التاريخ عندما يكون شخصياً
“تراوحت القائمة الطويلة بين الغرب الأميركي ولندن متعددة الإثنيات مروراً بموسكو وبوخارسيت ما بعد الحرب الباردة”، بهذه الكلمات حاولت رئيسة هيئة التحكيم لجائزة (المان بوكر) الروائية ديمي ستيللا ريمنغتون أن تصف، ليلة الثلاثاء الماضي، الروايات الثلاث عشرة التي جرى اختيارها للقائمة الطويلة للجائزة في بيان وزعته (المان غروب)، طبيعة العلاقة التي تربط بين ما يتم إنتاجه من روايات في الغرب الناطق بالإنجليزية الآن أو ذلك الجامع بين الأعمال المتنافسة فيما بينها وفقاً لمزاج سردي ما.
والحال، أن ما أرادت له ريمنغتون أن يكون جامعا هو بالذات ما يفرّق بين هذه الروايات، التي يبدو من قراءتها أو اقتطاعات منها عبر مواقع الإنترنت، أنه ما من جامع بينها سوى تناولها لأحداث تاريخية، أو تأريخها لحقب معينة، وهو الأمر الأسهل ليس من جهة التصنيف الأدبي وحده، بل لأن الروائيين، في أغلبهم، قد ذهبوا باتجاه شخصيات ليست تاريخية لتصبح مؤثرة في مسارات أحداث تاريخية على هذا النحو أو ذاك، ربما إلى حدّ من الممكن القول معه أن الشخصيات الروائية أهم من الأحداث والوقائع التي تعيشها والمراحل التاريخية التي مرّت بها مجتمعاتها، بسبب الغنى النفسي لهذه الشخصيات وليس بسبب قوتها المادية أو المعنوية، أي أن حضورها هنا في مجمله هو حضور الضعيف والعاجز عن التأثير في مسار حياته، على نحو يذكّر أحيانا بشخصيتي الإيرلندي صموئيل بيكيت في رائعته “بانتظار غودو” أو يلامسهما ملامسة.
وبعيدا عن الدخول في تفاصيل أيٍّ من الروايات الثلاث عشرة فإن البطل يبدو مهزوما بالمعنى الواسع والعريض للكلمة، وبوصف ذلك تأويلا أيضا ربما يصيب وربما يخطئ، لكنّ ما يجعل من أبطال هذه الروايات أبطالا أو شخصيات روائية رئيسية هو ما يحيط بهم من تعقيدات اجتماعية قد يكون لها طابع تاريخي، غير أن هذا المحتوى التاريخي للأحداث، أي إطارها الجامع في كل رواية على حدة، هو ذريعة الكاتب الأكثر تشويقا للقارئ أو الأكثر تأثيرا فيه تبعا لطبيعة تناول الروائي لهذا السياق أو ذاك.
تاريخ فردي
غير أن ما يميز هذا التناول للمحتوى التاريخي للعمل الروائي أنه ينزاح بهذا القَدْر أو ذاك عن التاريخ بوصفه تسلسلا كرونولوجيا للأحداث، بالإضافة إلى، أو بسبب، انه تناول فردي لتاريخ بات ماضيا يخص أفرادا لجهة أنه يُعاد سرده على ألسنة الشخصيات، فتقرأه كل منها بحسب موقفها منه وبحسب تأثريها فيه وبحسب ما يبدو عليه هذا التاريخ الآن وقد أصبح ذاكرة شخصية بالمعنى المحض للكلمة. وهذا يعني أن الماضي أصبح تذكرا الآن ولم يعد تاريخا من الممكن أن يخضع لوجهة نظر النقد الأدبي بوصفه كذلك، إنما من الممكن نسيانه تماما والتعامل معه على أنه ذاكرة شخصية بمعزل عن تقاطعات التاريخ وتجاذباته واستقطاباته الحادة أحيانا، كما هي الحال عندما تتحدث الشخصيات عن ماضيها في الحروب أو تتذكر لحظات عيشها البائسة، في أجواء القمع أثناء الحرب الباردة أو حتى في لحظات الشقاء الإنساني بعادياته.
