارك الثقافية والعقلية للفرد عن طريق تدريس مادة تاريخ الأديان المقارنة أو علم الأديان المقارنة. وهي مادة غير موجودة للأسف في معظم جامعاتنا العربية حتى الآن. ولو أننا أدخلناها لعرف الإنسان العربي أو المسلم بأن هناك نواة أخلاقية مشتركة لدى جميع الأديان من دون استثناء ألا وهي: لا تقتل، لا تسرق، لا تزن، لا تكذب، لا تعتد على جارك، أحب لأخيك ما تحبه لنفسك، أشفق على الفقير والضعيف وابن السبيل... إلى آخر القيم والفضائل العليا. «فأما اليتيم فلا تقهر، وأما السائل فلا تنهر، وأما بنعمة ربك فحدث» كما جاء في الذكر الحكيم..
وبالتالي ففيما وراء الاختلاف الكبير في الطقوس والشعائر بين الأديان الكبرى هناك مبادئ كونية عامة تجمع بيننا كلنا، سواء أكنا مسلمين أم مسيحيين أم يهودا أم بوذيين أم هندوسيين أم كونفوشيوسيين أم حتى مؤمنين فقط بالفلسفة العقلانية التنويرية الحديثة كما هو عليه الحال فيما يخص معظم سكان الغرب حاليا. ومعلوم إن الذين يذهبون الى الكنيسة ويؤدون الشعائر الدينية في فرنسا لم يعد يتجاوز السبعة أو الثمانية بالمائة ومعظمهم من العجائز. ولكن هذا لا يعني أن الآخرين ليسوا مؤمنين بقيم أخلاقية محددة. فالواقع أنه لولا تقيّدهم بقيم أخلاقية معينة لخربت الدنيا عندهم، ولما توصلوا إلى كل هذا الازدهار الحضاري. نقول ذلك ونحن نعلم أن بلدانهم عامرة متطورة بل وأكثر تطوراً من كل البلدان الأخرى التي تمارس فيها الطقوس الدينية بكثافة. فالعبرة بالأفعال لا بالمظاهر الاستعراضية والأقوال.

قيم واحدة
ينبغي العلم بأن القيم التي نص عليها كانط مؤسس الفلسفة العقلانية الحديثة، تلتقي بالقيم التي نص عليها الإنجيل أو القرآن الكريم حيث تقول الآية الكريمة: «فمن يعمل مثقال ذرة خيراً يره. ومن يعمل مثقال ذرة شراً يره». وهذا مبدأ أخلاقي كوني ينطبق على جميع البلدان والشعوب. ومن اتبعه في سلوكه اليومي ربح الدنيا والآخرة.
وأخيرا يرى المؤرخ رينيه ريمون رئيس معهد العلوم السياسية في باريس سابقا، والذي توفى قبل بضع سنوات عن عمر يناهز الثامنة والثمانين، أن العالم الإسلامي يعيش حالياً أزمته الكبرى مع الحداثة وسوف يتغلب عليها لاحقاً كما فعلت المسيحية التي عاشت الأزمة نفسها في القرن التاسع عشر وتغلّبت عليها. وبالتالي فهناك مسافة مائة سنة أو مائة وخمسين سنة بين الأزمتين. فبعد أن كان المذهب الكاثوليكي يكفّر جميع الأديان راح يعترف بها ويعلن احترامه لعقائدها وإيمانها عام 1962. وأصدر عندئذ فتاوى لاهوتية جديدة جريئة جداً ومضادة للسابقة. وقال بما معناه: إننا نحترم عقائد المسلمين وإيمانهم ونريد أن نطوي صفحة الماضي الأليمة والسوداء إلى غير رجعة. نريد أن نطوي صفحة ألف وأربعمائة سنة من الصدام والصراع. وهذا انقلاب فكري وديني رائع ما كان ممكنا في الماضي، ولكنه أصبح ممكنا بعد أن تطورت أوروبا وتقدمت على الصعد والمستويات كافة. وبالتالي فالتطور ممكن حتى في الشؤون الدينية ولن تصلح أمور دنيانا قبل أن تصلح أمور ديننا: أي قبل أن نفهم ديننا بشكل صحيح وسليم. وسوف يجيء الوقت الذي تستنير فيه شعوبنا العربية إسلامية كانت أم مسيحية. وإن غداً لناظره قريب..
