قال الوالد يوسف الملا إنه يقضي وقته عقب الإفطار وصلاة التراويح بالجلوس في مقهى يسمى القاضي، في خورفكان وديوانية أحد الرجال المعروفين في المنطقة يتبادل مع الجالسين الحديث عن زمان وذكريات الأجداد في جو أسري وتواصل اجتماعي، يتخلله إلقاء القصائد لقدامى الشعراء. وأوضح أنه يسرد الكثير من الحكايات القديمة على أحفاده الذين يجتمعون في المنزل وينتظرون بلهفة سماع تلك «الخراريف»، لتي تعلمها من والده رحمه الله، لما فيها من أفكار وعظات تنفعهم في حياتهم، وتعلمهم الصبر والحنكة. ويعتبر الوالد يوسف علي الملا الذي ولد في عام 1930، أحد الوجوه المتعلقة بتراث وماضي الإمارات الجميل، وهو شخص يصفه المقربون بأنه طيب الخلق، يتصف بالحنكة والصبر. يعد الوالد يوسف الملا من الرجال المعروفين في مدينته حيث عاش طفولته في شرق خورفكان، وعمل في البحر وعرف أغواره وأهواله، ثم انتقل للعمل في الكويت لمدة 4 سنوات في إحدى المدارس بمنطقة حولي، ليستقر به الحال بعد ذلك للعمل في وزارة الأشغال بإمارة الفجيرة في مسح الأراضي مع المهندسين على مدار 15 عاما. وحكاية الوالد يوسف الملا مثل غيره من الذين عاصروا الحياة القديمة التي يتمنى لو عاد الزمان به إلى الوراء أن يعيشها لحظة بلحظة. ويتذكر الملا تلك اللحظات مبتسماً وهو يعيد شريط ذكرياته: علمني والدي معنى العمل والحب والإخلاص والإتقان، وعشت طفولتي مثل بقية الصغار بين اللعب في الفريج أو على شاطئ البحر لتجميع المحار أو ممارسة بعض الألعاب الشعبية البسيطة آنذاك، ومرحلة تعليمي بدأتها عند المطوع الذي علمني قراءة القرآن وكنت حينها أعرف القراءة وأجهل الكتابة، لكن سماعي الكثير عن رحلات البحر من والدي شغل تفكيري، حتى وجدت نفسي أعيش هذه الأجواء وعمرى 15 عاما. صيد السمك ويتابع الملا حديثه، كان السكان في ذلك الوقت، مرتبطين بالبحر ارتباطا قويا، حيث يعد الملاذ الوحيد للسكان الذين يجدون فيه كل احتياجاتهم، باعتبار حرفة صيد السمك كانت المورد الرئيسي للغذاء اليومي لأهل المنطقة، حيث أطيب أنواع الأسماك، التي كانت تزين الموائد على مدى عصور. الملا أيد كلام أبناء جيله، بأن البحر في ذلك الوقت كان بالنسبة له حياة متكاملة، حيث كان يشعر بسعادة كبيرة حين يكون على ظهر السفينة مع مجموعة من رجال الفريج وهم يودعون الأهل، لأنهم سيذهبون في رحلة صيد قد تستمر أسابيع أو شهورا في أحيان كثيرة، بالإضافة إلى مخاطر الرحلة، بجانب مهارة الغوص، التي تتطلب توافر رجال محترفين لديهم طاقة التواجد أسفل سطح الماء، لمدة كانت تتراوح بين دقيقة ونصف إلى دقيقتين ونصف الدقيقة، كحد أدنى كما يجب أن يكون لديهم القدرة على تجميع اللؤلؤ وفلقه، إلا أن ذلك لم يقلل من عزيمته في الاستمرار والعمل في هذا المجال، على الرغم من أنه كان يضع يده على قلبه متمنيا العودة سالما هو وبقية الغواصين إلى الأهل غانمين ومحملين بكل ما تجود به الرحلة من صيد وفير ولؤلؤ وبعد زواج الملا وإنجابه الأبناء لم تستمر رحلاته إلى البحر، بل انعطف إلى مجال آخر وهو السفر الى الكويت طلبا لمعيشة