حوار - عبير زيتون
يجلس الريس أمامك على الأريكة الحمراء في مرسمه المائي كنص مغلق الأبواب، تفوح منه رائحة ملح البحر، والبخور. يضحك، ويعانق ضيوفه. مرح، وفرح، حواسه مرصد جوي، يمتحن صبر زائره، على احتمال أفقٍ ممتلئ، لا يعرف أن يتكلم إلا «لوناً»!. يرصد من يحاول السير داخله، ويستدرجه إلى باب الخروج على جسد كائنات لغوية، تأخذ شكل عناوين ورقية، ترفع الحجب عن وجه المعاني، في حوار مفتوح يعود به إلى قصة البداية، والتكوين... لكن لا باب يفتح هذا الصمت! سوى التدرج به مع إحساسه الأول بالرطوبة، والملح في حقول الذكريات، ورميه في نورانية بحر المحبة (حرف الحاء) وهو يعيد تكوين حكاياته على إيقاعات الزمن المتغير، وهو يتمدد على آهات اللون البهيّ الأصفر. باب غابات عبدالقادر الريس وسر حرائقه اللونية، كما يقول.
(بعد جهد لذيذ)! كان هذا الحوار الخاص بـ «الاتحاد الثقافي» مع رائد مسيرة الفن التشكيلي المعاصر في الإمارات عبد القادر الريس أول مُحترف للفن في تاريخ التشكيل في الإمارات.
هسيس الحلم
* لمن ترسم؟
** أرسم للمكان الذي شكلني وكونني وصنع وجودي فنياً، وأعطاني طاقته هسيسَ حلمٍ، وموهبةً تشكلت بداخلي دون وعي أو قرار ذاتي. أرسم للأجيال القادمة، لتقرأ خصوصية ذاكرتها. الفنان لا يرسم من أجل اللحظة الآنية فقط ولا للمتعة. فموهبة الرسم بالنسبة لي مسؤولية كبيرة تنبع من إيماني بأن الفنان شاهد، وأن تكون شاهداً يعني أن تحدد الأشياء التي تراها، والتي قد لا يستطيع سواك أن يراها، وأن تقرر معناها، وأهميتها على شكل لون، أو حرف، أو فراغ. فلكل فنان لغته الخاصة به، ومنهجه الذي يتشكل مع التمرس الطويل، والمراقبة الطويلة داخله وخارجه.
* كيف أتت اللوحة.... إليك؟
** لم تسألني الموهبة رأيي، ولم تستأذن مني في القدوم أو عدمه. كان موج البحر، وصفاء الرمل، وهو مبتل بالرطوبة والملح، يشدني للرسم على ظهره وأنا طفل صغير، لا يتجاوز عمري سنوات. لم أحلم يوما أن أكون فناناً. كلمة فنان كانت بالنسبة لوعيي، وإمكانياتي الهشة، آنذاك، شيئاً يشبه المستحيل، والغامض البعيد، الذي لا يمكن لي الولوج إلى عوالمه، أو حتى الاقتراب منه، أو الحلم به، رغم كوني عشقت الرسم بالفطرة. ولا يزال طعم ملوحة البحر، يحك أصابعي، لأرسم كلاماً أشعر به، ولكن لا أعرف الإفصاح عنه سوى حركةً، وإيقاعاً على ذهب الرمل، وصوت موج البحر، في ذهابه وإيابه، مع الشمس الحارقة في تلك الأيام.
وتعمقت الموهبة عندي ربما بالمصادفة. لا أعرف معنى هذه الصدفة القدرية لغاية الآن، وأنا في غربتي المبكرة في مدارس الكويت الابتدائية، وكانت تشهد في الستينيات نهضة تعليمية وعمرانية كبيرة، تنبهت مبكراً لموهبتي، فكنت دائماً الحاضر الفاعل في معارضها الصيفية، ونشاطاتها الشبابية في الرسم والتلوين، وقد أقمت فيها قرابة 10سنوات، ومن معارضها، انطلقت لوحاتي إلى معارض أوروبية عدة.
