د.محمد سبيلا

ركزت معظم المساهمات الفلسفية العربية الحديثة اهتمامها على مسألة الحداثة في مختلف مستوياتها ومكوناتها وبخاصة على الوجه الفكري للحداثة. هذا التركيز ليس مصادفة أو عبثاً أو شيئاً عرضياً بل هو انعكاس للحظة التاريخية سواء أخذناها بالمعنى الواسع أو المحدود. الفلسفة العربية المعاصرة هي إلى حد كبير تفكير في الواقع، تفكير في الحاضر، تفكير في دينامية التاريخ. هذا التركيز هو في نفس الوقت إكراه واختيار، إكراه لأنه يعكس سلطة الواقع وقوته ومتطلباته وضروراته، واختيار يستجيب لهذا الإكراه لكنه يضعه تحت مجهر الفكر النقدي العقلاني.

إن هذا الاختيار يدل على أن الفلسفة ليست ترفاً فكرياً أو لهو مثقفين في أبراجهم البعيدة عن الواقع، كما يظن البعض، بل هي تفكير في الواقع وفي مكونات ودينامية اللحظة التاريخية. وهي بهذا المعنى تتناغم مع قول هيجل، إن الفلسفة هي الواقع مفكراً فيه أو هي الصورة الفكرية عن واقعها التاريخي.
فجل الفلاسفة العرب جعلوا هذه المسألة قضية مركزية ووضعوها في قلب الإنتاج والحوار الفكري في مجتمعنا في استجابة مباشرة للتاريخ ولنداء التاريخ إلا أنه من زاوية أخرى استجابة لنداءات وللمتطلبات الصريحة والضمنية للحركة الوطنية التحررية في شقيها الكلاسيكي أو التقليدي ثم الشق التحديثي الذي أصبح اختياراً وطنياً منذ نهاية خمسينيات القرن الماضي. إلا أن هذا الانهمام بالحداثة والتحديث ليس حكراً على الفلسفة بل هو مناط اهتمام وانهمام جل أو كل العلوم الإنسانية وبخاصة منذ نشأة الجامعات الحديثة التي شهدت منذ بداياتها الأولى نوعاً من التوتر بين الخيارين. وربما كان ما يميز الانشغال الفلسفي هو التركيز على التفكير في المفهوم وفي شروطه الفكرية عامة والفلسفية والإبستمولوجية، لكن بالاستعانة بالعطاءات الفكرية الجديدة التي قدمتها وحققتها العلوم الإنسانية والتي فرضت على الفلسفة ذاتها أن تتغذى في تحليلاتها من المساهمات النوعية الجديدة للعلوم الإنسانية.

سياق كوني
المسألة الثانية هي أن هذا الانشغال بالحداثة استجابة لمتطلبات التناول الفلسفي وهو الاندراج في سياق الانشغالات الفلسفية للفكر الكوني. وبهذا المعنى، فإن الانشغال بالحداثة والاشتغال بها مسألة وجودية ومسألة معاني ودلالات ومسارات عصر يطرح على قاطنيه قضايا المعنى والوتيرة والمصير. هكذا تم إبراز وتشغيل الأبعاد الفلسفية للحداثة كسردية كونية عقلانية كاسحة تمايزت عن السرديات الأخلاقية الميتافيزيقية واتخذت منها موقفاً نقدياً إما باعتبارها سرديات لاعقلانية أو أسطورية أو بدائية أو ما قبل منطقية أو في أحسن الأحوال ما قبل حداثية أو تمهيدية للحداثة.
تطلب التفكير في الحداثة إذن إبراز سياقاتها وأنسابها الفكرية المتمثلة في العقلانية والذاتية والحرية والتاريخانية، والمراوحة في مسارها بين الاستمرارية والقطيعة مع التراثات المحلية، والتمييز في الحداثة بين مكونين أساسيين: التحرر والهيمنة، وإبراز الأسس الميتافيزيقية بالمعنى الحرفي للحداثة كإرادة استقرار وكمحاولة لتخطي واختراق الشرانق التقليدية للفكر ولتصورات العالم، وكذا كهيمنة على الطبيعة وعلى الإنسان، لكنها بنفس الوقت إرادة تحرر وتحرير للنوع الإنساني وللأفراد والفئات والجماعات والمجتمعات، ورغبة في التحكم في القدر والمصير، وإرادة إبراز نمط كينونة الإنسان الفاعلة في العالم.