أفضل وقتها، حيث ترك الصيد ومخاطره حين تزوج وأصبحت لديه أسرة مكونة من 5 أبناء، لتبدأ رحلة البداية للعمل في منطقة حولي بالكويت لمدة 4 سنوات، حيث كانت الغربة قاسية عليه نوعا ما نظرا لبعده عن الأسرة، وفي الوقت ذاته الاعتماد على نفسه لتأمين حياة سعيدة لأبنائه، ورغم عودته لزيارتهم من فترة لأخرى، إلا أن الحنين شده إليهم بعد رحلة عمل استمرت لمدة 4 سنوات، فعاد إليهم وكله لهفة إلى التجمع معهم مرة ثانية في جو أسري مفعم بالحب والاستقرار والأمان، ليلتحق بعد ذلك بالعمل في وزارة الأشغال بإمارة الفجيرة في مسح الأراضي مع المهندسين لمدة 15عاما، من الجهد المتواصل والعمل الدؤوب ليكون عمله في هذا المكان بعد عدد من السنوات هي الرحلة النهائية له بعد تقاعده عن العمل. متابعة العمل وأشار الملا إلى أنه يبيع في محله التجاري كل المواد الغذائية بمختلف أنواعها من الأرز والطحين والطماطم والأناناس وغيرها من المواد الأساسية التي يحتاجها كل بيت، وبعد الانتهاء من متابعة العمل في المحل غالبا يقضي وقته عقب الإفطار وصلاة التراويح بالجلوس في قهوة القاضي وديوانية أحد الرجال المعروفين في المنطقة يتبادل الحديث مع الجالسين عن زمان وذكريات الأجداد في جو أسرى وتواصل اجتماعي ويتخلل ذلك - حسب قوله- بعض الألعاب الترفيهية أو التراثية مع شرب «إستكنات» الشاى التي تعدل المزاج، كما أن الملا محب لقصائد الشعر، التي يحفظها عن ظهر غيب لكثير من الشعراء القدامى، بالإضافة إلى سرد الكثير من الخراريف على أحفاده الذين يجتمعون في المنزل وينتظرون بلهفة لسماع تلك «الخراريف» القديمة، لتي تعلمها من والده رحمه الله، لما فيها من فائدة فكرية تعود عليهم بالنفع العام. رمضان زمان ما أجملها تلك الأيام وما أروع تفاصيلها عندما يتذكرها الإنسان يعود إلى الواقع إلى البساطة إلى اللطف إلى الحب يعود إلى حيث الأمان إلى حيث الحياة الهادئة، عندما يتذكرها الفرد ويقارنها بواقعه تتداعى صور مختلفة في مخيلته، حيث يحن الملا لتلك الأيام الرمضانية: في أجواء حارة جداً كان يدخل علينا شهر رمضان المبارك وقد يكون العطش قد بلغ حداً لا يستهان به، وعلى الرغم من ذلك لم نتأفف من ذلك بل كانت حياتنا البسيطة وقلوبنا الصافية تستقبل هذا الشهر بتوفير المير الرمضاني المكون من الأرز والهريس والعدس والجريش وكان الإفطار يقتصر على تلك الوجبات البسيطة مع شرب اللبن وأكل التمر، مما يؤكد أن الأجداد عرفوا ثقافة التوفير وطبقوها، ورفضوا البذخ ونبذوه من حياتهم، كما كانت ساعات الصائم في رمضان تخلو من الكسل ولم يكن الصائمون ينامون حتي العصر مثلما يفعل البعض في أيامنها هذه، كما أنه على الرغم من عدم توفر أجهزة التكييف، فالجميع لم يشعر بتعب الصيام ولم يتبرم من شدة الحرارة، بل الجميع كان يمارس مهنته من الصباح الباكر والتي تكون اما الزراعة أو صيد السمك والتي تتطلب مجهوداً بدنياً كبيراً. واستطرد الملا: بعد رحلة الصيد التي تبدأ من الصباح الباكر في رمضان، وبعد العودة من البحر كان السكان يتقاسمون الأسماك، فيبيع الصيادون