* أزيَد من أربعة عقود زمنية تفصل بين أول لوحة زيتية لبورتريه رسمته عام 1966، وبين آخر لوحة مائية تجريدية – حروفية حديثة عملاقة بلونها الأزرق، هل تُعتبر هذه المسافة بالنسبة لك مسافة؟ أعمال تراكمية، أم هي نتيجة تراكم المعرفة؟ كيف تستشعر طعم هذه المسافة الفاصلة بين البداية واليوم؟
** هي مسافة توق اللاشيء إلى الشيء، هي مسافة مجازية، في نضج حواس اللون في داخلي عبر التجربة، واختبارات الحياة في صعودها وهبوطها وضجرها أحياناً. هي مسافة نضج العمر، وتبلور مرآة الذات في انكشافها على ذاتها في مرآة اللوحة، وهي تتبدل وتتغير، ليس كموضوع، أو تقنية، أو أداة فقط، بل في الوعي الحسي والوجودي في انكشافه على حيوات اللون وطاقاته المتبدلة، في نقله لنبضات هذا الكون الشاسع المحيط بي، والذي لا أجد طريقاً لي فيه سوى في خيمة اللون الباهت أو الساطع. لا فرق مادام هو إحساسي ومفهومي لمعنى الجمال الفني.
هوية المكان الأليف
* تُعتبر من أبرز الفنانين المعاصرين الذين جسدوا في لوحاتهم ملامح تراثية معرّضة للاندثار مثل البيوت القديمة، والسفن على الشطآن، والبراجيل، والأبواب، والحارات القديمة، وكأنك تعيش داخلها، كيف نقرأ أهمية التراث لديك؟
** التراث بالنسبة لي هوية المكان الأليف، مذاق الذاكرة الروحية في أول وعيها وتشكلها في الوجود، هو بصمتي الفنية، وهويتي الرمزية في تعاليها على الزمان والمكان الماديين، هو حافزي للتجاوز، والابتكار، بقدر ما هو مجالي الحيوي في تأسيس وسيط فني لعالم جديد فيه الخاص والعام. هو البداهة الوجدانية لأي خصوصية فنية، ولأي التقاء بين الماضي والحاضر. كما أنه الباحة الخلفية الخاصة بي في التأمل، والإحساس بكيمياء الأشياء، في تكاثف الصور، والتجارب، واختبار مشاعرها الأولى وكأنها حاضرة. هو في احترام الأمكنة وذاكرتها من ضمن احترامنا للأشخاص والمواقف المرتبطة بها، ورفض التساهل الحاصل حيال التعامل معه. التراث بالنسبة لي هو بداية الحكاية، ورواية الزمن، قبل استدارته نحو منعطف جديد. هو ذاكرة الحياة في التبدل والتغيير. أما الثابت فيها فطبعاً هو طعم ذاكرتي الخاصة من هذا المكان الأليف.
كلنا حراس الجمال
* كلامك يجعلني أتساءل: لماذا التصق بتجربتك لقب حارس التراث دون سواه، رغم أن مسارك الفني كان متبدلاً ومتنوعاً، سواء في الموضوع، أو في التقنيات! وهل أنت راض عن هذا اللقب الجامد، برأيي، بحق مسيرتك الفنية؟
** هذا سؤال مهم جداً، ويجعلني أتطرق من خلاله إلى موضوع غياب النقد الفني، وإلى نمطية تعامل الصحافة مع جوهر الفن التشكيلي، فهو تعامل لا يتعدى المشهدية من الخارج، أي تتمحور الكتابة الصحفية حول الشكل الفني، وإنتاجيته، وليس حول ما يقع خلف هذا العمل الفني، أحياناً يتناسى الآخرون، أن الفنان في النهاية، هو مشاعر، وأحاسيس، وضمير، وفكرة إنسانية، لا تستطيع الحياد عن محيطها. ولا ألوم من لم يتابع مسيرتي من البداية، خاصة وأني كنت مغترباً في الكويت، ولم يلحظ الآخرون، اهتماماتي الإنسانية بقضايا المنطقة العربية الجوهرية، مثل مسألة اللاجئين، والقضية الفلسطينية، وسواها من الموضوعات الإنسانية. ربما لكوني لا أحسن التعبير عن نفسي كلامياً. ولكن أترك هذه المسألة للزمن كي يقول كلمته في يوم ما. ولقب حارس التراث لا يزعجني. لمَ لا.. نحن كلنا، في نهاية المطاف، حراس الجمال في هذا الكون.