هذه الحداثة المداهمة في منظورها الدينامي لا تقدم نفسها كحزمة حلول وحقائق جاهزة يتعين الأخذ بها.. بل تطرح نفسها كإشكالية متعددة الجوانب تدخل مع التقليد في تنازعات وتنافسات وتسارعات، كما تطرح للنقاش جملة أسئلة وتساؤلات تحير العقل الثقافي والإيديولوجي والميتافيزيقي التقليدي.

شروط الحداثة وأسئلتها
تفرض الحداثة بمختلف مستوياتها العلمية والفكرية على المتلقي ضرورة استيضاح واستبانة العديد من الشروط الفكرية التي نحن ملزمون بالتفكير فيها والتساؤل حولها إذا ما أردنا تعميق التملك الفكري للحداثة ومن أهم هذه التساؤلات:
- هل الحداثة منتج غربي خالص؟ هل هناك نموذج مثالي للحداثة يمكن أن يكون حداثة مرجعية؟
- ما هي وسائل وأدوات ووتائر وغايات انتشارها السريع على المستوى الكوني؟
- ما علاقتها بالاستعمار والإمبريالية والرأسمالية والليبرالية والعولمة؟
- هل الحداثة مرحلة زمنية أم بنية فكرية أم همان؟
- هل آلية توسعها وانتشارها تقوم على الانفصالات والقطائع أم على الاستمرارية والاتصال؟
- هل الحداثة هي حتمية كونية أم اختيار بين عدة اختيارات ممكنة؟
- هل هي في عمقها استراتيجية حرية وتحرر أم استراتيجية سيطرة وضبط وربما استبداد؟
- هل تجبُّ الحداثة ما قبلها؟ بمعنى هل وتيرة تطورها هي القطائع والانفصالات كماً ونوعاً أم التدرجات والاستدماجات وبالتالي الاتصالية والاستمرار؟
- هل وتائر تطورها ثابتة ومنتظمة أم متغيرة ومتسارعة؟
- هل هي سيرورة غائية أم مجرد سيرورة ذاتية المرجعية ليست لها غايات محددة مسبقاً؟
- هل هي سيرورة تحركها ذات أو ذوات فاعلة أم هي سيرورة من دون ذات فاعلة؟
- ما هي التحقيبات الأساسية للحداثة في مواطن مولدها ومواطن هجرتها؟
- ما نوع وما نمط علاقة الحداثة بالتقليد: توتر، تنازع، تعاون، استعارة متبادلة، استعمال متبادل؟
- إذا اعتبرنا أن للحداثة وجهين أو بعدين كما يقول الأستاذ محمد الشيخ: حداثة الأواني وحداثة المعاني فما هو نوع العلاقة بينهما: تراتب أم تلاحق أم تأثير؟
- تتجه الحداثة إلى أن تفرض مشروعية وشرعية جديدين على التاريخ. فمن أين تستمد الحداثة مشروعيتها: من ذاتها من حيث هي ضرورة داخلية للتطور أم من خارجها؟ أم من الماضي المجدد الذي تعتبر نفسها امتداداً نوعياً له أو تجديداً وإحياء وإنعاشاً له، أم هي تبرير وتفسير لأية قطيعة ممكنة معه؟
- ما هي الحدود الدنيا للحداثة، أو العتبات الأولى للحداثة. هل هي الحداثة التقنية أم الحداثة الاجتماعية أو التنظيمية (العلاقات الأسرية - المظاهر الحضرية والمعمارية...) أم الحداثة السياسية أم الحداثة الثقافية والفكرية؟
هذه بعض القضايا التي ساهم التدخل الفلسفي العربي بها ومن خلالها في تخصيب وتعميق الطرح الفلسفي للحداثة في مختلف جوانبه السوسيولوجية والإبستمولوجية والميتافيزيقية التي يمكن أن تساعدنا على الخروج من دائرة التلقي السلبي، وعلى تحديد نوع العلاقة الإيجابية والفاعلة مع الزمن الكوني.
