حسام نور الدين
في ثقافتنا السينمائية الشائعة يخلط البعض أحياناً بين وظيفة مدير التصوير والمخرج، فنجد من يمتدح مدير التصوير لاختيار الزوايا، العدسات، أو حجم اللقطات، في حين أنها كلها من صميم اختصاصات أي مخرج يحترم مهنته. فمدير التصوير تتحدد قيمته، ومكانته الفنية تبعاً لإضاءة المشهد أو اللقطة، فمن هنا نستطيع الحكم عليه، وعلى حساسيته، وهذا أيضاً ينقلنا لسؤال آخر: هل المشاهد الخارجية تعد مقياساً واضحاً للحكم على موهبة المصور، أم المشاهد الداخلية؟ ودون تعقيد، نرى أن هناك حالات معينة لمشاهد خارجية يبدعها المصور (خاصة قبل اختراع التكنولوجيا الرقمية) في استخلاص أجمل ما في الضوء الطبيعي، وفي استغلاله لحظة لونية معينة، بَيد أنه في هذه النوعية من المشاهد الخارجية سيتحكم في عمل المصور- شاء أم أبى- عوامل أخرى بالسلب أو الإيجاب مثل: المناخ وتقلباته، ودور معمل التحميض بعدها. أما المشاهد الداخلية التي يخلق ويصمم فيها المصور إضاءته في حرية ودون قيود نسبياً، فتعد أكبر معيار من معايير الحكم على جودة عمله، وحجم عطائه في الفيلم، فضلاً بالطبع عن مهاراته، وصفاته الأخرى مثل: تحكمه في حركة الكاميرا، جرأته، وذكائه في المشاهد الخارجية الصعبة،.. إلخ. ولعل ما سبق يجرنا تلقائياً للحديث عن واحد من أوائل الأسماء التي يضعها المختصون، والنقاد في قائمة الأفذاذ في عالم الضوء والتصوير السينمائي في القرن العشرين نستور هيرمنيو المندروس (1930- 1992)، المولود في برشلونة بإسبانيا، لكنه رحل مع أسرته في عمر الثمانية عشر إلى كوبا هرباً من قمع الجنرال/ فرانكو، فأنشأ مع رفاقه جمعية لهواة السينما في هافانا، وكتب مقالات نقدية كثيرة، ثم قرر السفر إلى روما لدراسة السينما في المركز التجريبي، ليسافر بعدها إلى نيويورك، فيحرص على مقابلة مجموعة من المخرجين، والمصورين التجربيين المعروفين مثل: مايا ديرن التي أثرت فيه كثيراً على المستوى المهني لاحقاً، ثم عاد إلى كوبا، وأخرج مجموعة من الأفلام التسجيلية، والقصيرة عام 1959 بعد نجاح الثورة، لكن تم منع بعض أفلامه، بعدما لم ترق لنظام/ كاسترو
أفلامه وأفكاره المبتكرة
رحل مبدعنا الإسباني مجبراً من كوبا إلى باريس عام 1961، ليلتقي مصادفة بأهم المخرجين من أصحاب الموجة الفرنسية الجديدة - مثلما كان يتمنى- وبعد سنوات صعبة قضاها دون عمل، يتعاون مع المخرج الشهير فرانسوا تروفو الذي صور له تسعة أفلام، وتعاون كذلك مع إريك رومير في سبعة أفلام، وحصل على أهم جوائز (السيزار) الفرنسية عن فيلمه (المترو الأخير- 1980)، بالإضافة إلى جوائز أخرى مهمة من جمعية النقاد الأميركيين عن فيلميه اللذين صورهما بالأبيض والأسود (الطفل المتوحش- 1970 )، و(ليلتي عند مود 1969)، ثم سافر إلى أميركا ليصور مع المخرج الموهوب تيرنس