* بين التذكر والنسيان ثمة خيط رفيع يتأرجح بين الوعي واللاوعي، كيف تتعامل مع مخزون ذاكرتك عندما تفتح أبوابها للنور، وكيف تقرأ علاقة العمل الفني بالذاكرة؟
** كيف يمكن لإحساس الإنسان المحض أن يشكل نفسه بصورة كاملة، دون ذاكرة الصور، والأمكنة، ورائحة الطفولة. ذاكرة الإنسان هي الإنسان، ومعجزة خالق السموات في الإنسان. لولا الذاكرة الإنسانية ونقلها إلى ذاكرة الفن، لتعذر علينا فهم هذا العالم الخارجي بوصفه، واقعياً حاضراً في ذاتنا. الذاكرة هي من تعطي للماضي وصفه، وللمستقبل هيئته، وذلك عندما نفكر بهما مستندين على ضوئها. وذاكرة الفن برأيي هي ذات الوعي البشري في تشكله، وتطوره، وهوما يسمح لنا أن نمنح حتى للصمت وجوداً ومقياساً. أما بالنسبة لي فهي تفرض نفسها على مخيلتي دون رقابة أو قرار، تأخذ يدي وترسم بها دون أي تدخل عقلاني يحدد شكلها أو حتى لونها، قد تأتي على شكل إلهام، أو رائحة، أو إحساس. من الصعب علي تحديد ذلك بدقة.
* تحرص على إعطاء لوحاتك حقول عناوين وأسماء مثل من الماضي والحاضر، السكينة، سنين السعد، الانتظار، ما الذي يعنيه لك إعطاء هوية دلالية لموضوع للوحة؟
** (يضحك) ويتساءل: هل بات هذا الأمر اليوم من مخلفات النسيان أيضا؟ ويتابع: كل لوحة لي هي كائن حكائي، وراوي لقصة أو حكاية، معلومة أو مجهولة. أنا لا أؤمن أن الفن يمكن أن ينهض في سرديته البصرية، دون حكاية إنسانية، سواء مباشرة أو رمزية. بالنهاية هناك قصة ما، ومحرك ما جاذب للآخر. وأنا أنظر بعناية دائما إلى حق الآخر، واحترام حق الآخر، في هدايته لما تحمله اللوحة، سواء كان متفرجاً أو عابر سبيل. فمن حقه كلياً أن يستبطن موضوع اللوحة بعيون صاحبها، وبعد ذلك له مطلق الحرية في تسميتها. ولكن كفنان ملتزم بمبادئ فنه، أجد من المتوجب على الفنانين التعب قليلا على هذه النقطة، كي يضع المشاهد على سكة المعنى، التي يرغبها الفنان على الأقل من ناحيته. وليس فرضاً أو مساراً إلزامياً للآخر.
التجريد مساحتي
* أعمالك الأخيرة خاصة في السنوات العشر الأخيرة شهدت تحولاً جذرياً في الشكل، والمضمون، والأدوات، أختصرها بلغة التجريد اللوني، مع التقنية الصعبة السائلة المائي، لدرجة يُقال اليوم إن عبد القادر الريس فنان مائي بامتياز؟ لماذا هذا الانعطاف الكلي من الانطباعية إلى التجريد، ومن الزيتي إلى المائي؟ هل هو خيار أم قرار؟
** كلاهما معاً. التجريد بدأ معي كتحدٍ لنفسي، ولموهبتي الفنية، كما هو تحد لمساحة اللوحة، التي أميل فيها إلى المساحات الضخمة الكبيرة التي لا يجرؤ كل فنان على تحدي بياضها بريشة الألوان المائية. هذه المادة العنيفة والمزاجية والمتمردة والتي تحتاج إلى ترويض مع كل ضربة فرشاة، ومع كل لطخة لونية، هي شرسة، ولينة بذات الوقت، ولا تحب الرعونة أو القسوة، تحتاج ليد ماهرة، وخبيرة في صبرها، وبصيرتها حتى تعطيك جماليتها، وكنوزها الخفية. التجريد اليوم، مساحتي الخاصة، خاصة أني (إنسان لا يحب الكلام)، وأعشق الصمت، وأترك ألواني تتحدث عن مزاجي، وغضبي، ورغباتي، وأحلامي. والتجريد كأسلوب فني أعطاني ما أحتاج إليه، إلى جانب تعاملي مع الأساليب والأدوات التقنية الأخرى.
