بشر بن الحارث.. الزاهد الورع
بشر بن الحارث، الحافي الزاهد الورع، رمز الزهد والتدقيق في مسائل الحلال والحرام، ومثال الورع والإخلاص والبعد عن الناس، أبو نصر المروزي البغدادي كان من أسرة رفيعة وذات جاه عريض، فطلب العلم وارتحل فيه، وروى الحديث عن أهله، وحدث عنه مجموعة من الطلاب، لكنه أعرض عن الدنيا وشهرتها. وصاحب الفضيل بين عياض، وبدأ يدقق في مطعمه ومشربه ولا يدخل جوفه إلا ما يطمئن إلى أنه حلال صرف، حتى أثر ذلك في صحته وجسده وصار مضرب الأمثال في ذلك عند الخاصة والعامة، ورفع الله ذكره وقدره، وقد حدث عن بداية أمره فقال: بينما أنا أمشي إذا رأيت قرطاساً على وجه الأرض فيه اسم الله تعالى، فنزلت إلى النهر فغسلته، وكنت لا أملك من الدنيا إلاّ درهما فيه خمسة دوانق فاشتريت بأربعة دوانق مسكاً، وبدانق ماء ورد وجعلت أطيب اسم الله تعالى، ثم رجعت إلى منزلي فنمت فأتاني آت في منامي، فقال يا بشر كما طيبت اسمي لأطيبن اسمك، وكما طهرته لأطهرن قلبك.
لقد كان في عصر يموج بالعلم والعلماء على اختلاف تخصصاتهم وتوجهاتهم، فأراد أن يقدم مثال العالم الزاهد الورع والإعراض عن الشهوة فأقبل على العبادة وكسب الحلال، وكان عمله صنع المغازل، وكان يبيع ما يصنعه ويعيش به، ولا يأخذ من أحد شيئاً، وكان الجوع عنده أحسن من الشبع، ويقول عن تجربته في ذلك: الجوع يصفي الفؤاد ويميت الهوى ويورث العلم الدقيق إني لأشتهي شواءً منذ أربعين سنة، ولكنه لم يصف لي درهمه من الحلال لأشتريه به. ولم يكن بشر الحافي خارج الحياة، بل كان يعيشها مع الناس لكن قلبه صفا من حب الدنيا وكراهية الخلق وسما على الشهرة والمناصب والجاه ولهذا أحبه الناس كما جاء في الحديث (ازهد في الدنيا يحبك الله، وازهد فيما عند الناس يحبك الناس)، وتكلم في الوعظ بكلام مؤثر دقيق وانتشرت أخبار زهده وورعه وترك في ذلك مسالك عميقة تتفق مع العلم الصحيح، لأنه أخذ العلم قبل أنه يتزهد وأكبره على زهده وورعه الرؤساء والعلماء ومن دونهم، فقد قال المأمون: لم يبق في هذه الكورة، أي بغداد وضواحيها، أحد يُستحيا منه غير هذا الشيخ بشر بن الحارث، وقد سئل أحمد بن حنبل عن مسألة في الورع فقال: أنا أستغفر الله لا يحل أن أتكلم في مسألة في الورع أنا آكل من غلّة بغداد لو كان بشر بن الحارث، صلح أنه يجيبك عنه، وقد كانت أجوبته في هذا الباب أجوبة ما عرف له غيبة لمسلم وقد حفظ الناس كثيراً من أقواله وأحواله وتأثروا بمنهجه وسلوكه، فإن ذكر الزهد والورع كان من أوائل المذكورين ومن أقواله: بادر بادر فإن ساعات الليل والنهار تذهب الأعمار، وقوله كذلك: ليس من المودة أن تبغض ما يحب حبيبك، وقد قالوا فيه: ما أخرجت بغداد أتم عقلاً من بشر ولا أحفظ للسانه، فكأن في كل شعرة منه عقلاً، ما عرف له غيبة لمسلم.
ولقد قال قولة حققها الله فيه لأنها صادرة عن قلب صادق ونية صحيحة، فقد أثر عنه: (بحسبك أن أقواماً موتى تحيا القلوب بذكرهم، وأن أقواماً أحياء تعمى بالنظر إليهم). رحم الله بشر الحافي فقد ترك للأجيال مآثر تذكره بها.