أيضا، لاحظ البعض من محرري مراجعات الكتب على الروايات التي ترشحت للقائمة الطويلة نزعة الروائيين إلى إضفاء نوع من الفلسفة أو شيء منها على الشخصيات الرئيسية، وهي فلسفة خاصة بالشخصية ذاتها وربما من “تأويل” الروائي ذاته للحراك الاجتماعي للشخصية ذاتها في سياقها التاريخي الضاغط على العصب الحساس للوعي الذاتي؛ إنها فلسفة شخصية محضة تشكلت لدى هذه الشخصية أو تلك بسبب “الطحن” الذي تعرضت له في مجتمعاتها، ما دفع بها إلى أخذ موقف ما مما يدور حولها ويحكم تصرفاتها إلى هذا الحدّ أو ذاك، بقَدْر إسهام الشخصية في التأثير بما حولها من شخصيات ثانوية تتحرك حولها وتمثل جزءا أساسيا من المشهد مهما كان حضورها طفيفا إلا أنه ليس عابرا. يكتب جوليان بارنس في “مشهد نهاية ما” على لسان شخصيته الرئيسية ما يلي: “إننا نتحدث عن ذكرياتنا، لكننا ربما نتحدث أكثر عن نسياناتنا حتى لو كان ذلك ـ أكثر صعوبة، أو منطقيا من المستحيل أنْ يكون ـ عملا فذّا”.
ربما يختصر ذلك تلك الفلسفة الشخصية التي تحكم المنطق الخاص بحركة الشخصيات في “مشهد نهاية ما”، غير أنه يشير أيضا إلى مزاج في الكتابة التي تكشف عن ممارسة التذكر والنسيان معا بوصف هذه الممارسة تقنية في الكتابة السردية أو ربما تكون، بالإضافة إلى ذلك، فهي نوع من القناع الذي يرتديه الراوي فترتديه الشخصية سواء أراد أحدهما ذلك أم لم يُرِد. مثلا، يكتب بارنس ذلك رغم أنه بحسب ما كُتب عن هذه الرواية القصيرة، أو النوفيللا، يكتب ما هو أقرب إلى السيرة الذاتية أو الذكريات الخاصة التي لا يتبع سردها تتاليا منطقيا للزمن، بل يبدو مبعثرا تماما، بحيث بدا هذا التبعثر مرتبطا بطبيعة التذكر والنسيان ذاتيهما إذ يتناول بارنس مراحل حقيقية من طفولة تخصه وتخص شقيقه الذي يكبره وبات فيما بعد فيلسوفا، أي منتجا للأفكار فيما أصبح هو شاعرا يمارس كتابة الرواية من باب الرغبة في التخلص من الثِقَل الباهظ للذكريات والنسيانات التي تحولت الآن بعد الأربعين إلى مواقف من العالم ومن المعرفة بل ومن الجمال أيضا، على الأقل لجهة علاقته الغامضة بالمرأة ومرورها العابر ـ الملح في حياته التي تمرّ أمامه بوصفه واحدا من شخصيات “نهاية مشهد ما”.
تقنية فيلمية
وهذه التقنية السردية في إعادة كتابة الذاكرة تختلف بالتأكيد من روائي إلى آخر، لكنها تبدو في بعض الأحيان فيليمية تشبه تقنية الفلاش باك في التصنيع السينمائي، كما هي الحال في “عند ناحية كنعان” لسيباستيان باري حيث تقوم ليلي بير المهاجرة الإنجليزية التي تبلغ من العمر الآن التاسعة والثمانين بتذكر الأحداث التي ازدحمت في حياتها بدءاً من، أو بدلالة، أحلام لا تكتمل فتقوم بإكمالها من أحداث واقعية مرّت بها خلال هجرتها ومن ثم إقامتها ليس في “الأرض الموعودة، أي أرض كنعان”، بل عند ناحيتها وعلى مقربة منها فتطل عليها كما تطلّ الآن على حياتها التي امتلأت صخبا وأحداثا لا قِبَل لامرئ باحتمال تذكّرها وإعادة ترتيبها وسردها من جديد، ربما لذلك تكون الأحلام في نقصانها استعاضة ما عما كان من المفترض أنه قد جرى على أرض الواقع من مسرّات صغيرة قصيرة وخذلانات كبيرة، تسبب بها الأوغاد حتى أنهم سرقوا عمرها لما كانت في شبابها “عند ناحية كنعان” دون أن تتمكن من دخولها وحرمانها من التجربة المباشرة والحسية في اختبار العيش في الواقع والحلم هناك، بسبب الأزمات الاقتصادية والاجتماعية الطاحنة التي أنّ تحت وطأتها الباهظة أولئك الأفراد الذين لم يجدوا مَنْ يرشدهم حقيقة إلى أحد مداخل “أرض كنعان” التي هجرت بلادها من أجل الإقامة فيها في المرحلة التي بدأت فيها الحرب الباردة.
