تشهد سوق صرف العملات الأجنبية في مصر هذه الأيام تطورات متسارعة لاسيما على صعيد سعر الدولار الذي كسر حاجز 575 قرشاً خلال الأسبوع الماضي. وبحسب توقعات متعاملين بالسوق فإن سعر الدولار ربما يتجاوز 600 قرش خلال الشهرين القادمين مدفوعاً بالطلب المتنامي على الدولار من جانب المستوردين الذين يفضلون عقد صفقات استيراد آجلة تنفذ في العام الجديد، للحصول على أسعار العام الجاري في ظل توقعات بانفجار موجة تضخم جديدة وغلاء في أسعار المواد الخام ومعظم السلع المصنعة في الأسواق العالمية، وبالتالي يدبر المستوردون احتياجاتهم من الدولار بشكل واسع خلال شهور سبتمبر وأكتوبر ونوفمبر لتغطية عمليات الاستيراد الكبيرة في نهاية العام. كما اشتعل الدولار في مصر عندما تعرض عدد من البورصات العالمية لهزات عنيفة، الأمر الذي ترتبت عليه خسائر ضخمة لعدد كبير من المستثمرين الأجانب والصناديق المتعاملة في البورصة المصرية وسارع هؤلاء الى تغطية مراكزهم المالية المكشوفة في البورصات الدولية عبر عمليات تحويل دولارية من السوق المصرية، ما شكل طلبا مفاجئا وكبيرا على الدولار ساهم في ارتفاع الأسعار. وأمام هذا المشهد، سارع مضاربون محليون بدخول لعبة المضاربة على الدولار توقعاً لحدوث مزيد من الارتفاع مستقبلاً. وجاء دخول هؤلاء المضاربين لشراء العملة الأميركية ليمثل عامل ضغط شديد على السوق، لاسيما أن هؤلاء ليسوا شريحة واحدة بل هم خليط من التجار والمستثمرين في البورصة وأصحاب شركات صغيرة ومتوسطة، الأمر الذي يعني تفاوت القدرة التحليلية لكل منهم ومن ثم يندفعون للشراء دون اعتبار لأي عوامل موضوعية أو رؤى تستشرف مستقبل السوق، ولعبت المضاربات غير الواعية الدور الرئيسي في انفلات سعر صرف الدولار. وعزز من ذلك الأمر التقلبات الحادة التي شهدتها أسعار صرف عملات أجنبية رئيسية في السوق المصرية على مدى الأسابيع الماضية، وحقق بعضها ارتفاعاً كبيراً لأسباب تتعلق بظروف تداول هذه العملات في الأسواق الدولية أو لأسباب تتعلق بطلب محلي. وفي مقدمة هذه العملات الريال السعودي الذي ارتفع بنحو 5 قروش متأثراً بطلب كبير عليه استعداداً لموسم الحج وهو طلب موسمي يتكرر كل عام رغم استعداد البنوك له بتدبير كميات كبيرة من الريال السعودي تجنبا لحدوث اختناقات أو أزمات، وقفز اليورو بمعدل 4 بالمئة في غضون أسبوعين ليكسر حاجز ثمانية جنيهات بعد ما تعرض لضربات شديدة في الشهور الأخيرة. وهذا السيناريو أوحى لكثير من المضاربين على العملة في السوق المصرية بإمكانية أن يتكرر الامر مع الدولار، وبالتالي سارع عدد كبير من هؤلاء المضاربين لشراء كميات من الدولار عبر وسطاء تابعين لشركات صرافة عاملة في السوق وتخزينها وحجبها عن التداول تحسباً لحدوث مزيد من الارتفاع السعري، ومن ثم بيعها لتحقيق أرباح رأسمالية كبيرة في فترة لاتتجاوز 3 الى 4 أسابيع. وأمام هذه التطورات المتسارعة وجدت السلطات النقدية في مصر، وفي مقدمتها البنك المركزي، نفسها أمام معركة جديدة في سوق الصرف فرضها المضاربون وظروف دولية الأمر الذي استدعى سرعة التعامل معها. ورغم أن بيانات البنك المركزي المصري على مدى الشهور الثلاثة الماضية كانت تؤكد تنامي حجم الاحتياطي الدولاري لدى البنك المركزي، ليكسر وفقا للتقرير الشهري الصادر عن البنك في سبتمبر الماضي 35,6 مليار دولار بزيادة 3,2 مليار دولار مقارنة بالفترة المماثلة من العام الماضي فإن هذه التطمينات لم تفلح في كسر شوكة المضاربين أو تهدئ من روع السوق، خاصة أن السوق المصرية تعاني حساسية تاريخية مفرطة تجاه سعر صرف الدولار. ويغذي