فيما يخص تصريحات بول ريكور ورينيه ريمون وسواهما من كبار المفكرين عن التسامح أحيل القارئ إلى الكتاب الجماعي الصادر في باريس عام 1998 بعنوان: «التعصب». لا نستطيع التحدث عن التسامح بدون ذكر المعاكس له: أي التعصب. لا نستطيع أن نفهم هذا إلا على ضوء ذاك. وهو في الأصل يضم بين دفتيه مداخلات المؤتمر الدولي الكبير الذي عقدته اليونيسكو في باريس عام 1997 بالتعاون مع جامعة السوربون. وقد شارك فيه كبار المفكرين من شتى أنحاء العالم. نذكر من بينهم أمبرتو إيكو الذي قال بأن التعصب ضد الآخر شيء طبيعي لدى الطفل الذي يرغب في امتلاك كل ما هو موجود أمامه ويعجبه. ولا يريد لطفل آخر أن ينافسه على ذلك. وأما التسامح فهو نتيجة التعلّم التدريجي شيئاً فشيئاً. ليس من السهل أن تكون متسامحاً. وهذا يعني أن التعصب شيء فطري يولد مع الإنسان، أما التسامح فشيء مكتسب يُنال عن طريق المدرسة والتعليم والثقافة. وأما من الجهة العربية أو الإسلامية فقد أسهم في تأليف هذا الكتاب الممتع كل من المفكر التونسي محمد الطالبي والمفكر الجزائري محمد أركون. فالأول قدم بحثاً بعنوان: «التسامح والتعصب في التراث الإسلامي». أما الثاني أي أركون فقد قدم بحثاً بعنوان: «التسامح والتعصب وما لا يطاق أو لا يحتمل في التراث الإسلامي». نسيت أن أضيف إليهما الباحث الجزائري مالك شبل الذي قدم بحثاً بعنوان: «التسامح والتعصب على ضفتي البحر الأبيض المتوسط كلتيهما». لا أستطيع الدخول في تفاصيل كل هذه الأبحاث القيمة ولكن مجرد وجودها في مؤتمر عالمي كهذا يدل على مدى قوة الحضور العربي والإسلامي في الساحة الدولية. فالصوت العربي مسموع والصوت الإسلامي مسموع في المحافل الدولية وبخاصة في مؤتمر كبير كهذا يعقد في رحاب اليونيسكو.
على أي حال نلاحظ من خلال استعراض كل هذه الأبحاث والمداخلات أن التصور الفلسفي التنويري الحديث للدين يختلف كلياً عن تصور العصور الوسطى الذي عشنا عليه قروناً متطاولة ولا نزال. وبالتالي فليس من السهل تبنيه. يصعب علينا أن نقطع دفعة واحدة مع التصورات الموروثة القديمة. يصعب علينا أن نعترف بأن دين الآخرين له علاقة بالحقيقة وليس خاطئاً أو باطلاً كلياً كما كنا نعتقد سابقاً. يصعب علينا أن نعترف بالحرية الدينية بالمعنى الحديث للكلمة: أي حرية التدين أو عدم التدين ومع ذلك تظل مواطناً. يصعب علينا أن نعترف بمشروعية التعددية الدينية والمذهبية في المجتمع الواحد. أوروبا كانت أيضاً هكذا قبل أن تستنير وتتحضر وتنتشر فيها الأفكار العلمية والفلسفية على أوسع نطاق. ينبغي الاعتراف بأن المفهوم الانغلاقي القديم للدين يؤدي إلى صدام الحضارات، في حين أن المفهوم الحديث المنفتح المتسامح يؤدي إلى حوار الحضارات بل وتحالف الحضارات وتعاونها المشترك لما فيه خير البشرية. هذه القضية المهمة سوف تشغل العالم العربي حتما في السنوات القادمة.

من الدراسات العربية المهمة في موضوعة التسامح والتعصّب، يمكن تسجيل العناوين التالية:
ـ «التسامح والتعصب في التراث الإسلامي»، للمفكر التونسي محمد الطالبي.
ـ «التسامح والتعصب وما لا يطاق أو لا يحتمل في التراث الإسلامي»، للمفكر الجزائري محمد أركون.
ـ «التسامح والتعصب على ضفتي البحر الأبيض المتوسط كلتيهما»، للباحث الجزائري مالك شبل.
وقد وردت في كتاب بعنوان «التعصب» صدر عام 1998 في باريس، وهو حصيلة مؤتمر عقدته اليونيسكو في باريس عام 1997 بالتعاون مع جامعة السوربون، وشارك فيه كبار المفكرين من شتى أنحاء العالم.