د. حورية الظل

العمارة المستقبلية فن من الفنون البصرية، كالنحت والرسم. والمباني المستقبلية تشكل أعمالاً فنيةً على غرار اللوحات والمنحوتات ولها وظيفة جمالية أيضاً، لكن ما يميزها، جانبها النفعي، والعالم العربي أصبح مهتماً بهذا النوع من العمارة، والكثير من الدول العربية أغنت الفضاء البصري لمدنها بصروح معمارية مستقبلية، وكمثال على ذلك: جسر الشيخ زايد في أبوظبي، وبرج خليفة بدبي، ومطار الكويت الدولي، ومسرح الرباط الكبير بالمغرب، وأوبرا دبي وغيرها، وتمتلك هذه المباني خصائص العمارة المستقبلية، حيث تنتمي للعمارة الذكية وينزاح شكلها إلى التجريد، إذن كيف استطاع مهندسو المباني المستقبلية أن يجعلوا من تصاميمهم المعمارية قطعاً فنيةً، وكيف تمكنوا من الاتكاء على الفلسفة والفنون لمنح مبانيهم خصوصيتها وفرادتها؟

هدم الحدود
بما أن الفنون الجديدة أضحت تتبادل التأثر والتأثير، لدرجة هدم الحدود والتداخل والاندغام فيما بينها، فتحيل على استفادة الأجناس الفنية من بعضها البعض، فهل نتيجة هذا التداخل لا يزال للفنون البصرية، منذ كاندنسكي إلى اليوم، حدود؟ وهل استفادة المعماري من المدارس الفنية تؤكد مقولة التداخل بين الأجناس الفنية، وهل اتكاؤه على بعض الاتجاهات الفلسفية تأكيد لما قاله أندرو بنجامين: «الفلسفة لا تستطيع أبداً أن تتحرر من العمارة».
إذن، ما هو دافع المعماري ومحفزه لتجاوز الحدود المرسومة في العمارة التقليدية واقتحام حقول فنون أخرى واتجاهات فلسفية ليطوعها لرؤيته الخاصة ويذوبها في تصاميمه؟ وهل جنوحه إلى ذلك، هو من أجل تحقيق الخصوصية والاختلاف في عمله وتطوير ممكناته الفنية والجمالية وتكثيف تجربته والتأسيس لشكل مغاير في العمارة الجديدة؟ وما أثر كل ذلك على المتلقي؟ وعلى المدينة المستقبلية ككل؟
تُجسد العمارة المستقبلية الجديدة شراكة وطيدة مع بعض المدارس الفنية والاتجاهات الفلسفة، فينتج عن ذلك، انحياز المعماري لما هو جمالي وفني وفكري، لأن العمارة نفسها فن من الفنون، وحضور الفن مثلاً، في العمارة ليس وليد الوقت الراهن، وإنما حضر في العمارة منذ القديم، حيث قام الإنسان الأول بتزيين كهوفه التي سكنها بالرسوم، لذلك فإن المعماري المستقبلي، يتكئ على المدارس الفنية والاتجاهات الفلسفة في ابتكاره لتصاميمه المعمارية.

أثر المدارس الفنية
من المدارس الفنية والاتجاهات الفلسفية التي تأثر بها المعماريون في إنجازهم لتصاميمهم المستقبلية، نذكر على سبيل المثال لا الحصر، التفكيكية والسوبرماتية والبنائية وغيرها. وما يمكن تأكيده فإن العمارة المستقبلية الجديدة، تتكئ على ما هو فلسفي وفني لتحقيق ما هو جمالي ونفعي، إنه نوع من «التكثيف للمكنات» حسب الناقد المغربي فريد الزاهي، حيث يسعى المعماري إلى جعل البناء منسجماً ومتكاملاً ومتناغماً مع فراغاته وتكوينه الداخلي ومظهره الخارجي ومحيطه.
