السخرية بلا حرية تقنية فجة
تتواصل الآراء وتتنوع حول موضوع الأدب الساخر الذي فتح ملفه ''الاتحاد الثقافي''الأسبوع الماضي، فثمة رأي يعيد ضمور ظاهرة الأدب الساخر إلى جسامة التحديات التي تفترضها في واقع يضيق صدره بالنقد ، وهناك من يذهب إلى تحميل المسؤولية للكتاب أنفسهم الذين ينأون بأنفسهم عن ركوب المركب الخشن، وبعيدا عما سبق تطالعنا آراء منقبة في عمق الكتابة الساخرة، وراصدة لعوامل مفارقة من طبيعة جوهرية بين الفطرة الساخرة وبين الإنتاج الأدبي الخاضع لمقتضيات التصنيع·
المخرج المسرحي اللبناني ريمون جبارة يرى أن الأدب الساخر بألف خير، استناداً الى ما تختزنه مقالات الكتّاب الشباب، ويضيف: ''السخرية كحالة تتطلب مناخاً خاصاً يشكله المجتمع الحاكم والشعبي، كما تستدعي من المبدع جرأة الثائر لا براعة التاجر، تماماً كما كان فولتير وبرنارد شو وغيرهم ممن صنعوا فناً من الهامشية الخلاقة، وكانوا على خلاف مع الآلهة والناس والأشياء، اذ أن المثقف مع هؤلاء ليس بحاجة الى أن يبدع، لأن الابداع وجع وليس حالة هنيئة مرتاحة''·
متحدثاً عن تجربته الشخصية يقول عساف: ''بالنسبة ليّ تكونت سخريتي من الكينا التي ابتلعتها حبوباً في طفولتي اذ أصبت بها منذ الولادة، ثم توالت الوصلات فعملت مني ساخرا لكثرة الوجع''·
ويختم قائلا: ''على الصعيد اللبناني، لا يسع أحد أن يتنكر لموهبة سعيد تقي الدين، الرائد في هذا المجال، يومها كان نشر نتاجات المبدعين شعراً أو نثراً أو مسرحاً لا يكلفهم رهن بيوتهم في مجتمعات عربية ما عادت تهوى عادة القراءة، فالشاشات تفّهت كل شيء، وعهّرت كل شيء''·
فضل: رواج السخرية
الكاتب المصري بلال فضل بدا، بعكس الآخرين، متفائلا منذ البداية، وقال: ''بالعكس أرى إن السخرية منتشرة ورائجة بين الأجيال الأدبية الجديدة، وأقرأ أعمال أدباء مثل علاء الاسواني وأحمد العايدي وأسامة الدناصوري، فأجد أنها كافية لاثبات أن السخرية لم تعد حلية أو أسلوباً، بل ملمحاً أساسياً في الأدب الحديث خصوصاً الروائي منه''، فضل يرفض مصطلح ''الأدب الساخر'' مشيراً الى أنه كان يرتبط بفترة قديمة سادت فيها الكتابة الجادة، التي لا تنطوي على حزن بل على شيء من الرزانة، من أبرز رموزها نجيب محفوظ، الذي و''بالرغم من امتلاكه لروح ساخرة مرحة، فقد كان يخفيها وراء أعمال جادة، وأول من تجرأ على اعتماد السخرية تقنية أساسية في أعماله الأدبية كان يوسف ادريس، ولكن على استحياء ويرجع ذلك لأن السخرية كانت قرينة الخفة، ومما يدلل على ذلك أنه عندما ظهر محمود السعدني لم يعترف به النقاد كروائي، رغم أن له روايتين أعتبرهما من عيون الرواية العربية''· يضيف بلال فضل: ''لكن هذه الفترة انتهت، وأصبحت السخرية تقنية أساسية في عملية الكتابة، وأهم الأعمال الأدبية والروائية التي راجت في الفترة الأخيرة كروايات ''عمارة يعقوبيان ''و''شيكاغو'' و''أن تكون عباس العبد'' و''فاصل للدهشة'' لمحمد الفخراني، تنطوي على روح مرحة ساخرة، واهتمام يصل الى درجة الولع بالتقاط المفارقات الساخرة''·
غير أن فضل يعترف بأن الكتابة الساخرة مازالت تعامل باعتبارها أدنى أو أقل مستوى من الكتابة الجادة الرصينة، ويرى أن ذلك يرجع لحالة الازدواجية التي تعانيها الشخصية العربية عموما، فهي ''تطرب وتسعد بالأعمال الساخرة والضاحكة، ولكنها لا تثق بها بل تحقرها أحيانا، وترى في الجدية القول السليم المقبول والمعترف به، وهي مشكلة تتجلى أكثر في السينما، حيث السائد والمعترف به، في النقد السينمائي الجاد هو الحط من شأن الأعمال الساخرة·
