مدون السنة
للعلم بناة ومؤسسون، وله أركان وأساطين، ومن أركان المعرفة وبناتها العظام أبو بكر محمد بن مسلم بن شهاب الزهري، أقبل على العلم في طفولته بعزيمة كبيرة ورغبة شديدة فكان يحمل ألواحه، ويطوف مع أقرانه على العلماء، فكانوا يكتبون شيئاً ويتركون شيئاً، إلاّ الزهري فإنه كان يكتب كل ما يسمع، فصار جماعاً للعلم بأصنافه وفنونه، يحدث في الترغيب فتقول: لا يحسن إلا هذا، وإن حدث عن العرب والأنساب قلت: لا يحسن إلا هذا، وإن تحدث عن القرآن والسنة كان حديثه جامعاً، وقد تلقى العلم في حداثته عن الصحابة وكبار التابعين فأعجبوا به وبذكائه وعلمه وحرصه، وقد قال له شيخه سيد التابعين سعيد بن المسيب وقد جلس الزهري إليه سنين طويلة يحفظ عنه علمه وعلم عمر بن الخطاب: (ما مات من ترك مثلك).
إنه كان عازماً على العلم وخدمة العلم وطلابه، وكان ينتقى الأساتذة والعلماء الذين يدرس عليهم انتقاء فيقول: قال لي القاسم بن عبد الرحمن: أراك تحرص على العلم والطلب أفلا أدلك على وعائه؟ قلت: بلى. قال: عليك بعمرة بنت عبد الرحمن، فإنها كانت في حجر عائشة، فأتيتها فوجدتها بحراً لا ينزف، وكان يقول: إن هذا العلم إن أخذته بالغلبة والمكابرة غلبك، ولكن خذه مع الأيام شيئاً فشيئاً تظفر به.
لقد بدأ الزهري في الإسلام أمراً جديداً إذ بدأ يدون المعرفة وأبواب العلم، وبدأ جمع السنة النبوية في عهد عمر بن عبد العزيز الذي قال فيه: ما ساق أحد الحديث مثل الزهري وقد أرسل إليه هشام بن عبد الملك أن يكتب لأبنائه أحاديث من أحاديثه. فقال: إن كنت تريد ذلك فادع كاتباً، فإذا اجتمع الناس فسألوني كتبت لهم، ثم بعث إليه كاتبين اثنين يكتبان عنه مدة سنة.
فقد ترك جيلاً من العلماء الراسخين الذين يذكرون في كل أنواع المعرفة الإسلامية، قال مالك بن أنس: إن هذا العلم دين فانظروا عمن تأخذون دينكم لقد أدركت في المسجد سبعين ممن يقول: قال فلان: قال رسول الله إن أحدهم لو ائتمن على بيت مال كان به أميناً، فما أخذت منهم شيئاً لأنهم لم يكونوا من أهل هذا الشأن، ويقدم علينا الزهري وهو شاب فتزدحم على بابه ولقد صار علم الأعلام وعالم الحجاز والشام.
ومع ذلك كان من الكرم والسخاء بما يعز نظيره ويقل مثاله وشهد له بذلك معاصروه، فقد قال قرينه عمرو بن دينار: ما رأيت أحداً أهون عليه الدينار والدرهم من ابن شهاب، وما كانت عنده إلا مثل البعر، وقال عقيل بن خالد تلميذه: كنت أكون معه في السفر، فكان يعطى من جاءه حتى إذا لم يبق شيء يستلف من أصحابه فلا يزالون يسلفونه حتى لا يبقى معهم شيء، ويحلفون له أنه لم يبق معهم شيء، ثم يستلف من عبيده ويعطيهم ضعف ما يستلفه منهم، ولربما جاءه السائل فيقول: أبشر فسيأتي الله بخير فيقيض الله لابن شهاب الزهري أحد رجلين، اما رجل يهدى له، واما رجل يبيعه فينظره.
وكان طلاب العلم يأتونه في بيته فيقدم لهم أصناف الطعام والحلوى ويعلمهم ويشجعهم فجعل الله في علمه وعمله ومنهجه خيراً كثيراً، وهكذا فلتكن المآثر والمفاخر، فرحم الله حافظ الإسلام وعالم الحجاز والشام محمد بن شهاب الزهري.