ماليك فيلم (أيام السماء 1978)، فحصل على جائزة الأوسكار في التصوير، ورشح لنفس الجائزة بعدها في أفلام أخرى مثل: (كرامر ضد كرامر- 1979) إخراج روبرت بنتون، و(اختيار صوفي – 1982) للمخرج ألان باكولا، وصارت لأعماله مكانة عالمية كبرى، ولا تزال الدراسات عن إسهامه الفني الأخاذ تدور حتى الآن، رغم وفاته من سنوات، ولقد كان منهجه الواقعي يعتمد أولاً على المصداقية، ومنطقية مصدر ونسبة الضوء الذي يبعثه في خلايا شريط الفيلم، وكثيراً ما أكد أن الضوء لا بد أن يكون مبرراً، ومنطقياً فيكون بالتالي جميلاً، وهو يخمن مصدر الشمس في المشاهد الداخلية، ويبني إضاءته دون وقت طويل على هذا الأساس، معتمداً على الضوء الطبيعي غالباً، لا يستخدم الخيال بقدر ما يعول على البحث عن مساقط الإضاءة الطبيعية، فيحاول الإمساك بها، أو يعززها إن لم تكن كافية، لكنه في العموم ينفر من لمبات ومعدات الإضاءة الكهربائية الكثيرة، والضخمة، وشنط المرشحات، والعدسات غير المألوفة، بل يجدها – إلا في بعض الحالات الضرورية - لا لزوم لها سوى إعطاء أهمية غير حقيقية، لمن يحملونها من المصورين غير الموهوبين، لزيادة أجورهم، وللإيهام بتعقيد، وصعوبة مهنتهم، في حين ينتهج هو البساطة كركيزة أولية، ويبدع بها حساً لونياً درامياً شهد له الجميع بها، فحطم النظرية العتيقة في الإضاءة مع آخرين قبله مثل: أستاذه ج. الدو، باستعمال أسلوب الإضاءة) غير المباشرة، Indirect lighting)
حيث كانت النظرية القديمة للإضاءة في السينما قبل الحرب العالمية الثانية تعتمد على نشر الظلال الكثيفة، والزخرفية في الخلفية، وصنع لمعة ضوئية تجميلية لوجوه الممثلين، وإضاءة أخرى فوق رؤوسهم، فيصبح الممثلون في فضاء الكادر في حالة إنارة منفصلة، كأنهم أجسام آلية تسير في فراغ الكادر، وهذا ما قد يلائم التصوير المسرحي، أو إضاءة ملهى ليلي، مثلما وصف المندروس بنفسه* أثناء سرده خلاصة تجربته للأجيال القادمة، بعد أن سجلها في حوارات كثيرة، وفي كتاب له** ناصحاً إياهم أن يكون الإحساس هو مصدر الإلهام الأول لديهم، وليس ما حفظوه من قواعد أكاديمية جامدة، لأن المصور الفنان هو من يطوع القواعد التي درسها وفقاً لحالة كل فيلم، وإلا سيكون مجرد مصور محترف يطيع طاعة عمياء تعليمات من سبقوه، ودلل على ذلك عندما استعمل اللون البرتقالي الدافئ في أول أفلامه الروائية في فرنسا عام 1967، وكان هذا من المحظورات المبهمة وقتها، فعندما رأى الفنيون بمعمل التحميض ذلك اللون، ظنوا أن المصور الجديد أخطأ، فعزموا دون تفكير على إزالة الصبغة اللونية الغريبة لديهم، فحاول المندروس أن يفهم هؤلاء فكرته، لكن دون جدوى، فاضطر بعدها أن يلجأ للأمر المباشر لينفذوا اللون كما أبدعه، ويصبح بعدها استعمال هذه الصبغة اللونية أمراً طبيعياً تعتاده العين.