امبابي: غياب القدرات الابداعية
ويسأل الروائي المصري فتحي امبابي باستغراب: ''هل هناك أدب ساخر الآن؟ فبعد الساخر العظيم إبراهيم عبد القادر المازني لم أقرأ لكاتب ساخر بالمعنى الحرفي للكلمة، بالطبع هناك سخرية متضمنة في الأعمال، كأعمال يوسف ادريس ويحيى حقي مثلا، ولكن ليس هناك كاتب ساخر، أقصد روائياً أوأ ديباً، يكتب عملا ساخراً من أوله لآخره، وهذا يرجع بالأساس الى قدرات الكتابة، وواقعنا العربي على عكس ما يقول البعض يدعو للسخرية فهو ملهاة بكل المقاييس، ولكن المشكلة في عدم توفر القدرات الكفيلة بإنتاج الآدب الساخر، قد تكون هناك روايات اعتمدت على السخرية كرواية ''أن تكون عباس العبد'' لأحمد العايدي، و''عمارة يعقوبيان'' لعلاء الاسواني وغيرها، ولكن لا توجد رواية ساخرة من الألف للياء على غرار رواية ''دون كيخوتة'' على المستوى العالمي ورواية المازني على المستوى العربي''·
قوبعة: صعوبة الإنجاز
ويرى الباحث التونسي محمد قوبعة أن الأدب الساخر لعب دوراً هاماً في مقارعة الاستعمار الفرنسي بتونس والاستعمار الإنجليزي بمصر، وكان سلاحاً في مقاومة البطش والظلم، كما انه تناول بالنقد بعض المظاهر الاجتماعية، ذلك أن صحفاً تونسية كثيرة كانت تزخر بمقالات واشعار وقصص ساخرة، ويشير الى أن الشاعر حسين الجزيري أنجز ديواناً كاملا تناول فيه بالنقد اللاذع مظاهر اجتماعية مزرية، كما أن الشاعر الغنائي بيرم التونسي كتب الكثير في الأدب الساخر أيام نفيه الى تونس واشرافه على جريدة ''الشباب''، ومن درره القصيدة الشهيرة التي ينتقد فيها المجلس البلدي''، وكذلك اعتمد الأديب علي الدوعاجي في جل رواياته ومؤلفاته مثل: ''سهرت منه الليالي'' و''جولة في حانات البحر الأبيض المتوسط'' أسلوب السخرية لتسريب آٍرائه ومواقفه·
قوبعة يؤكد أن أسلوب السخرية أبلغ في الاقناع، لأن السخرية تنفذ الى الوجدان وتؤثر في القارئ أكثر من الأدب الجاد الذي كثيرا ما يعتمد الوعظ والتحريم والمباشرتية الثقيلة، كذلك هو يعتبر أن الكتابة الساخرة فن صعب المنال وتقلصه يعود الى تضييق هامش الحرية في البلدان العربية، فالشاعر عندما ينتقد سلوكاً سلبياً في قصيدة ساخرة يحمل كلامه محمل الثلب، وربما يحاكم وفق قوانين وتشريعات لعلها وراء كبح جماح الأدب الساخر· ولا يرى قوبعة أن تراجع الأدب الساخر مرتبط بالصعوبات التي تواجه الأمة، والا ''كيف نفسر وجود أدب ساخر في فلسطين التي تعاني من أكبر هم من الاحتلال الصهيوني، وأن يكون اميل حبيبي مثلا، قد اعتمد السخرية في روايته ''المتشائل''، في الوقت الذي كان يئن تحت وطأة الاحتلال، فالسخرية في الأدب هي وسيلة لمقاومة الاستعمار والتخلف، كما أن شعر الجواهري ومعروف الرصافي زاخر بالسخرية السياسية اللاذعة، على غرار قصيدة الرصافي التي جاء فيها قوله:
ناموا ولا تستيقضوا/ ما فاز الا النوم
ودعوا التفاهم جانبا/ فالخير أن لا تفهموا''·
ويلفت قوبعة الى أن الأدباء الساخرين هم من كبار الكتاب فجمال الغيطاني في ''الزيني بركات'' واميل حبيبي في ''المتشائل'' ابدعا في هذا الصنف الأدبي الزاخر بمعاني التحدي لتقويم ما عوج، وهناك في الشعر الحديث اتجاه ساخر يغلب عليه الهجاء في أشعار الباروني ومظفر النواب وأحمد مطر''·
أما أسباب تقلص الأدب الساخر فيعيدها قوبعة الى صعوبة هذا الفن الأدبي، ذلك أن ''ليس كل كاتب قادرا على اعتماد أسلوب السخرية في مؤلفاته، وحدهم الكتاب والشعراء الكبار قادرون على ذلك''·