ويتجلى تأثر العمارة المستقبلية بالمدارس الفنية في انحيازها إلى التجريد، وهو أمر يؤكد تأثرها بالبنائية، ويعود أصل هذه الحركة الفنية إلى روسيا، حيث ظهرت في مطلع القرن العشرين، ومؤسسها هو النحات والرسام الروسي «فلاديمير تاتلين»، وكان لها بالغ الأثر على الحركات الفنية بعد ذلك في أوروبا، ويستعمل فنانو هذه الحركة خامات نصف مصنعة؛ كالبلاستيك والمعادن والأسلاك، لبناء منحوتات تجريدية، وهدفهم من وراء ذلك، خلق فن جديد سهل الإدراك ومفيد اجتماعياً، ولهذا كان لهذا الاتجاه الفني، بالغ الأثر على العمارة المستقبلية الجديدة، حيث شجع المعماريين على استخدام الخامات الحديثة وتبني الأشكال التجريدية، لجعل المباني المعمارية مستدامة وذات قيمة جمالية ووظيفية.
كما نلمس أثر التجريدية الهندسية واضحاً على العمارة المستقبلية، وهي ترجمة للفكر التجريدي الجديد، ومن روادها «موندريان».
وهناك من الدارسين من يرى بأن العمارة المستقبلية: «تستقي حدودها من النظرية النسبية التي كشفت عن البعد الزمني الذي يعبر عن الحركة والطاقة، واقتران الحركة مع الضوء الذي يعمل على تحطيم المادة (أي الأشكال) لتكشف عما وراءها وتكون في حالة اندماج».
ولا يمكن أيضاً إغفال تأثر العمارة المستقبلية الجديدة بالسوبرماتية التي أسسها كازيمير ماليفيتش سنة 1913، حيث تميزت أعماله بالديناميكية، والعمارة المستقبلية الجديدة تدين بالكثير لهذه الحركة الفنية التي استمرت إلى حدود 1920، ورغم عمرها القصير كما هو الحال بالنسبة للتكعيبية، فقد أثرت في الكثير من المدارس الفنية التي جاءت بعدها، كالمدرسة التجريدية الهندسية والمستقبلية الجديدة، وتعتبر السوبرماتية مغامرة رجل واحد، حسب النقاد الغربيين والذي هو كاسيمير ماليفيتش، كما سبق ورأينا.
وما جعل العمارة المستقبلية الجديدة تتأثر بمبادئ السوبرماتية، كون هذه الأخيرة وقفت على حافة التجريد وتخطته إلى اللانهائي والمطلق، حيث اعتُبرت أعمال ماليفيتش لا واقعية، لأنه ساح من خلال أشكاله الهندسية في عالم لا نهائي يسمه النقاء التام، فاغترف المعماريون المستقبليون من تجربته وتأثروا بها، وتجلى ذلك في دمجهم للنظريات العلمية والأفكار الفلسفية والفنية مع اختراعات العصر والخيال العلمي في تصاميمهم، فحاولوا تبسيط العالم الذي يتجاوز مجال إدراكنا، أي العالم الخيالي، وتقديمه بطريقة فنية، فمزجوا بين الرؤية العلمية والتصور الروحي والفلسفي والفني، فحققوا خصوصية تصاميمهم الجمالية، كما يسر لهم ذلك تحقيقهم لنفعيتها واستدامتها، وبدا أثر السوبرماتية في العمارة المستقبلية الجديدة أيضاً، من خلال إحداث المعماريين المستقبليين لقطيعة مع الماضي، فانطبق عليهم قول ماليفيتش: «لقد حوّلت نفسي إلى الشكل الصفر، وسحبت نفسي من بركة الفن المدرسي المكتظة بالقمامة. لقد دمرت حلقة الأفق، وهربت من دائرة الأشياء ومن الأفق الدائري الذي يقيد الفنان ويقيد أشكال الطبيعة».