قراءة الأرض بالحرف
* تعد من الفنانين العرب المعاصرين الذين أضافوا حلة جديدة معاصرة لشكل الحرف العربي كيف تنظر لمعنى الحرف؟ وأين تكمن جماليته على جسد اللوحة؟
** الحرف العربي، ليس مجرد شكل زخرفي، يوضع في اللوحة بغاية التزيين أو الديكور. فالحرف إلى جانب هيئته، هو إيقاع لمادة طاقوية، وطاقة قوة، وله منازل (إشارة إلى الرموز الصوفية). أؤمن بكيمياء الأبجدية في كفاءتها الكبيرة في قراءة الأرض بالحرف، وكتابة الحرف بالأرض. بمعنى قدرتها التعبيرية في تحقيق التماهي الفريد بين كل من هوية الذات، وهوية الأرض أيضا. وهو نوع من تهيئة اللوحة لنوع مختلف من الانفتاح على الحلم، والحياة، والفرح. ألا يقول ابن عربي الحروف أُمَمْ.
* جوابك يدفعني لسؤالك: لماذا هذا الحضور الطاغي لحرف الـ (ح) تحديدا، وتلازمه في أكثر الأحيان مع لون الإشراق الأصفر إلى جانب الأزرق الطاغي في بعض لوحاتك، خاصة اللوحة الأخيرة سعد أو سنين السعادة؟ كيف يمكن للون في لوحتك أن يحاور؟
** يضحك قبل أن يجيب بفرح من اكتشف سره: يأسرني حرف الـ (ح)، ومعه أيضاً حرف الواو. جماله في حركة الانقباض، والانفتاح، وفي الانكماش والانبساط، والانحناء والاعوجاج عند رسمه بخط الثلث. فهو يدهشني بطاقته عند تكوره قبل أن يعطي شكله الأخير، كما حرف الواو والذي أشعر به يحمل الكون كله في إيقاعه الجميل. فهو إيقاع موسيقي، يحرضني على الامتلاء والامتلاك..
بالنسبة للألوان وتعليقك على الأصفر؛ في الحقيقة هو لوني المفضل مع أزرق البحر الشهي بسلامه وانفتاحه، يجذبني من دون لاوعي مني، يدي تختاره من بين كل الألوان الأخرى. أتراها ذاكرة الطفولة، وعلاقتها مع المد الشاسع للصحراء، ولون البحر. لا أعلم بالضبط، ولكن فنياً حواسي هي من تختار، ومزاج الحالة الفنية في لحظتها، هي مشاعري بلغته، وجسد للكلام، الذي لا أتقنه سوى باللون. هو مرآة الروح، فهو يقرأني أكثر مما أحسن قراءة نفسي.
والأصفر بالذات هو لون التوهج، والحكمة، لون الوسطاء بين السماء والأرض حسب الأسطورة، هو لون الضوء الروحي، كما لون الشمس والذهب ورمل الصحراء. هذا اللون أكوان كبيرة. أما الأزرق، فحدث ولا حرج، هو لون هذا السائل السماوي الكوني، لون رقي الغرائز الإنسانية في تطورها، وتسامحها، لون المحبة، تدرجاته نوتات موسيقية، تشدني بتسامحها وتعبيراتها، وقدرتها المرنة على الصفاء.
* ما الذي يعنيه لك بيعُ أعمالك في أكثر من مزاد فني بأسعار لم تشهدها الساحة؟ وكيف تنظر إلى مسألة علاقة البورصة بالفن اليوم؟
** لا شك أشعر بالسعادة عندما تعرض أعمالي للبيع في مزادات عالمية. بالنهاية هذا طموح أي فنان أن تصل ريشته للعالمية. ولكن الأمر هنا ذو وجهين، ولا يخلو من القلق وبعض الريبة، من ناحية من الذي يحدد سعر اللوحة؟ بمعنى لماذا اليوم اللوحة تباع بهذا السعر، وبعد فترة اللوحة تختلف في سعرها؟ من الذي يحدد هذه القيمة المادية للوحة؟ من الذي يتحكم ويضع معايير هذه الرؤية؟ هل هم نقاد الفن! أم تجار الفن! ما هو المعيار هنا لقيمة أي لوحة فنية؟ بالنهاية، الحمدالله على هذه النعمة.
