كان يعمل مترجماً وسيطاً بين الأهالي وبين جماعات المسلحين الذين فرضوا سلطتهم على تلك المناطق النائية، وكان يؤمن أنه من خلال عمله كوسيط يضمن سلامة الأبرياء، ويخفّف من التوتر الذي قد يتحوّل إلى مواجهة خاسرة بالنسبة إلى الأهالي، بسبب عدم التفاهم بينهم وبين الوافدين من جماعات تنظيمية مسلّحة. كانت ظروف تموين الناس صعبة جداً، يستولي المسلحون على كل ما يصل إلى الناس من مساعدات عبر هيئات الإغاثة الإنسانية، ثم يقومون ببيعها بأسعار خيالية. كان شاهداً على المأساة. رأى في الأطفال بريق أمل وحيداً على هذه البقعة من الأرض. سعى إلى التواصل مع الأهالي ثم تطوّع لتعليم أطفالهم اللغة الإنجليزية إلى جانب مهارات الحساب. أراد أن يفعل شيئًا من أجلهم ودون مقابل هذه المرّة. مع مرور الوقت أخذ يفكر في البقاء في هذه المنطقة التي يطول شتاؤها ويكاد ينعدم فيها كل ما يمتّ إلى الحياة بصلة. لم تعد روح المغامر تسكنه. صار أكثر تعاطفاً، يرغب في إنقاذ هذه البراءة من عار الحروب والنزاعات.
في ذلك الصباح الأخير من بقائه في تلك المنطقة، وقبل أن ينقلب المسلحون على أهل القرى ويبيدوا أسراً بأكملها، كان المترجم، كما يسمّيه أهل المنطقة، قد التقى بحشد كبير من الأمهات وأطفالهنّ الذين تقلّ أعمارهم عن السنوات العشر. سجل الأسماء والأعمار وقسّمهم إلى مجموعات بعد أن خاطبهم بلغتهم المحليّة. أخبرهم أنه سيعلّمهم اللغة الإنجليزية ومبادئ الحساب ثم سينهي فترة الصباح بالتحدّث إليهم عن الحياة في المدن البعيدة. تفرّق الأولاد والبنات مبتعدين عن الأمهات اللواتي كنّ يتقدّمن تباعاً من المترجم ليعبّرن له عن شكرهنّ وامتنانهنّ وقد دارت الأحاديث حول المستقبل الغامض ورغبات البعض منهنّ في الرحيل.
هل تورّط في كلّ هذا؟ وهل بات مخلّصاً كما وصفته تلك الأم الصغيرة وهي تشدّ على يده. تمنّت لو أنّ ابنها حظي بأب مثله. رأى في ما يفعله تعويضاً عن قرار حبيبته بالانفصال عنه. بعد أن انفض عنه الجميع تقدمت منه سيّدة في بداية الأربعينيّات من عمرها، لا تزال في ملامحها طراوة الشباب، خزّنت عيناها حزناً هائلًا. كانت تمسك بيد طفلة صغيرة. سلّمت عليه من بعيد وقد تركت بينها وبينه خطوات، خمّن منها معاناة هذه السيدة وخوفها من الغرباء.
نظر في عيني الصغيرة الواسعتين، كانت تنظر في عينيه مباشرة، جعلت قلبه يرتجف في صدره. من أين جاءت بهذه النظرة الهادئة والعميقة. خاف على روحه التي سلبتها هذه الطفلة. رأى مئات الصغيرات. كنّ صغيرات وعيونهنّ تبحث عن أعمارهنّ وضحكاتهنّ ببراءة. لكن هذه الصغيرة لم تكن تبحث عن عمرها، بل كانت تريد شيئًا واحداً. كانت تريده أن ينظر في عينيها حين قدّمتها أمّها لتعرّفه بابنتها.
- هيلانة، تعرف حروف الإنجليزية كاملة وبعض الجمل.
- تبدين فتاة ذكيه (يخاطب الفتاة التي تكتفي بالتحديق إليه).
- إنها ابنتي الصغيرة. تجيبه الأم.
عادت إليه عينا هيلانة فرأى العالم كله مرسوماً في سوادهما.