الالتزام بالبساطة
يؤكد المصور العظيم للنشء على التزامهم بالبساطة في التنفيذ قدر الإمكان، فهو لا يستعمل اللمبات الكهربائية بأنواعها سوى في حالات محدودة، وهو بعكس الكثير من مصوري العالم لا يفضل إضاءة (H M I ) في المشاهد النهارية الخارجية لمحاكاة ضوء الشمس، بل يستعيض عنها بضوء الشمس الفعلي في وقت محدد، مع استعماله أحياناً ملاءة قطنية كبيرة مثبتة على أربعة أعمدة فوق حدود الكادر، لتعطي على الشاشة إحساساً طبيعياً جديداً، وبأقل تكلفة - (للمصور المصري البديع عبد العزيز فهمي ابتكارات من هذا النوع في نفس الفترة أو قبلها، وإن اختلف منهجه - لحد ما - عن منهج المندروس) كذلك فإنه ليس من النوع الذي يتيه فرحا بمعدات التصوير الحديثة، فهي بالنسبة إليه مجرد لعبة يلعب المراهقون بها دون ضابط، فقد استغنى مثلاً عن (الاستيدي كام)، في أول العمل بفيلم (أيام السماء)، لأنه وجد حركتها ولقطاتها جميلة جداً، لكنها تبدو متطفلة على سياق العمل ومزاجه العام، وحركتها الملحوظة تشعرك كأنها بطل ينافس أبطال العمل، ووافقه المخرج على ذلك، فعادا إلى استعمال الحركة الطبيعية الهادئة على القضبان الحديدية الكلاسيكية (Dolly).. وأبدع في هذا العمل في اصطياد سحر الضوء السماوي بعد الغروب كل يوم، بتغيير درجة حساسية الفيلم، واستعمال أكبر فتحة للعدسة رقم 50 (1.1 f) -، مع بلورة نفس الإحساس اللوني، والطبيعي دون لمبات كهربائية تقريباً في الكثير من (المشاهد الداخلية)، بذكاء فني.
المرجعية التشكيلية لفن المندروس
يرى المندروس أن أي فيلم لا بد قبل تصويره من تحديد أسلوبه البصري مع المخرج، فما يوحد التفكير دون تشتت هو اختيار أسلوب تشكيلي لرسام كبير، ليكون الإطار العام الذي تنطلق فيه أضواء وألوان الصورة. فمثلاً.. في فيلم (بولين على الشاطئ) بدا حضور الرسام ماتيس واضحاً، عبر ألوانه الحمراء، والزرقاء ودرجات الأبيض، وهو ما قصده المخرج إيرك رومير***، وجسده/المندروس دون تكلف.
ومع فيلم آخر (كرامر ضد كرامر) الذي يدور في شقة عادية بألوان باهتة باردة، تعكس برود علاقة البطلين، مما يستدعينا أن نتذكر لوحات الفنان التشكيلي الواقعي إداورد هوبر، الذي اتسمت لوحاته بالمشاهد العادية، والملامح المعتادة للحياة الأميركية اليومية، وهو ما نجد أصداءه، على سبيل المثال، في مشهد المطعم الذي ينتهي بخناقة البطل داستن هوفمان مع طليقته ميريل ستريب، وإن أعطى المندروس درجة حرارة لونية أقل مما في لوحات هوبر، حتى يتم التركيز على ما بداخل الشخصيات من مشاعر مركبة، ومشاعرهم الباهتة.