* لاحظت بعض القلق المشوب بالغموض عندك حول نقاط كثيرة تبدو غيرمفهومة اليوم في سوق الفن التشكيلي منها غياب النقد الفني، وغياب معايير ناظمة تحدد الأطر العلمية والموضوعية، في مسألة قيمة اللوحة إلى جانب مفاهيم فنية ظهرت حديثاً، وتحمل بطياتها غموضا معرفيا؟ ما الذي يٌقلق الريس في سوق الفن اليوم!! وقد وصل إلى العالمية، وأعماله دخلت كمقتنيات في المتاحف العربية والدولية؟
** مسألة غياب النقد الفني عربياً، مسألة خطيرة، نرى اليوم تداعياتها، وتأثيراتها الواضحة على الساحة الفنية عربيا، مع دخول مصطلحات كثيرة ضبابية وفضفاضة، منها الحداثة الفنية، وما بعد الحداثة، وهذه الصرعات الفنية التي نشهدها اليوم، خاصة عند الشباب، ناهيك عن مصطلح رائج اليوم وهو القيِّم الفني، هل حل القيِّم الفني مكان الناقد الفني؟، وما الذي يعنيه القيم الفني اليوم؟، أفهم أن الناقد الفني هو حصيلة دراسة أكاديمية منهجية لمدارس الفن واتجاهاته، وناتج خبرة، وممارسة. أما القيم الفني فما هي اعتباراته وعلومه، خاصة أن أغلب القيميين اليوم من الجنسيات الأجنبية، ولا اعتراض على ذلك أبدا، ولكن هذا الأجنبي هل درس تاريخ الفن العربي، واتجاهاته؟ هل لديه هذه الخبرة الكافية كي يحسن اليوم تقييم لوحتي أو تقييم سواي؟ لا شك لديَّ في أن الفن التشكيلي هو فن إنساني، عالمي بجماليته وإنسانيته، لا تحده لغة أو حدود، ولا هوية، ولا انتماء سوى لقضيته الإنسانية. وربما يفسر هذا لماذا يتجه شباب الفن اليوم إلى الصراعات الفنية، والضجة الفنية؟! ربما لأنها لغة السوق اليوم، وليس لغته هو، الخاصة به، وببيئته، وهويته. شباب اليوم بات شغلهم الشاغل تحقيق الشهرة، والوصول للعالمية حتى لو كان على حساب مفهوم الفن، ودوره.
صدقُ الفن يحميهِ
* جوابك السابق يدفعني للتساؤل: ما هو مفهوم العالمية الفنية لديك؟ وهل عصامية اللوحة، وعصامية الفنان، تحمي من التهميش والغياب؟
** الفن موهبة، وتعب وصبر، وتمعن، واختمار صادق في داخل روح الفنان وحواسه، حتى يخرج منه بعفوية. وكما يقول مونيه نحن نرسم كما يُغني الطير. بمعنى أن الأمر فطري، رباني، يسكن الكيان، ويتكلم بلغته، وبعيون وجوده. وكلما كان الفنان صادقاً مع موهبته، ومع فنه، ومع بيئته، فحتماً هذا سيصل للآخر. في النهاية كلنا لنا أحلام، وخيالات، وطموحات، نحتاج فقط إلى الإنصات لهذه اللغة، والتخلي عن الفردانية، والأنانية الفردية، كي تنتشر رسالة الفن، وجماله. أما بخصوص مفهوم العالمية، لا شك هي مسؤولية ضخمة، ومقلقة لأي فنان صادق يدرك معنى هذه المسؤولية وهذه الثقة، ولكن بالنسبة لفهمي البسيط، العالمية هي المحلية. العالمية تنطلق من المحلية، من هويتك، ومن صدق التعامل مع أشيائك، ولغة هذه الأشياء، وفهمك لمحيطك، لا يمكن للفنان أن يبدع خارج جذوره، وخارج ذاكرته الإنسانية، بل من خلالها يمكنه أن يطور، من لغتها، ومن دلالاتها، وحقولها، ويوسع من جمالياتها نحو فضاءات الآخر.
