بدأ الجزائريون أمس احتفالات العيد الـ56 لثورة التحرير التي انطلقت في الفاتح من نوفمبر 1954، وتمكنت من دحر الاستعمار الفرنسي وإجباره على الاعتراف باستقلال الجزائر في 5 يوليو 1962 بعد تقديم تضحيات جسيمة بلغت مليونا ونصف المليون شهيد. وتجري احتفالات هذه السنة في أجواء خاصة ميزها إعلان رئيس الغرفة الأولى للبرلمان عبد العزيز زياري عدم عرض مقترح قانون تجريم الاستعمار للمناقشة، وهو ما أثار إحباطاً واستياءً كبيرين لدى الجزائريين الذين كانوا ينتظرون التصديق عليه وفاءً لأرواح الشهداء ومعاناة الأسلاف وتضحياتهم. تقدم نواب من البرلمان الجزائري العام الماضي بمقترح قانون ينص على تجريم الاستعمار، ردا على قانون كان البرلمان الفرنسي صادق عليه في 23 فبراير 2005 وينص على “تمجيد” احتلال الجزائر، من خلال تدريسه لطلبة فرنسا والتركيز على ما وصفه بـ”الدور الإيجابي” لهذا الاحتلال. وأثار التصديق على القانون آنذاك عاصفة من الغضب وردود الأفعال الساخطة لدى الجزائريين، قيادة وشعباً؛ إذ سارعوا إلى التنديد به واستنكاره بأقوى العبارات، خاصة وأن جرائم الاستعمار الفرنسي بالجزائر ومجازره الجماعية ضد السكان العزل استمرت 132 سنة. اعتذار وتعويض دعت الحكومة الجزائرية فرنسا لإلغاء “قانون العار”، كما كثرت تصريحات المسؤولين الجزائريين في مختلف المواقع التي تدين هذا القانون وتطالب بدورها بإلغائه فوراً، وأدى ذلك إلى تدهور كبير في العلاقات بين البلدين، إلى درجة أن الجزائر تراجعت عن توقيع “اتفاقية صداقة” مع فرنسا كان الخبراءُ عكفوا شهوراً على تحضير مختلف بنودها وتفاصيلها بهدف إقامة شراكة استراتيجية وتعاون مكثف بين الجزائر وفرنسا في مختلف المجالات، وكان من المفروض أن يوقع عليها رئيسا البلدين في نهاية عام 2005 قبل أن تتعرض للنسف بسبب صدور قانون “تمجيد الاستعمار”. ويبدو أن قانون “تمجيد الاستعمار” نكأ جروح الجزائريين التي لم تندمل رغم مرور 48 سنة من استقلال بلدهم، فصورُ المجازر والتعذيب والتنكيل الذي كانت تمارسه فرنسا ضد الثوار والشعب لا تزال ماثلة في الأذهان، وجاء هذا القانون ليضع الملح على الجراح مجدداً، فلم تكتف منظمات “الأسرة الثورية” من مجاهدين وأبناء شهداء وأبناء مجاهدين ووطنيين مخلصين بإلغاء التوقيعَ على “معاهدة الصداقة” المنتظرة، بل رفعوا سقف مطالبهم إلى ضرورة اعتراف الدولة الفرنسية بجرائم الاستعمار ضد الجزائريين طيلة 132 سنة، والاعتذار الصريح عنها وكذا تقديم تعويضات مادية للجزائر عن هذه الجرائم، ويقدر خالد بونجمة، رئيس تنسيقية أبناء الشهداء لـ”الاتحاد” قيمة هذه التعويضات بـ60 ألف مليار دولار ، واتصل بعدد من أبرز المحامين الجزائريين والدوليين قصد التحضير لمقاضاة فرنسا على جرائمها أمام المحاكم الدولية. تراجع وغضب كان من المنتظر أن تتم مناقشة المقترح القانوني للنواب والتصديق عليه في الدورة البرلمانية الماضية، إلا أن الدورة انتهت ولم يقدم المقترح للمناقشة، وبدأت الشكوك تثار حول خلفية هذا المماطلة، وقطع الشك باليقين في بداية الدورة الخريفية الجارية، حيث تساءل نوابٌ عن سبب التلكؤ في تقديم مقترحهم القانوني للنقاش، فرد رئيس الغرفة الأولى للبرلمان زياري بأنه “لن يُناقش في هذه الدورة، ولا الدورات المقبلة” وهو ما يعني التراجع عن سن هذا القانون. أثار هذا التصريح غضباً عارماً في أوساط “الأسرة الثورية” والرأي العام فانهالت الانتقادات على الحكومة واتهمت بالتراجع أمام الضغوط الفرنسية الهائلة، وحزَّ الأمرُ في نفوس الجزائريين لأن فرنسا لم تلغِ بعد قانون “تمجيد الاستعمار” دون أن تكترث بتضرر مصالحها في الجزائر أو معها، فكان من الأولى إصدار قانون “تجريم الاستعمار” كرد قانوني عليه، وعدم الاكتراث بدورنا بتضرر مصالح الجزائر مع فرنسا، لأن الأمر يتعلق بإهانة صريحة لتاريخنا المجيد وكان لابدَّ من رد الاعتبار له بكل الطرق. ويشعر الجزائريون أن احتفالاتهم بالعيد الـ65 بأكبر ثورة في القرن العشرين في العالم، جاءت هذه السنة ناقصة وكانت ستكون أفضل بكثير لو تم التصديق على مقترح تجريم الاستعمار، وهم يطالبون بوضع كل الاعتبارات السياسية والمصالح الاقتصادية جانباً ومعاملة فرنسا بالمثل من خلال رفع التجميد عن قانون تجريم الاستعمار في أقرب وقت، وهم يطالبون أيضاً بأن يتحرك المجتمع المدني باتجاه مختلف الشعوب التي تعرضت للاحتلال من قبل بهدف بلورة مبادرة دولية لتجريم احتلال الشعوب، فكما كانت الثورة الجزائرية قِبلة ثوار العالم باعتبارها أعظم ثورة في القرن العشرين، فينبغي للأجيال الجديدة مواصلة رسالتها بالتنسيق مع الشعوب المكافحة في العالم لتجريم كل أشكال الاستعمار دولياً. ممارسات إجرامية تؤكد منظمات “الأسرة الثورية” أن فرنسا ارتكبت جرائم تصنف في خانة “الجرائم ضد الإنسانية” ومنها مجازر ضد المدنيين العزل والإبادة الجماعية وتدمير آلاف القرى على رؤوس سكانها قُصف بعضُها بالنابالم والتعذيب الممنهج لانتزاع اعترافات، فضلاً عن جرائم أخرى كتشريد السكان واغتصاب أراضيهم وممتلكاتهم والتنكيل بهم وترويعهم، دون نسيان جريمة تجهيل الجزائريين وحرمانهم من دراسة لغتهم ومحاولة فرْنستهم ومحو هويتهم العربية الإسلامية وتنصيرهم.