الهواتف النقالة تزاحم الطلبة في لجان الامتحانات!
لم ينشغل جاسم سعيد الطالب في الصف الثاني عشر قبل خروجه من البيت إلى لجنة الامتحان بشيء أكثر من هاتفه النقال، فقد حرص جاسم على أن يصطحب هاتفه الجديد من أحدث الماركات التي نزلت السوق قبل أيام من بدء امتحانات نهاية الفصل الدراسي الحالي·
لم يفكر جاسم كثيرا في امتحانات نظريات ''فيثاغورث'' وقوانين ''نيوتن'' ولم يتوقف كثيرا عند قوانين الروافع والجاذبية، فقد كان انشغاله قبل الخروج من البيت بهيئة شعره الذي جعده بـ''الجل'' وتهدل إلي أسفل غترته حتي لامس أعلي كتفيه، نظر في المرآة وقبض هاتفه النقال ومضي سريعاً إلي مدرسته مع ''الربع'' في سيارة أحدهم، إذ يعتبر جاسم ونفر من زملائه أنهم ''أكبر'' من الذهاب إلى المدرسة في الباص·
صور الشباب من الطلاب والطالبات ''القابضين'' على هواتفهم النقالة أمام لجان الامتحانات التي نراها اليوم أمام معظم لجان الامتحانات تؤشر إلى ''خلل تربوي'' لا يزال يحتاج إلى علاج فعّال، فعلى الرغم من الحديث الطويل حول الاستراتيجيات المطورة للنهوض بالتعليم والارتقاء به، فإن كثيراً من الخطط والبرامج التي يحلو للبعض أن يعنونها بـ''الاستراتيجية'' تغفل تماماً الأبعاد التربوية، وتركز فقط على الأبعاد التعليمية والأكاديمية·
ويرسم أحمد المرزوقي موجه الخدمة الاجتماعية في منطقة أبوظبي التعليمية جزءا من تفاصيل تلك الصورة بقوله: في السنوات الماضية كنا نرقب الطلبة وهم يمسكون ''بتلابيب'' كتبهم في اللحظات الفاصلة التي تسبق بدء الامتحانات، هذا يسترجع نصاً لغوياً، وآخر يراجع قواعد نحوية وثالث في صف آخر ينكب على حفظ عدد من المعادلات الرياضية والعلمية، أما اليوم فقد حلت ''الموبايلات'' محل هذه الكتب وتلك الملخصات العلمية، وتصدر ''البلوتوث'' صدور الطلبة و''مخابيهم'' حتي في عقر دار لجان الامتحانات·
ويضيف: لا أحد يعرف ما هو حجم التغيير الذي حدث في مفهوم ''الدافعية'' للتعلم لدى الطالب اليوم، ولكن المؤشرات التي يرصدها التربويون في مختلف المدارس تأخذ بسهم الدافعية نحو التعلم إلى القاع، وعلى الرغم من صيحات التحذير التي يطلقها بعض التربويين بشأن الدافعية، فإن هذه الصيحات تذهب ''أدراج الرياح'' وسط انشغال بعض الأسر عن القيام بدورها الاستراتيجي في التربية·
ويرجع أحد التربويين تدني معدلات الدافعية لدى الطالب إلى عوامل منها: أن الطالب الذي يذهب إلى مدرسة اليوم يراها ''أقل بكثير'' من حيث المرافق والتجهيزات من غرفته التي يعيش فيها وبيته الذي يمرح فيه، وبالتالي لا يمكن أن تكون لديه معدلات عالية تدفعه نحو التعلم وبذل الجهد والتميز العلمي، بل إن كثيراً من الطلاب والطالبات يذهبون إلى المدرسة اليوم وعيونهم مفتوحة على ''تمضية الوقت''·