في حين تبدو رواية “يوم السباق” لدي. جي. تيلور أكثر كلاسيكية في اقترابها من التاريخ أو تناولها لشخصيات عادية من عصر تاريخي ما، يُعرف لجهة التحقيب التاريخي بالعصر الفيكتوري، والذي كان عصرا “عظيما” بالنسبة للإنجليز وعاصمتهم لندن التي كانت العاصمة الكولونيالية العالمية الواعدة أصحاب الصناعات الإنجليزية بأسواق وشعوب ودول كان يتم تسخيرها لخدمة ثراء التاج البريطاني النهم.
غير أن مدخل تيلور للدخول إلى هذا العالم لم يكن مدخلا كلاسيكيا، إذ أن “يوم السباق” هو لوحة كانت ذائعة الصيت للرسام وليام فريث والتي رسم فيها اليوم السنوي لسباق الخيل الذي يجري في يوم معلوم من أيام السنة، في ما يشبه الطقس أو العيد على مقربة من لندن ويعرف حرفيا بـ”يوم ديربي”. وإذ تصف الرواية تلك اللوحة عبر ألسنة شخصياتها الرئيسية الأنثوية، فإنها أيضا ترسم بورتريها لعصر بأكمله من المشاعر المتناقضة والمحتدمة، بل والعواطف الحارّة التي يقول عنها أحد مراجعي الرواية بأنها تترك أثرا في قارئها يجعله يعيش ذلك الزمن مع شخصياته.
وأيضا بالتأكيد وعلى نحو ما بات معتادا ومحسوما، فلا بدّ من حضور “الهولوكوست”، بكامل حضوره الماراثوني في الرواية الأوروبية إجمالا، ليس على مستوى الكتابة فحسب بل على مستوى الترشح للقائمتين الطويلة فالقصيرة لـ (المان بوكر) إلى حدّ أن ذلك قد بات أمرا مفروغا منه بشكل أو بآخر. لكن هذه المرة تأتي رواية “الهولوكوست” هذه من كندا مع رواية “إنه يعيد كي تمضي إليه” لأليسون بيك الذي يتخذ من إثارة تساؤلات وخيالات وسيلة للتأثير على القارئ، إذ هل من الممكن أن نتخيل حدوث الهولوكوست دون الحرب العالمية الثانية؟ وحتى إن لم تحدث فهل يكفي ذلك لإشاعة نظرية يؤمن بها مجتمع بأكمله تتعلق بنفي وإقصاء كل ما هو آخر ومختلف بالمعنى الديني عما تؤمن أنت به؟ وما ذنب أولئك المسالمين من نساء وأطفال؟
إن الإجابة عن أسئلة وافتراضات تخييلية من هذا النوع تستدعي التعليق عليها قراءة العمل مكتملا، إذ أن الخبرة في هذا السياق وفي ما تمت ترجمته من روايات أجنبية إلى العربية على قلَّتها لا تخلو من مواقف مسبقة تنزع إلى إحداث نوع من التأثير الخفي على القارئ، تماما مثلما يحدث في السينما العالمية، والأميركية الهوليوودية تحديدا.
ومن المؤكد أن العديد من الروايات تخرج عن هذا الطابع الذي يتناول التاريخ لتذهب باتجاه عالم الجريمة في أسافل لندن وأعاليها، إلا أن أحداث أوروبا الشرقية وانهيار الأنظمة الشمولية بطابعها الاستبدادي لا بد من حضورهما أيضا، مثل رواية “المائة يوم الأخيرة” للشاعر والأكاديمي الكندي باتريك ماغنيس، لكنه حضور ذاكرة في المتناول سواء بالنسبة للشخصيات أو القارئ بحسب ما تجري ملاحظته في إحدى مراجعات هذه الرواية التي تتناول المائة يوم الأخيرة من حياة الديكتاتور الروماني نيكولاي شاوشيسكو، حيث ليس من المهم الالتزام بخطوط الرواية عن المعنى الواسع والعريض لمجريات الحدث التاريخي أو خروجها عليه، بل يبني ماغنيس روايته على ما تتركه تلك الأحداث من أثر على الشخصيات بطابعها المتنقل من مكان إلى آخر في “العالم الحرّ”، بحثا عن مستقر ومتنفَّس معا يصلح للتذكر أكثر مما يصلح للبوح أو ما هو أقرب إلى ذلك.