وما ميز السوبرماتية وجعلها قادرة على التأثير في العمارة المستقبلية الجديدة، اعتمادها الأشكال الهندسية البسيطة والمجردة، والأشكال غير المكررة، لذلك كان أثرها كبيراً على هذه العمارة، حيث المباني المستقبلية لا تتكرر، فلكل بناء خصوصياته ومميزاته على مستوى الشكل، نظراً لمراعاة الفنان المعماري للمحيط وللتلقي الجمالي ولرؤيته الخاصة، وأيضاً لوظائف المبنى، لذلك تبنى المعماريون المستقبليون شعار السوبرماتية وهو «اخلق، لا تكرر».
كما تأثر المعماريون المستقبليون، كذلك، بالأشكال الهندسية الخالصة التي تبناها ماليفيتش في أعماله الفنية، والتي تُنبئ بعوالم لا نهائية، حيث اعتمد أساساً على المربع والمثلث والمستطيل والدائرة، بالإضافة إلى الخطوط المستقيمة والمنحنية، وما ميز هذه الأعمال، هو طفوها على خلفية بيضاء، فتبدو وكأنها سابحة في الفضاء، وذلك لكي ينفي عنها الثبات ويمنحها حركيتها، ونفس الأمر نجده في العمارة المستقبلية الجديدة التي تبدو من خلال أشكالها وخطوطها وكأنها تقاوم الجاذبية في الكثير من النماذج، وأيضاً يبدو أثر ماليفيتش على العمارة المستقبلية من خلال اعتماد المعماريين المستقبليين للألوان الأحادية والنقية، والتي تؤكد خلفية المعماري التي تضرب عميقاً في الروحي والمطلق.

فن التجهيز في الفراغ
تلتقي العمارة المستقبلية مع فن التجهيز في الفراغ كذلك، وهذا الفن يقوم على الفكر، حيث الأشكال المنجزة بخامات يمتلك الفنان التشكيلي حرية اختيارها لتخدم فكرته ورؤيته الفنية والجمالية، ويطلق على فن التجهيز في الفراغ، فن الفكر، ونفس الاسم يمكن أن نطلقه على العمارة المستقبلية الجديدة، فهي أيضاً يمكن أن نسميها فن الفكر، نتيجة اعتماد المعماري على التكنولوجيا واختياره للمواد التي تمكنه من تجسيد أفكاره ورؤاه الفنية والجمالية على أرض الواقع، فتبدو التصاميم المعمارية المستقبلية منزاحة عن المألوف، فيزيد ذلك من: «القوة التعبيرية للمبنى».
أما التفكيكية، فإنها من أهم الاتجاهات التي أثرت في العمارة المستقبلية الجديدة، وهي منهاج أدبي ونقدي ومذهب فلسفي معاصر يقوم على التفكيك واللاترابط، ومُنظّر هذا الاتجاه هو الفيلسوف الفرنسي جاك دريدا (1930- 2004) والتفكيكية جعلت العمارة المستقبلية تتطور وتعتمد أساليب وأشكالاً جديدةً، فقام المعماريون المستقبليون في بداية التسعينيات من القرن العشرين، بالاتكاء على مبادئها، لتقديم صيغ غير مألوفة في العمارة، تخلق قطيعة مع الماضي وتتجه نحو المستقبل، حيث يعمل من خلالها المعماري، حسب الناقد ياسر صاروط، على: «التلاعب بالسطوح بأشكال غير متوازية الخطوط، وزوايا غالباً ما تكون حادة بدلاً من الزوايا القائمة، فتظهر العناصر المعمارية وكأنها مشوَّهة أو مخلخلة، ويبدو المبنى في النهاية وكأنه فوضى منظَّمة».
ونفس الأمر ذهب إليه أستاذ العمارة المصري خالد محمود هيبة؛ فهو يرى بأن المعماري الذي يتكئ على التفكيكية: «يقوم بتفكيك الكتلة المعمارية إلى مجموعة من الوحدات المتشابهة وغير المتطابقة، ثم يعيد ترتيبها وتجميعها بشكل مختلف، مغاير ومخالف لكل ما هو تقليدي ومعتاد».
