عبد السلام بنعبد العالي

كثر مؤخراً، في عالمنا العربي، الترويج لنوع من الفلسفة العملية، والدعوة إلى إقامة فلسفة تكون بمثابة دواء يعالج الفرد والمجتمع. ففي نوع من إحياء وصفات من أجل حياة عملية ناجعة على طريقة الأميركي ديل كارنيجي، الذي طالما دلّنا، في زمن سابق، كيف «ندع القلق ونبدأ الحياة»، يرى البعض أن الفلسفة أنجع وسيلة لمقاومة السأم، وجلب السعادة وتحقيق الطمأنينة، ليس للفرد وحده، بل للمجتمع في كليته.
***
ينيط هؤلاء بالعقل مهمة إسداء النّصح والإرشاد. وهم يجعلونه نبراساً منيراً لطريق الصواب، هادياً لسبل الخير، فيكلفونه، من ثمّ، بمهمة تبشيرية تبعده عن مخاض التجربة، وتعثرات المعارف.
***
لو عدنا إلى الفلسفة في ميلادها، والعقل في نشأته، لتبينا أنه لم يكن قط مبادئ تُملَى وقواعد تُطبّق، وإنما حياة تمارس، وتقنيات تُنظم وفقها الأفعال والأقوال، والتجارب والمعارف، كي تجد هذه كلها التعبير عنها في لغة ملائمة تكون موضع عمليات ذهنية خاضعة لقواعد تتحكم في لعبتها.
***
معنى ذلك أن سلطة العقل ليست محكمة عليا وشيئاً متعالياً بعيداً عن عملية الجدال يُملي عليها القواعد ويُبين لها الطريق. إنها، على العكس من ذلك، محايثة لذلك الجدال متصلة به، بل إنها لا تنمو إلا في ثناياه، ولا وجود لها خارجَه، وهي ليست في نهاية الأمر، إلا تلك التقنيات الذهنية التي تختص بها ميادين معينة للتجربة والمعرفة.
***
لا يمكن للعقلانية أن ترتدّ إلى «وصفات»، وهي لا تعني مطلقاً الإجماع حول رأي واحد، وإنما هي تتعارض مع ذلك الإجماع. لكنها لا تعني كذلك عدم التفاهم المطلق. العقلانية طريق مفتوحة على المستقبل، متفتحة على الآخر، إنها حياة تُغزى وتكتسح، وتجربة تُغذّى وتُرعى، ونضال متواصل، ودرب لا نهاية له.
***
تشكل معمعة الجدال والمحاجّة التي تقبل باختلاف الآراء وتضاربها، والحالة هذه، شرطاً أساسياً لكل تفكير فلسفي. فلا فلسفة ممكنة إلاّ إذا سلّمنا أن جميع الأسئلة والقضايا يمكن أن تكون موضع جدال مفتوح. نقضي على التفكير الفلسفي لحظة إيقاف ذلك الجدال باسم عامل يَخرج عن آلية الجدال ذاتها، واسم سلطة ليست هي سلطة العقل. ونحن نبلغ النتيجة نفسها حينما نفصل العقل عن مخاض ممارسته.
***
لا يكفينا إذاً، ردّاً على تلك المواقف التي تجعل من الفلسفة نصائح عملية، أن نردّد من جديد تلك العبارة المستهلكة التي تنيط بالفلسفة كل مهمة نقدية. إذ إن تعقّد الحياة الثقافية المعاصرة، ودخول الإعلام على الخط، جعلا ما كنا ندعوه نقداً فلسفياً يعرف تحوّلاً شديداً. ربما ولّى الزمن الذي كان التقابل فيه يتم بين الفلسفة والأيديولوجيا، فكان النقد الفلسفي يؤول إلى فضح أوهام، وتعرية أشكال الاستلاب التي تتولد عن التناقضات الاجتماعية والنضال الطبقي.
***
واقع اليوم لم يعد يحتاج إلى تعرية، وهو من الصلافة بحيث يتبدَّى لك عارياً متحدياً كاشفاً عن وجهه. في هذا المعنى كان ميلان كونديرا قد أشار إلى حاجة الإنسان المعاصر «إلى أن يرى نفسه في مرآة الكذب المجمِّلة، وأن يتعرف على نفسه في هذه المرآة برضا مؤثّر». من هنا وجدت وسائل الإعلام طريقها إلى النفاذ، فغدت أدوات لتكريس الأفكار الجاهزة وتحصين اللافكر وبثه وإشاعته.
***
لا يمكننا اليوم أن نتحدث عن الفلسفة، من غير أن نأخذ بعين الاعتبار «مجتمع الفرجة»Société du spectacle الذي نحيا في أحضانه، حيث تشكل الصورة والإعلام و«المسْرحة» ركائزه الأساسية، وحيث تعمل الأيديولوجية على غير النحو الذي عملت به لحد الآن.