لهذا الاندراج الفلسفي العربي في سياق النقاش الفلسفي حول الحداثة وفي المغامرة الكونية الكبرى وجه آخر يتمثل في الانخراط في المهام التأويلية (الميتافيزيقية أو الفكرية) الكبرى التي يفرضها العصر الحاضر، المعارك التي أنجز بعضها، والتي ينتظر جلها دوره في التاريخ، والتي هي قادرة على تحريك سيرورات التاريخ وعلى خلخلة السياجات المغلقة.
لكن المسؤولية النقدية للفلسفة تواجه اليوم اتجاهين كبيرين: أولهما يميل نحو تفسير وتأويل تطورات الحداثة على أنها تتجه أكثر نحو الارتداد إلى ما قبلها كما يتجلى ذلك لدى الاتجاهات التي تستغل مفهوم ما بعد الحداثة لتقول إنها عودة مستمرة إلى ما قبلها، وأنه في الوقت الذي ترتد فيه الحداثة إلى ما قبلها نجد فئات اجتماعية وهيئات ثقافية تتمسك بها وتدعو إليها في حين أنها أشبه ما تكون بخرقة بالية يطرحها ويمجها أصحابها في حين تتسارع الفئات الداعية لها إلى لبسها والتدثر بها.. أما الاتجاه الثاني فيميل نحو توسيع مفهومها وتصورها ليشمل ويطال تجارب وأنماط ما قبل حداثية جعلها التطور التقني تبدو أنماطاً حديثة رغم أن بنيتها الفكرية تنتمي إلى ما قبل الحداثة.
هذه الاتجاهات المتداولة اليوم على نطاق واسع في الثقافة العربية تخفّض مؤشر الحداثة أو تنزع عنها فتيلتها النقدية أو ما قد نسميه أشواك الحداثة لتُطوِّعها إلى مستوى الحداثة الشكلية المعمارية في نوع من الإخصاء الفكري للحداثة يؤول إلى ما يسميه اركون تكنولوجيا من دون أفكار، أي من دون بنية فكرية حاضنة للحداثة التقنية.

القراءات الحداثية المتهمة
ومن القضايا المطروحة بحدة في الساحة العربية الربط القائم بين القراءات الحداثية للتراث والتبعية للغرب، والأولى قراءة فاحصة ونقدية تنطلق من الأدوات التي توفرها العلوم الإنسانية (مصطلحات ومفاهيم ومناهج وغيرها) بهدف تحقيق قراءة أكثر موضوعية للتراث الديني، بعيداً عن القراءات التقليدية التمجيدية أو الذاتية التي لا تتبنى أي موقف نقدي أو تساؤلي مخافة أن تخلط النار بالزيت فتنتج قراءات متنكرة لروح التراث.
رواد هذا الصنف التقليدي من القراءة يتهمون القراءات الحداثية بأنها قراءات مغامرة، قراءات مستلَبة ومستلِبة لأنها تستورد وتقتبس مقولات تدعي الحياد والموضوعية في حين أنها أدوات في خدمة الاستلاب الحضاري الذي يعني هنا التبعية وتسلل حصان طروادة إلى المتن العربي الإسلامي. فالمفاهيم والتصورات الواردة في خطاب الحداثيين عن التراث هي، في نظر هؤلاء، مفاهيم مستلَبة لأنها قائمة على إسقاط مفاهيم غريبة على المتن العربي الإسلامي مما يؤدي إلى تشويه معناه. ويقود إلى الاستلاب المعرفي القائم على التبعية للغرب، للاستعمار، للإمبريالية، للرأسمالية الليبرالية المهيمنة، وكذا على معاداة مضمرة للإسلام والعروبة.
هذه المفاهيم هي أساسا أدوات معرفية تحليلية كشفية، تضمر منظوراً نقدياً لأن لها أساساً معرفياً آخر فيما يخص تصور المجتمع والإنسان ودوره والمعرفة والعقل، وهذا الشق الأخير هو الذي يثير ويستفز المنظورات التقليدية. فالقول بالاستلاب والتبعية هو قول ينكر المعطى المعرفي الوصفي الكشفي والتحليلي ليركز على ما يعتبره تبعية وانحناء ونخاسة فكرية.
