الخلعاء توصيف خشن للراهن
تحفل المكتبة العربية بروايات عديدة لخليل النعيمي، الطبيب الجرّاح السوري المعروف· رواياته تشريح، من نوع خاص، للمجتمع العربي والسوري، تشريح يكشف كيفية اشتغال العقل العربي وكذا تغييب الكائن الذي لا يحس سوى بالزمن وهو ينفلت، زئبقيا، من بين يديه من دون قدرة على الفعل، أناس لا يفعلون ولكن ينفعلون، وهم في انفعالهم المرضي العصابي لا يبشرون بنهضة للعرب ولا بانتصار في القضايا الكبرى، كل حيواتهم عبارة عن مصائر صغيرة وعن سعادات لا تتجاوز أكل صحن من الفول أو انتظار المُحرّر·
خليل النعيمي، الواعي جداً بتفوق الغرب العلمي والحضاري في الوقت الراهن، وكيف لا وهو يشتغل جرّاحاً في أفضل مستشفياته، واعٍ أيضا بأن التفوق أيضا موجود في الأدب والكتابة·
يستعين الكاتب حيناً بالذاكرة التي ظلت على قوتها وحيويتها، والدكتور النعيمي يمنح لقرائه، كما مستمعيه، فرصة نادرة لتذكر كل شيء عن البدو وعن حياة القبائل العربية التي كانت يوما تجتاز، من دون وَجَل، ما يسمى الآن بالحدود السورية الأردنية والسعودية والتركية·
يستعين، خليل النعيمي، حينا آخر بالتجريبية، وما روايته ''الخُلَعَاء'' التي طُبعت حديثا طبعتُها الثانية، والتي صدرت عن المؤسسة العربية للدراسات والنشر، إلا دليل على قدرته على توظيف التراث الخارجي القديم لتركيب رؤيا تتحدث عن عصرنا وعن تشتتنا الراهن· استعانة باللغة الخارجية، اللغة الخشنة والصافية، لوصف خشونة الوضع الحالي وهشاشته· وتصل التجريبية مستوى رفيعاً حين يلغي الروائي كل تنقيط في النصّ فيبدو وكأنه كُتِب على نَفَس واحد، أو بجرة قلم واحدة·
''··· لقد حكم التاريخ عليّ لصالحك حكماً لا يرد وأحسستُ بحاجة ملحة لأعترض واعترضت ببراءة فطرية سخيفة مستندا كالعادة إلى الماضي الذي ولى هكذا وضعت نفسي ببلاهة في وضع المتهم المنبوذ ولم تدع كلامي يتم إذْ قلت باستهزاء كبير البدء إنْبَدَأَ وانتهى الأمر وقلتُ أنا بسرعة البدء لا يظل بدءا إلى الأبد ولا مرجعا صالحا وبخفة أجبتِ إبْحثْ لك عن حجة أخرى وصرت أبربر القاضي مرة وأخرى القاضي ومن أين لي بحجة أخرى والعالم محصور بين القلب والعين وليست لي إلا حياة واحدة ووحيدة تعرفينها أفضل مني لا أريد أن أدخل إلى اللعبة السخيفة···'' أي ضياع يحس به الكائن أكبر من هذا: ''··· لقد كنتُ أنا الآخر أُحاكم الأمور بعقل السلطة المزروع في رأسي العقل الموهم وبعد أن صرت أزن الأمور بميزاني الخاص بدأت أدرك أنني إذا ما أردت أن أبدأ من جديد حقا فليس لي مفر من استعمال مكونات حياتي القديمة الحياة التي كرهتها وأحببت التخلي عنها والتي عليّ أن أستعملها اليوم من منظور نقدي آخر غير الذي أحطتها به''·
يلتجئ الكاتب خليل النعيمي ثالثة إلى الرحلة وأدب الرحلة، وهو هنا رائد من روادها المعاصرين الأحياء، عيناه تلتقطان كل ما يراه، وقلبه يحسّ ''المؤمن ينظر بنور الله، كما يقول المتصوفة'' بأشياء قد لا يحسها السائح حتى وإن تمنطق بآلة تصوير رقمية وآلة تسجيل بالغة الالتقاط، والذين قرأوا كتب النعيمي في أدب الرحلة ينذهلون، حقا، من جمال السرد في ''كتاب الهند'' أو في ''قراءة العالم'' (الفائز بجائزة محمد السويوي لأدب الرحلة المعاصرة سنة 2007) أو في النصوص الأخيرة التي نشرها في مجلات ثقافية رصينة، من بينها نص الأرجنتين وأخيرا نصّ زيارة ضريح مولانا جلال الدين الرومي ·