* كيف تقرأ سمات المُحترف الإماراتي اليوم؟
** أن يكون في دبي لوحدها أكثر من (50) غاليري فني، أمر يثلج القلب والصدر بلا ريب. وأنا متفائل جداً بمستقبل البلاد مع افتتاح المتاحف الكبرى العالمية في أبوظبي، ودبي إلى جانب المعارض، والمواسم الفنية الشهرية التي نشهدها اليوم في السوق الفني، فهذا يؤكد على مدى التطور النوعي، الواعي بقيمة الفنون، والإيمان بدورها في ثقافة أي مجتمع، يطمح نحو التطور، والعالمية. وأطمح شخصياً أن تكون هذه المتاحف قاعدة مستقبلية، رابطة، وناظمة، لكل المنصات الفنية الأخرى المنتشرة هنا وهناك، لتأسيس هوية خاصة، تليق بالمحترف الإماراتي الذي يتطور يوماً بعد يوم. ولكن لا أستطيع اليوم أن أعطيه شكلا، أو هوية محددة تحدد سماته، وتميزه، مع تداخل الأجيال، وتنوع الأعمار، واختلاف التوجهات الفنية التي نشهدها اليوم من شبابنا، مع توجهاتهم الجديدة التي تتداخل فيها الموهبة مع تقنيات لغة العصر التقنية !!!
فنون الحداثة بلا ذاكرة
* إذن ما هو تعليقك على توجهات الشباب الفنية اليوم، وهي تميل إلى محاكاة مذاهب فنية تخاطب مصطلحات مثل الحداثة وما بعد الحداثة؟ وماذا تقول لهم من تجربتك اللونية؟
** ما سأقوله قد لا يعجب الآخرين. ولكنها وجهة نظري. الفن برأيي لا يحتاج لوسائط دخيلة، وهجينة لكي تُعبر به عن موهبتك الفنية. فأي فن لا يخرج من إحساس الفنان، ومن عمق التجربة الروحية، هو ليس فنا. وكل من يتعامل اليوم مع ما يسمى بالفن المفاهيمي، والفن الوسائطي، والديجيتال وغيرها من تسميات وصرعات اليوم، التي لا نهاية لها، سأقول له على لسان بيكاسو: (يريدون أن يفهموا الرسم، فلماذا لا يحاول أحدهم فهم أغاني الطيور).
أقول وبصريح العبارة هذا فن من لا فن له، لأن الفن ليس مجرد تكويم لقطع الموز على الأرض، وليس علب بلاستيك، وأسلاك متداخلة!! هذا فن يستخف بذوقي وهو فن المهملات. لأنه مؤقت، وزائل، وهو بلا ذاكرة، ولا يعمر في الذاكرة الإنسانية.
الفن بالنسبة لي هو لطخات من ذاكرة اللون، هو رجفة حس خفي من يد الفنان، وريشته التي تحركها مشاعره. ولا يظن أحد ما: أن التقنية تستطيع أن تحمل، أوتختصر ما يخترن الفنان من مشاعر، وأحاسيس، وحدس، ونبضات. هذا لا يعبر عنه سوى يد الفنان نفسه، هذه اليد التي تحركها أنغام مزاجية، وشعورية، وتجربة، تحتاج لوقتها كي تختمر، وللتعب عليها، حتى تخرج ألوانا فيها معنى ومغزى للديمومة والحياة. ولشباب اليوم أقول: مسيرة الفن شاقة وجميلة، وجمال النجاح فيها، يكمن في السعي إليه، أجمل من الوصول إلى قمته.
الفن يحتاج لأن تنصت إلى صوتك الداخلي، ولصوت نداءات الموهبة فيك، بعيدا عن كل المغريات والصرعات المحيطة بعصرك اليوم. والفن الحقيقي قوة في وجه السطحية، وهمجية هذا الخراب الذي نشهده اليوم عربيا. وأختم يقول بول سيزان: الفن هو كلّ ما هو طبيعي، ولكي يكون طبيعياً، وجميلاً يجب أن تتعلم رؤية الأشياء حولك في الزهرة، والشجرة، والطير. فعمل الفنان يحاور هذا البهاء الكوني كله.