والتقشف في استعمال الضوء أمر ملازم في الكثير من أعمال نستور المندروس، لدرجة أنه في تصويره للمنجم في الفيلم الأميركي (الذهاب جنوباً) إخراج النجم/ جاك نيكلسون، ألغى في جرأة منطقية إضاءة كل ديكور المنجم الذي تم بناؤه وتنفيذه، وركز فقط على وجه البطل، وعينيه، بوساطة مصدر ضوء متحرك في الكادر، متمثلاً في مصباح الغاز، وهو منهج إضاءة معروف في القرن السابع عشر، وعرف باسم (إضاءة رمبرانت)، لكن هناك أيضاً فنان هولندي في نفس القرن، يظل باقياً في خلفية المخيلة البصرية للمندروس، وهو ما نلمحه بسهولة في العديد من مشاهده الداخلية، مثل التي تعتمد على وجود شباك يعبر الضوء من خلاله، ليكون مصدر نور الممثل كشباك غرفة النوم، أو المطبخ، وهكذا، كما في لوحات فيرمير الكلاسيكية (درس الموسيقى)، أو(عاملة اللبن)، أو (الخطاب)، كلها ستجدها بروحها، ومسقط نورها، وانعكاس الوجوه على زجاج الشباك في (إطار داخل الإطار)، في العديد من مشاهد أفلامه، مثل مشهد ايزايل ادجاني تقرأ الخطابات في البنك، عبر ضوء الشمس الطبيعي من شباك نراه في طرف الكادر في فيلم (حكاية أديل إتش -1975)، وكذلك وهي تكتب خطاباتها ليلاً على ضوء المصباح البادي بوضوح في الكادر مع خلفية مظلمة، ومسحة من اللون البني ليمنح الإحساس بالزمن القديم، والجو النفسي، الذي تدور فيه أحداث الفيلم.
في فيلم آخر لنفس المخرج فرانسوا تروفو (الفتاتان الإنجليزيتان والقارة -1971) سنجد المندروس في مشهد ليلي خارجي على البحيرة للبطل والبطلة، لا يهتم فيه بإنارة الخلفية مثلما يفعل المحترفون عادة، إذ يكتفي متعمداً بنقاط ضوئية بسيطة من مصابيح بعيدة موجودة في المكان، وسط الظلام في (لقطة عامة)، ثم يستغل النار المشتعلة على الشاطئ في المشهد المكتوب، لتكون مصدر إضاءة طبيعياً جداً، ونلمح معها مراكب راسية بلون يتأرجح في ضوء خافت، وهكذا يمسك بموضوعه في تقشف مبدع، يتجنب فيه الجماليات المستهلكة التي تضر بمصداقية وإحساس العمل، ليصل بنا إلى جمال أعمق، يسهم في تصديق المشاهد بأن ما يراه حقيقي وصادق، وليس عملاً مصنوعاً.
وفي فيلم (الطفل المتوحش) الذي صوره بالأبيض والأسود، نجد أروع اللقطات مستوحاة من روح التصوير الفوتوغرافي في بدايات ظهوره، باستغلال نور الشمس المشع، دون أن يلجأ للمرشحات الصناعية، فزاد ذلك في التعبير الضوئي عن أعماق نفسية الطفل المولود في الغابة، ويسعى للهرب والعودة إلى أحضان الشمس التي تربي في أحضانها..(مشهد كسر طبق اللبن مواجها إشعاع الشمس الحاد).
وهكذا كان يدير في أعماله إشعاع الضوء، ومساحات الظلام الدرامي، في تناغم مع مصداقية المحتوى، ورؤية كل مخرج. وقد يرجعنا ذلك لأول ما جاء في المقال عن العلاقة بين المخرج والمصور، فلا نجد أفضل وصف للعلاقة بينهما إلا بما كتبه المخرج فرانسوا تروفو: «هناك هدف واحد للمصور السينمائي، وهو أن يفسر رغبة المخرج الذي يعرف تماماً ما الذي لا يريده، لكنه لا يستطيع أن يشرح ما الذي يريده. وذلك ما أكد عليه المندروس بعدها في صفحات كتابه ذاكراً:«مدير التصوير السينمائي يفعل كل شيء، ولا شيء، فهو يجب أن ينغمس في أسلوب وطريقة عمل المخرج..إنه ليس فيلمنا، بل هو فيلمه».
مراجع:
*Masters of light by Dennis Schæfer and Lary Salrvato
**A Man with a Camera by Nestor Almendros
***https://www.youtube.com/watchv=HaOORE2cX1s