***
ما تجري عليه الأمور اليوم ربما تصعب ملاحقته. لكنّ بإمكاننا أن نتعقب مظاهره المختلفة، وهي مظاهر مغرقة في السلبية، وربما لم تعد التشخيصات التي كانت تحدّد معالمه حتى اليوم، لم تعد كافية للمّ شتاته ورصد آفاته. ولعل التعابير التي كانت تُعتمد لوصفه، مثل القلب الأيديولوجي والاستلاب الفكري، لعلها لم تعد كافية للتعبير عنه. هذه الأشكال من التعابير كانت تكتفي بأن تُسْنِد إلى الفلسفة مهمة الفضح والنقد. لكن، لو أننا حاولنا أن نحدد مهمة الفلسفة اليوم ذاهبين مع نيتشه إلى القول بأنها مقاومة للبلاهة، فإننا سرعان ما سنتبين أنه لا يكفينا ردّها إلى مجرد فضح الأوهام الأيديولوجية، وبالأحرى جعلها مجرد إسداءٍ للنصائح، وتقديمٍ للوصفات.
***
لا عجب إذاً أن تزداد الأفكار الجاهزة ذيوعاً مع انتشار وسائط الإعلام وتقدّمها، وأن تعمل «الصورة» في مجتمع الفرجة، على مخاطبة ملكاتنا واستثمارها في غرس «البلاهات». على هذا النحو ستغدو الفلسفة، بما هي مواجهة لكل نزعة كليانية مواجهة للإعلام، وستسعى لتجاوز الإعلام كتقنية، محاولة استرجاع القدرة على التمييز، وإحياء حس الاختلاف.
***
خصم الفلسفة اليوم هو البلاهات والترهات التي يصنعها «مجتمع الفرجة». حاول ميلان كونديرا تحديد البلاهة بمعناها الحديث فكتب: «إنها لا تعني الجهل، وإنما اللافكر الذي تنطوي عليه الأفكار الجاهزة». غير أن هذا التحديد الذي يجمله كونديرا في عبارته هذه يكاد يغفل جوهر المسألة، إذ إنه يقدّم اللافكر كما لو كان يعطينا نفسه في عرائه. فهو عندما يحدّد البلاهة بأنها لافكر، يبرئها إلى حدّ ما، ويرفع عنها كل «خطورتها»، تلك «الخطورة» التي كان جان كوكتو فيما قبل قد ألحّ عليها عندما كتب: «إن مأساة عصرنا، هي كون البلاهة تفكر».
***
مأساة عصرنا، ومأساة البلاهة، لا تكمن إذاً في كونها لافكرا، وإنما في كونها لافكرا يفكر، فهي لم تعد ذلك الجهل الذي قد يُتدارك عن طريق التربية والتكوين، ولا فراغ الفكر الذي قد يملؤه الانفتاح على السؤال، وإنما غدت تقدّم نفسها على أنها فكر، بل كل الفكر، ومن هنا اكتفاؤها بذاتها وصلابتها وتجذرها، وخصوصاً عندما ستزداد الأفكار الجاهزة ذيوعاً مع انتشار وسائط الإعلام وتقدمها، وعندما تعمل «الصورة» في مجتمع الفرجة، على مخاطبة ملكاتنا جميعها واستثمارها في غرس «البلاهات».
***
لو أنطنا بالفلسفة أساساً مقاومة كل أشكال التخشب الفكري، وجعلناها، لا تعيينا للوصفات الجاهزة، وإنما مقاومة تتعقب البلاهة وترصد «حماقات» مجتمع الفرجة، فإننا ينبغي أن نسلم بأن التخشب لا يلحقنا فحسب من ترسّخ مقولاتنا في الماضي، ولا من ترديد بليد لمقولات «نستوردها»، وإنما أيضاً مما نتشرَّبُه يومياً من أشكال اللافكر التي نتغذى عليها.
***
حينئذ تغدو الفلسفة مقاومةً للنماذج الثقافية التقليدية، وانفصالاً عن الرؤى التي تسعى أن تكلس الماضي عندما تسجنه داخل قوالب جاهزة، وتحنّطه بفعل تأويلات نهائية منغلقة على ذاتها. لكنها تغدو أيضاً، بلورة فكر-مضاد يحدث شروخاً في عالم سائر نحو التنميط و«التبلّه»، فكرٍ يتعقّب أشكال البلاهة التي تتغلغل في يوميِّنا، ساعيةً لأن تُقنعنا بأنها فكر، بل كل الفكر، فتجعلنا نحيا طبق ما تجري به الأمور وعلى شاكلتها.
***
لا يكفي التفلسفَ، والحالة هذه، أن يغدو معارف فلسفية تنهل من تواريخ الفلسفة في مختلف أشكالها وحقبها. ذلك أن الأمر لا يتعلق هنا بتخطئة البلاهة وحملها على التفكير الصائب، فمسألة البلاهة اليوم، ليست مسألة صواب وخطأ، ليست مسألة «تبحر في المعارف»، إنها ليست قضية جهل ومعرفة، وإنما هي قضية اللافكر الذي يحسب نفسه فكراً، غير أن هذا اللافكر لم يعد هو الخطأ الذي يكفي لمقاومته أن يعبد الفكر الطريق ويضع «المنهج» ويسن «قواعد لتوجيه العقل»، كما أنه لم يعد مجرد توظيف للعقل في غير محله، وتخطٍّ للحدود التي ينبغي أن يحترمها، بحيث يكفي لتقويمه إقامة نقد يحدد مجال «الاستخدام المشروع للعقل»، وقد سبق أن قلنا إنه لم يعد أيضاً حتى ما وُسم بالرأي الأيديولوجي والوعي المغلوط الذي يكفي دحضه وتفنيده.