وما يؤكد أهمية الاتجاه التفكيكي وبالغ أثره على العمارة المستقبلية، أنه مع بداية ظهور العمارة المستقبلية الجديدة، أصبحت التفكيكية اتجاهاً أكاديمياً في بعض أقسام العمارة والأدب والفن في الجامعات الأميركية، ويدعو هذا الاتجاه إلى هدم كل أسس العمارة التقليدية وتوظيفها بطريقة معكوسة، وإلى إخضاع المباني التي يتبنى معماريوها هذا الاتجاه إلى التكسير واللاتماثل، والتشويش ونبذ العلاقة بين الداخل والخارج، وجعل العمارة الجديدة تميل إلى اعتماد الأشكال المائلة والمتكسرة، والتي لا ترتبط بمحددات أو زوايا، والمتكررة والتصادمية، والانسيابية، فيبدو شكل البناء متداخلاً ومتوتراً ومتحركاً في كل الاتجاهات.
لذلك، فإن الاتجاه التفكيكي يساعد المعماري على الدمج بين الرسم والنحت، لدرجة إلغاء الفروق بينهما فتتم: «إعادة خلطهما وصهرهما في بوتقة معمارية جديدة ومعاصرة، وهي تصف الأشكال الطبيعية، كالجبال وأمواج البحر، أو أفرع الشجر، أو أوراق الشجر، أو كرات الثلج وغيرها».
ومن المعماريين المعروفين باتّباعهم لهذا الاتجاه، المعماري الأميركي فرانك جِيهري، الذي أنجز قاعة والت ديزني للحفلات بمدينة لوس أنجلوس عام 2003 ومشروع «المبنى الراقص» بمدينة براغ التشيكية عام 1996، فاعتمد في تصاميمه الأشكال التصادمية المائلة، وأيضاً المعماري البولوني دانييل ليبسكِند، والهولندي ريم كوولهاس، والفرنسي برنار تشومي، بالإضافة إلى العراقية زها حديد، لكن بعض النقاد قاموا برفض هذا الاتجاه، ومن هؤلاء «وولفجانغ بهنت» والذي اعتبر هذا النوع من العمارة كارثة جمالية، لكن بيتر أيزنمان وهو أحد رواد العمارة التفكيكية، له رأي آخر حيث اعتبر: «العمارة التي تتكئ على التفكيكية، تقوم بالبحث في القبيح عن الجميل، واللامنطقي في المنطقي».
ومن أمثلة استيحاء الفنون في العمارة المستقبلية أيضاً، مبنى أوركسترا باريس والذي أنجزه المعماري الفرنسي جان نوفيل، متأثراً في إنجاز تصميمه بالموسيقا، فاتكأ على: «ذلك الشعور الآني الخفي الذي تولده الموسيقا لدى المتلقي من تدفق الخيالات وتحليق في السماء، فجاءت خطوط المبنى متدفقة تطفو بسلاسة وانسيابية من الداخل والخارج...ليمنح المتلقي ذلك الإحساس الجذاب المطلوب بصرياً، قبل أن يتحقق صوتياً، من خلال ما يؤدى داخل القاعات في تناغم متواصل ما بين العناصر كافة».
وبناء على ما سبق، فإن المعماري المستقبلي قام من خلال اتكائه على المدارس الفنية والاتجاهات الفلسفية، على سحب نفسه لمنطقة معزولة عن العمارة التقليدية، فهو لم يُجسّر معها، ليتسنى له تبني أشكال معمارية منزاحة عن المتعارف عليه وخاضعة لرؤيته الفنية والجمالية، فتأكد بذلك انفتاح العمارة المستقبلية الجديدة على المدارس الفنية والاتجاهات الفلسفية، وهو أمر جاء استجابة أكيدة لروح العصر وللواقع الراهن بثورته الرقمية والتكنولوجية والفنية، كما أن هذا الانفتاح يعد من مصادر قوة هذه العمارة وتجددها.