ويري محمد الحوسني مدير مدرسة أبوظبي الثانوية أن عدداً كبيراً من الطلبة يذهبون إلي مدارسهم وهم ''يجرون أقدامهم '' إلى داخل اللجان الامتحانية وفي يد كل منهم هاتفه المتحرك، وبلوتوثه الذي يجوب به العالم، مشيرا إلي أن هذه الصورة تعكس ما آلت إليه أسهم الدافعية عند الطالب اليوم، فلا أحد يعرف ما إذا كان اصطحاب الطلبة لهواتفهم النقالة إلى داخل اللجان الامتحانية من باب الوجاهة الاجتماعية أو من باب التقليد للآخرين أو بحكم العادة·
وترفد صفية محمد مديرة مدرسة الآفاق النموذجية تفاصيل الصورة بجزئيات أكثر تركيزا منها: عشرات الطلاب والطالبات الذين يدخلون إلى قاعات الامتحان وعيونهم منتفخة تكاد تقفز حبات العيون فوق الجفون، لا بفعل السهر والتعب في الاستذكار الدراسي، وإنما بسبب قيام الليل أمام ''الإنترنت'' وعالمها العنكبوتي اللامحدود·
وتقول: بالأمس وقفت أمام إحدى اللجان الامتحانية وأنا أقرأ تفاصيل عيون كثير من الطلبة وتأخذني الذاكرة إلى امتحانات الثانوية العامة التي كان ''يُشدُ إليها الرحال'' والتي كان يصدق عليها المثل القائل ''يوم الامتحان يكرم المرء أو يهان''، لا أعرف لماذا هذا التراخي الذي رأيته في كثير من الوجوه الشابة التي كانت تتثاقل خطواتها نحو قاعة الامتحان·
ويلخص الدكتور عبداللطيف حيدر عميد كلية التربية بجامعة الإمارات ''سابقاً'' الحالة بأننا أمام ''صورة مغايرة '' لطالب اليوم، فهذه الصورة تحمل في عنوانها الأكبر انخفاض معدلات الدافعية نحو التعليم، وذلك لأسباب كثيرة في مقدمتها أن التعليم لم يعد هو المحرك الأساس للتغيير الاجتماعي في حياة الفرد أو المجتمع، وهو ما ولد لدى كثير من القطاعات الطلابية رغبة ''فاترة'' تجاه التعليم بل والتعلم بصفة خاصة·
حتي حوارات الطلبة في الدقائق الأخيرة التي سبقت امتحان الفيزياء أمس الأول والتاريخ أمس كانت بعيدة تماماً عن قوانين الفيزياء ودهاليز التاريخ، فقد وقف نفرٌ من الطلاب على مقربة من باب المدرسة وفي يد كل منهم سيجارته التي ينفث دخانها في الهواء، ومجموعة أخرى كان من بينهم من يستمتع بـ ''مدواخه''، أما الغالبية العظمى فكان كل منهم قابضاً على هاتفه المتحرك وليس كتابه الذي سيقف بعد دقائق فيه داخل اللجنة الامتحانية ''ممتحَناً''·
وعلى الرغم من أنني كنت أحزن كثيراً وأنا أرقب بعض الطلبة في السنوات الماضية وهم يتخلصون من كتبهم الدراسية ''فرحاً بانتهاء الامتحان'' فإن حزني كان مضاعفاً بالأمس وأنا أحصي عدد الكتب والمذكرات التي لم تتجاوز أصابع اليد الواحدة في لجنة قفز عدد الطلاب فيها لأكثر من 300 طالب، وبنظرة سريعة حول أعداد الهواتف المتحركة التي وضعها الطلاب في مقدمة قاعة الامتحان، وبتفحص ماركاتها التجارية الفاخرة وأسعارها، فقد بلغ الحزن مبلغه من نفسي، ولم يخرجني من حالة الحزن هذه سوى ذلك السؤال الذي مازلت أبحث له عن إجابة، وهو على من تقع المسؤولية، على الأب أو الأسرة أم على المدرسة أم على نظام التنشئة الاجتماعية
المصدر: أبوظبي