يعتقد البعض، إما بحسن أو بسوء نية، أن الارتباط بالحداثة والمناداة بها، لا يخلو من قسط من التبعية للغرب، مع ما يعنيه المصطلح من استعمار وإمبريالية وحقد ثقافي، وعنصرية، ومعاداة صريحة أو ضمنية للإسلام والعروبة. والحال أن هذه النظرة القبلية السائدة والتعميمية هي إحدى أدوات نقد الحداثة الغربية وتحجيم بعدها النقدي والعقلاني والتنويري، فهي من قبيل قذف الطفل مع ماء الحمام.
إن مظاهر النقد والموقف النقدي للفلسفة العربية عامة ومن طرف الفلسفة العربية خاصة هي مظاهر بارزة للعيان في تحليلات واختيارات الفلاسفة العرب وأول مظاهرها أن ليس هناك اختيار وتفان مذهبي تجاه هذا المذهب الفلسفي أو ذاك. فكل الاتجاهات الفلسفية موجودة ومطروحة عرضاً ومناقشة، وإذا كان هناك انحياز وتبن فهو ليس إلا تعبيراً عن الشغف بالجديد والحيوي لكن ليس إلى حد التأليه والتماهي.
نعم الموقف الغالب على اختيارات الفلسفة المغاربية والعربية هو الاختيار الحداثي بمستلزماته الحداثة - العقلنة - التاريخانية - النقد وتغليب الانتماء الفلسفي الذي يتعين ألا يتحول إلى انتماء شبه حزبي أو إيديولوجي يعمي الباحث عن صواب واحتمالية صدقية الاتجاهات الفلسفية الأخرى. لذلك نجد أن جل الفلاسفة واردون في هذه السياقات حيث نجد ماركس بجانب فرويد، وألتوسير بجانب فوكو وباشلار بجانب بوبر، وفتغنشتين بجانب تشومسكي ونيتشه بجانب هيجل...
بل إن هناك قاعدة معيارية ضمنية في تعامل الفلاسفة العرب مع تيارات الفكر الغربي وهي اجتهاد في محاولة قياس درجة قابليته للتطبيق في واقعنا ومن ثمة يخص أدواته اللغوية والمفهومية والفلسفية لاختبار مدى قسطيَّته المعرفية ومدى إمكان الاستفادة منه منهجاً وموضوعاً. إحدى معالم هذا التوجه هو المنهجية التي استعملها المرحوم الجابري والمتمثلة في تبيئة المفاهيم وتكييفها وفحص مدى وحدود صوابيتها. إن هذه التهمة الجاهزة والتي استعملت كثيراً من قبيل اعتبار أن ما يقوم به العروي والجابري مثلاً هو امتداد للاستشراق واستثمار للشبهات الاستشراقية هي أحكام غير دقيقة.
إن مصطلحات العلوم الإنسانية التي تستعيرها الفلسفة اليوم، هي أدوات ومفاهيم ومناهج تحليلية صالحة لكل المجتمعات لأنها كاشفة وذات منحى حيادي إيديولوجيا. ولعل ما يثير فيها ليس جانبها التحليلي والمنهجي بقدر ما هو النفس التنويري الذي يشع منها لأن عقل الحداثة كما يقول اركون هو عقل استكشافي استضائي. والشحنات المعرفية التي تحملها مصطلحات العلوم الإنسانية توازي في منظورها وفي مفعولها ذلك التطور التكنولوجي الذي تحققه العلوم الحديثة في مجالات أخرى غير مجال العلوم الإنسانية.
أن التفكير في الحداثة ليس ترفاً أو لهواً أو تزجية وقت بل هو ضرورة تاريخية لا محيد عنها، ولعل هذا التفكير هو الذي يمكن أن ينقلنا من موقع التلقي السلبي إلى موقع الوعي التاريخي والتملك الفكري، وذلك بالتفكير في ضرورات وشروط ومضمون واقعة التلقي. مثل هذه الجرأة الفكرية والحضارية هي وحدها قادرة على تسليط أضواء العقل على واقعنا، وعلى تراثنا، وعلى وضعنا في موقف انتقال ومواكبة حضارية.