التعليم الجامعي كخيار سياسي
سعدت في الأسبوع الماضي بزيارة المعرض الدولي للتعليم العالي والندوة المصاحبة له بالرياض والتي شارك فيها أكثر من 300 جامعة من حوالي 25 دولة، جاءت جميعها لتعرض خدماتها وتقدم برامجها التعليمية أمام الطلاب والطالبات السعوديين الراغبين في الالتحاق بتلك الجامعات.
كان منظر الأكشاك الصغيرة الممثلة لتلك الجامعات والمتراصَّة منظراً مهيباً، ولم أكن أعلم هل أنا في حقيقة أم خيال، فلم يقدر لي من قبل أن أحضر مناسبة مشابهة تفتح فيها مختلف الجامعات من أركان المعمورة أبوابها أمام الطلاب الذين يرغبون الالتحاق بها.
كان الزحام شديداً فنحن أمام شعب غالبية أبنائه وبناته لم يتعدوا الخامسة والعشرين من أعمارهم، وهم يحلمون بمستقبل سعيد، وبأماكن جديدة يزورونها، وبعوالم وحضارات يحتكون بها، وهم يرون أولى درجات السلّم تنفتح أمام أقدامهم.
لا أدري لماذا أشعر بالسعادة والرهبة في آن واحد في كل مرة أزور فيها جامعة أو أرى شعار تلك الجامعة وإن كان معلّقاً على صدر عابر سبيل يمر من أمامي. لقد قضيت سحابة عمري كطالب جامعي، وفيما بعد، وبعد أن طال بي المقام في عالم الجامعات، دفعوا بي كي أكون أستاذاً في واحدة منها، وأفتخر كل الفخر بأن أكون عضو تدريس فيها.
وهذا العشق للجامعات وأروقتها ومكتباتها يهيمن على حياة الكثيرين منا، حتى ليخيل للمرء أنه قد ولد في إحدى ردهات تلك الجامعات، أو تربى في جنباتها.
ونعود إلى ذلك الحشد الكبير من الجامعات المتراصّة في أروقة ذلك المعرض، وكيف يمكن أن يفسّر الواحد منا مثل هذا الحضور القوي لتلك الجامعات. هل نحن يومها في سوق تنافسي للتعليم العالي؟ لقد حِرت في أمر تفسير ذلك، فالسوق تعني وجود مستهلك وسلعة يمكن أن تصدأ وتقدَم ويعفو عليها الزمن.
ولكن التعليم العالي والجامعات ليسا كذلك، فكلما قدمت الجامعة زادت عراقتها وذاع صيتها، وزاد عدد روادها. فالجامعة وتعليمها ليسا سلعة أو خدمة آنية مستهلكة، بل الجامعات طرائق ومسارب يشرب منها الناهلون لزيادة معارفهم ورفعة مكانتهم، وتعاظم قيمتهم. فالقيمة المضافة للتعليم الجامعي لا تقدر بثمن، فهي جواز سفر نحو المستقبل، عن طريقها تزداد معارف المرء ويتّسع أفقه، ويتحول من شريحة اجتماعية إلى شريحة أخرى.
وعن طريق التعليم يتخطى المرء حدود طبقته الاجتماعية التي ولد فيها ويلتصق بطبقة أعلى دخلاً، وأرفع مكانة.
والتعليم هو السبيل الطويل، ولكن الأكيد، للقضاء على الفقر، فهو ينتشل أسراً من شرائح دنيا إلى شرائح الطبقة الوسطى، والتي تعد أســاس استقرار المجتمع وبقائه.
وفي الوقت الذي تتراجع فيه قدرة الدول الكبرى على دعم التعليم الجامعي، وتقليص أيام الدراسة فيها من خمسة أيام إلى أربعة في بعض المناطق، فإن دول المشرق ودول الخليج العربية بصفة خاصة تركز بشكل أكبر من ذي قبل على تعليم أبنائها وبناتها.
فالتعليم، خاصة الجامعي منه، هو بحق استثمار ورأسمال اجتماعي وسياسي، لا يمكن تجاهله. كما أن الاستثمار في التعليم يعد أساساً لقوة الدول ورفعتها. وكنّا في الماضي نشعر بأن قوة الدول تكمن في زيادة تعداد سكانها، وضخامة جيوشها الجرارة، غير أن مثل هذا التصور لم يعد له مبرر حقيقي.
فكم من دولة صغيرة مثل سنغافورة تلعب دوراً كبيراً باستثماراتها ومستوى تعليم أبنائها، يضاهي الدور الذي تلعبه بعض الدول الوسطى. وإذا ما شعر الكثيرون بالتكلفة العالية للتعليم الجامعي، فإن مثل هذه التكلفة لا تساوي شراء عدد من المجنزرات أو الدبابات لخدمة كتيبة عسكرية واحدة. فحين تبلى تلك المعدات ويتقادم بها الزمن، فإن أفكار الشباب والمتعلمين، خاصة الموهوبين منهم، ستبقى متّقده وضّاءه.
التعليم الجامعي استثمار بعيد لأجيال من الشباب لا يضاهى ولا يقدر بثمن، ومتى ما صوتت الحكومات والدول لزيادة الإنفاق على تعليمها الجامعي، فإنها تصوت لبناء المستقبل وتشييد أطره.
أستاذ العلوم السياسية بجامعة الملك سعود