هذه الحساسية الشعور بعدم القدرة على الحصول عليه حين الحاجة له رغم أن السوق لم تشهد أي أزمات طاحنة تتعلق بالدولار خلال السنوات الثلاث الماضية، حيث كان البنك المركزي يتدخل سريعاً بضخ كميات كبيرة من العملة الأميركية لتلبية الاحتياجات المتزايدة. وفي المعركة الأخيرة لم يفضل البنك المركزي حتى الآن التدخل في السوق بائعاً للدولار بكميات كبيرة مثلما كان يحدث قبل ذلك، بل فضل اللجوء لسياسة غير تقليدية تتمثل في اعفاء البنوك من الحصول على تغطيات تصل الى مئة بالمئة من قيمة الاعتمادات المستندية لشحنات الاستيراد الخاصة ببعض السلع الغذائية مثل اللحوم وغيرها، وترك تحديد النسبة التي يلزم المستورد بتغطيتها للتفاوض الحر بين المستوردين والبنوك. أما الإجراء الثاني فهو تعليمات صادرة للبنوك بضرورة توفير الدولار لأي مشتر من عملاء البنوك بشرط اثبات أوجه احتياجاتهم للعملة الأميركية بموجب مستندات رسمية لقطع الطريق على المضاربين الذين يجيدون لعبة استغلال هذه التسهيلات، وبالتالي توفير الدولار للاحتياجات الحقيقية للمصريين سواء كانت هذه الاحتياجات تتعلق بظروف سفر للخارج للعلاج أو السياحة أو التعليم. ورغم هذه الاجراءات، فإن السوق تمر بمرحلة ساخنة تتصاعد فيها عمليات المضاربة وينتج عنها ارتفاع شبه يومي لسعر صرف الدولار والريال، الأمر الذي يشير إلى قوة عمليات المضاربة أو وجود فجوة في الاحتياج الدولاري نتيجة بعض الأسباب السابق ذكرها، الأمر الذي دفع خبراء السوق إلى دعوة البنك المركزي للتدخل السريع عبر ضخ كميات من الدولار تهدئ حالة الذعر وتلبي جانباً من الطلب على هذه العملات، لا سيما أن الارتفاع أصبح غير مبرر ويشكل عبئا على أسعار السلع المستوردة. ويطالب ابراهيم المزلاوي، رئيس شعبة الصرافة في الغرفة التجارية بالقاهرة، بضرورة التدخل الحاسم من البنك المركزي لتعزيز جهود شركات الصرافة التي تسعى لمواجهة هؤلاء المضاربين الذين يفسدون السوق ويشكلون طلبا غير حقيقي على الدولار. وقال إن هذا التدخل يجب أن يتخذ أشكالاً عديدة منها ضخ دولاري من رصيد الاحتياطي النقدي وتعويضه فيما بعد عندما تهدأ السوق، ومن خلال اجراءات مصرفية احترازية تكبح جماح هؤلاء المضاربين. وأضاف المزلاوي أن شركات الصرافة تسعى جاهدة للتقليل من الآثار الجانبية لهذه المعركة المشتعلة على حركة الاقتصاد الوطني من خلال المساهمة في توفير الدولار والريال لمن يحتاج وبكميات معقولة، ولكن عندما تستشعر أن من يطلب هذه العملات يطلبها بغرض المضاربة أو التخزين لتعطيش السوق فإن شركات الصرافة لا تبيع. ويشير خالد الجبالي، العضو المنتدب لبنك باركليز، إلى أن السوق تمر حالياً بفترة مضاربة حادة مما يستدعي التعامل الحكيم معها لا سيما أن هؤلاء المضاربين استغلوا بعض الأسباب مثل خسائر البورصات العالمية وموسم الحج لاشعال معركة الدولار ولكن ذلك لا يعني الاستسلام لهم. وشدد الجبالي على أن الدولار يتوافر بكثرة في البنوك ولكن البنوك لاتستطيع أن تمنح الدولار لكل عابر سبيل، بل لابد من اثبات احتياج هذا الشخص للدولار حتى لا تسهم البنوك دون أن تدري في تغذية عمليات المضاربة خاصة على الريال السعودي في موسم الحج، مشيراً إلى أن تعليمات البنك المركزي تقضي بتوفير الريال لكل من لديه تأشيرة حج والدولار لكل من لديه تأشيرة سفر للخارج سواء للتعليم أو العلاج أو السياحة أو في مهام تجارية وغيرها، الأمر الذي تنتفي معه فكرة وجود أزمة لأن الأزمة تعني أن هناك من يحتاجون الى الدولار في أعمال ضرورية ولا يجدونه وهذا غير موجود الآن بالسوق المصرية.