أطالت التحديق فيه بينما كانت تخبره أن أختها تزوجت في سن صغيرة ولم تتعلّم شيئًا من الإنجليزية. لم يسمع شيئًا مما قالته الأم عن مرض ابنتها وهروبها من بيت زوجها وعن محاولة انتحارها. كانت روحه عالقة عند حافة ذلك العالم الذي تسيّجه رموش الصغيرة. فاجأته الفتاة حين وضعت كفيها فوق عينيها وبدأت بالضغط عليهما ثم أنزلتهما لتمسك بيد أمها ثانية. رأى خيوطاً من الدم قد تخللت البياض ورأى لون العسل في عينيها قد زاد حلاوة. انحنى بقامته ثم ركع على قدم واحدة غير مبال بالوحل والصقيع.
ما اسمك؟
هيلانة.
هل ستتزوجين مثل أختك؟
لا.
وماذا تعرفين من اللغة الإنجليزية؟
شدّت الفتاة على يد أمها حين انطلقت تتكلّم بإنجليزية جيّدة: أريد حين أكبر أن أترك هذا المكان وأن أكتب قصصاً للأطفال. في المدينة أستطيع أن أفعل هذا لكن هنا سيزوجونني إلى رجل أحمق.
لم يقل شيئًا، هز رأسه مبدياً اهتمامه.
ماذا قالت ابنتي؟ ماذا قلت يا هيلانة؟
رفع الرجل عينيه إلى الأم وبدا أن تواطؤًا قد عقده مع الصغيرة.
تريد أن تتعلّم الإنجليزية. في أي ناحية بيتكم؟
أشارت إليه ناحية الشمال، حيث تتفرق البيوت وتتباعد على نحو أثار قلقه.
المكان لم يعد آمنًا لكما.
أعرف. لا مكان آخر نلجأ إليه.
سأمرّ بكم في المساء، لا تخافي، لديّ مؤونة فائضة عنّي، في الأيام القادمة قد تغلق الطرقات.
سكتت الأم. حاولت أن تقول شيئًا ثم سكتت. خمّن المترجم أنها تحاول أن تسبر أفكاره. سرعان ما طمأنها بأنّ مروره سيكون مع مجموعة من السكان سيوزعون الأغذية على بيوت المنطقة. كان يكذب عليها. أراد أن يمنح نفسه أيضاً وقتاً حتى يفهم لماذا يريد أن يمرّ بها وبابنتها. تركته الأم تتبعها ابنتها التي ظلّت تلتفت إلى المترجم كلّما خطت خطوتين إلى الأمام إلى أن غابت في المسافة والعتمة التي كانت تزحف ثقيلة وباردة.
عاد الرجل إلى الغرفة التي يسكنها. حاول أن ينام. ظلّت عينا الصغيرة تراقبانه.
حاول أن يمسح صورتها من أمامه بالغناء وبنبش ذاكرته بحثًا عن أمور أخرى. لا شيء قادر على طردها. فتح نافذة الغرفة ليدخل هواء الشتاء القارس. مشهد الليل جعله يفكر بلياليه في مدينته البعيدة علّه يخفّف من حضور الطفلة ومن الوحشة التي قبضت على روحه. لا نجوم في السماء ولا إنارة هنا، أحياء فقيرة تكتفي بالمصابيح التي تُشْعَل ليلًا... كان مشهد العابرين وهم يقبضون على مصابيح بأيديهم يثير إحساسه باقتراب الموت منه.
أعاد إغلاق النافذة ثم اندس في سريره. تجمّد كلّ شيء في الغرفة حتى روحه استسلمت للصقيع.
لم يطل الوقت حتى حلّ الظلام دامساً. بدأ يسمع أصوات طلقات رصاص متفرّقة. بحث عن علبة سجائره. أشعل واحدة. لكن تسارع أصوات الرصاص جعله يخرج حقيبة يحتفظ بها أسفل سريره، جمع ملابسه والأوراق التي تهمّه. وقبل أن يخرج حمل كيساً فيه معلّبات وأطعمة، ثم انطلق مسرعاً نحو بيت المرأة. كان قلبه يدلّه إلى الطريق وعينا هيلانة ترافقانه. قرع الباب وانتظر.
هيلانة، هيلانة، أنا المترجم.
فتحت الأم بعد وقت خاله زمناً كافياً جعله يخاف على هيلانة أن تفقد طفولتها في هذه الأرض الميتة. كان يعرف بأنهما ستقتلان على أقل تقدير لو انتظر حتى الصباح.
لا وقت لدينا. علينا أن نصل الطريق العام هناك سيارة تنتظرنا.
في الطريق كانت السّيارة تعبر بهم إلى الضفّة الأخرى من العالم. هيلانة في حضن أمّها، عيناها تبرقان وسط العتمة.
تهمس هيلانة بإذن أمها: هل سيكون لي هناك مدرسة؟

* لبنان