التمارة: مساوئ التصنيع
الناقد والباحث المغربي عبد الرحمن التمارة يقارب الموقف بالقول: ''يستمد التفكير في الأدب الساخر أهميته من الرغبة القوية في فضح الهشاشة، وبلورة رؤية مضمرة في الخطاب الساخر غايتها التصحيح والتقويم، فهل يسعفنا هذا الفهم في الإقرار بقضية تراجع الأدب الساخر؟ من منظور زمني وتخييلي يمكن القول إن الأدب الساخر لم يعد في الراهن مقتصرا على تخصص محدود، لأنه صار جزءا من تعبير تتنامى فيه السخرية، بل تصير قيمة مضافة، تمكن من الإمتاع الفني، وتساعد في تمثل مظاهر الضعف والخلل في الموضوع المعالج من لدن الأديب، لذلك فالإقرار بتراجع الأدب الساخر هو إفصاح عن ضمور كينونة نصية خاصة، وتفتتها في ثنايا نصوص أدبية متنوعة الانتماء الأجناسي''·
ويرى أن الانسحاب النوعي للأديب الساخر، بناء على نمذجة التخصص، يعد حدثاً استعارياً دالا على التطور الذي يعرفه الأدب والواقع معا، إنها استعارة تؤكد الانعطافات الدائمة للأدب، مما يجعله ثائراً على التنميطات المدرسية، ومنفلتا باستمرار من قبضة السكونية القاتلة، لكن انسحاب الأدب الساخر المتحدث عنه لا يجب تضخيمه، خاصة إذا علمنا أن النصوص الأدبية الراهنة، رواية وقصة، مليئة بالخطاب الساخر، بل نجد، في كثير من الأحيان، التعبير الساخر جزءا هاما في تشكيل كينونتها النصية فكرياً وفنياً·
يتابع التمارة توصيفه قائلا: ''يفضي الاحتكام إلى ثنائية الفطري والمكتسب القول بأن السخرية فطرية في كل واحد منا، مع تباين درجات ''التجلي والخفاء''، بيد أن بناء خطاب ساخر من داخل المنظومة الأدبية، لا محالة، خاضع للصناعة الفنية، مما يقوض المبدأ الفطري في كينونة الأدب الساخر، ويبني بدله أفقاً فكرياً قوامه انبناء السخرية داخل الخطاب الأدبي وفق ''جمالية التصنيع''، من هنا، فالخطاب الأدبي الساخر ليس في حاجة إلى وعي أصحابه بمدى التطور أو التأخر، بل هو خطاب يهجس بضرورة الكشف والفضح والتعرية، كلما بدت البنية المجتمعية مختلة في أحد مكوناتها الأساس·
تحتاج السخرية في الأدب، حسب عبد الرحمن التمارة، إلى مناخ أساس هو ''مناخ الإبداعية''، وإلا صارت خطاباً نشازاً في العمل الأدبي، حيث تصير أداة مساهمة في تعطيل الحمولة الرمزية للأدب الساخر، وتقلص قيمته الجمالية، لأن ''السخرية، هنا، تغدو مجرد تقنية فجة غير مؤطرة برؤية فكرية عميقة، وبالتالي فمناخ الإبداعية يمنح الأدب الساخر تأشيرة الانتشار، خارج إكراهات الزمن والمكان، كما يمنحه سلطة التأثير والتنوير، ومنه يمنح للمتلقي سلطة البحث عن المعتم والخفي والدال والمضمر، في النص الأدبي المدموغ ببلاغة السخرية، التي تمثل في النص الأدبي أداة فنية تؤدي وظيفة التحفيز الفكري والجمالي للبحث عن الوصفات القادرة على تحرير الذات المتجهمة في الأزمنة الموبؤة، وبالتالي فالسخرية، بما هي أداة تنفي اعتباطية البناء النصي، قد تفجر الضحك أمام مقطع نصي أدبي، لكنه الضحك المر الذي يخفي تجهما داخليا، من هنا، ليس الخارج دائما هو المتحكم في بلورة الخطاب الأدبي الساخر، بل الداخل، أي أن الواقع المعيش قد يكون مثقلا بالسخرية، لكن إنتاج أدب محمل بسخرية دالة يتطلب جهداً خاصاً من الأديب لبناء أدب يتجاوز الواقع، بناء على ثنائية الكائن والممكن، ولذلك يمكن القول إن السخرية في الأدب تهتم بكيفية تشكيل وعي فني وفكري غايته إدراك أهمية السخرية في بناء رمزية النص الأدبي، خارج حصرها في مجال القصدية المباشرة''·