بعضها، ويتركون كمية أخرى لتحضير وجبة الإفطار، وبعد الانتهاء من الصيد يذهب الجميع إلى المسجد لأداء صلاة الظهر، وبعدها ترى أيادي الجميع تكاد لا تخلو من مصاحف القرآن حتى الإفطار، وقبيل ساعات الإفطار يتفق الجميع على التجمع في مكان بعينه يتسع لهم من أجل الإفطار، ويحضر كل شخص ما يقدر على توفيره من الطعام ويقدر مجموع المنازل المجتمعة على وجبة الإفطار 10 منازل من الفريج نفسه، وكان الهدف من هذا التجمع هو تقوية الروابط المجتمعية بينهم، وتكون المائدة عادة مفتوحة لمن تأخر عن الوصول إلى منزله وعابري السبيل، وكانت النساء تتجمعن في منزل إحداهن وكانت المأكولات الشائعة في وجبة الإفطار هي «الأرز والهريس والرطب والكامي»، وهو الجبن المحلي الطبيعي المستخرج من المواشي مع بعض الوجبات الأخرى. وأضاف: كنا نقضي شهورا في البحر بهدف الغوص بحثاً على اللؤلؤ وصيد الأسماك، ونعود قبل بداية شهر رمضان بسبعة أيام تقريبا حتى نتمكن من قضاء الشهر الفضيل مع أسرنا، وكذلك بيع ما جاد به البحر علينا، وتوزع المال على الغواصين، حتى يوفروا ما يتطلبه الشهر الكريم من مستلزمات. بعد التقاعد ويقضي الملا حياته بعد أن تقاعد عن العمل ما بين البيت والصلاة في المسجد وقراءة القرآن إلى التواجد مع أصدقائه القدامى في مقهى، ويقول: من الصباح الباكر بعد صلاة الفجر تبدأ رحلتي اليومية بين قراءة القرآن الكريم والصلاة في المسجد إلى أخذ قسط من الراحة وزيارة البحر والجلوس مع الأهل للحديث والنقاش في أمور الحياة ومتطلبات المنزل، وعندما يحين وقت المغرب غالبا ما تتجه مسيرتي نحو كرسي التقاعد وهو كرسي يجلس عليه الكثير من الرجال القدامي والمتقاعدين عن العمل في أحد الأماكن، وتدور فيه حلقات الذكر ومناقشة قضايا المجتمع مع الرجوع قليلا إلى الذكريات التي يحن لها الكثير منا. ويتابع: ثم انتقل بعد ذلك إلى مجلس ديوانية محمد الحمادي الملقبة بديوانية «أبوعدنان»، وفيها تعلو الضحكات وتزداد حدة المنافسة على لعب الدومنه والكريم تلك الألعاب القديمة التي مازلنا نحفظها عن ظهر غير، ويصاحب ذلك بعض المشاورات والمناقشات لكل ما يتعلق بحياة اليوم التي غلب عليها التطور العمراني والوسائل التكنولوجية الحديثة والتي قللت من التواصل الاجتماعي والزيارات العائلية وأصبحت اليوم مجرد مسجات يتبادل فيها الجميع التهنئة عبر وسائل اتصال لا روح فيها ولا مشاعر. بساطة الحياة قال يوسف الملا إن ما يميز رمضان في الفترة الماضية، بساطة الحياة، حيث كان جميع أفراد الأسرة يتناولون طعام إفطارهم على مائدة واحدة، وتربطهم المحبة والتواصل والروابط، وكان الترفيه يتمثل فقط في المجالس التي يقبل عليها الكبار بصحبة أبنائهم الصغار الذين يستمعون للمناقشات في مختلف الشؤون. أما الأطفال فكان رمضان بالنسبة لهم فرصة للذهاب إلى المطاوعة لحفظ القرآن الكريم، وفي حال تمكن أحد الأطفال من حفظ الكتاب كاملا، فإن الأهالي يحتفلون به، ويطوفون به على البيوت مرددين أهازيج دينية بهذه المناسبة ويصاحب ذلك إغداق العطايا والهدايا للولد الصغير.