تركي سعيد الظهوري

تشكل سلسلة رؤوس الجبال الممتدة من مضيق هرمز مرورًا بجبال الحجر، حاجزاً طبيعياً يفصل المناطق المطلة على بحر عمان عن تلك المطلة على الخليج العربي غرباً، وقد شكل هذا الحاجز الطبيعي تنوعاً في البيئة الجغرافية للمنطقة مثلت تبايناً في البيئات عن تلك الموجودة في أغلب مناطق شبه الجزيرة العربية.
فبجانب البيئة الصحراوية والساحلية وجدت البيئة الجغرافية الجبلية التي تعتبر إضافة جغرافية وثقافية وتاريخية لهذه المنطقة، ولعل أهم ما يميز هذه البيئة هو تنوعها السكاني من الناحيتين الاجتماعية والاقتصادية مما ساهم في تميزها الثقافي، تمتد الأصول التاريخية لهذه المنطقة إلى محطات تاريخية موغلة في القدم، فابتداءً من القصة المروية في سورة الكهف عن الملك الذي يأخذ كل سفينة غصبا والتي تقول بعض الروايات بأنه قد عاش قريباً من هذه المنطقة الجغراقية، ثم قصة الإسكندر المقدوني الذي عبر الخليج العربي إلى بلاد الهند، ورسم في الخرائط الخاصة به هذه المنطقة، وأطلق عليها ارابيا.
ولقد كان للعرب تواجد قديم في هذه المنطقة منذ زمن الأنباط وهجرة العرب القديمة من اليمن مروراً بعصر الإسلام، حيث اتخذت هذه المنطقة نقطة عبور لحركات الفتح الإسلامي إلى بلاد الهند وما وراء النهر عبر موانئها ومدنها القديمة التي اشتهرت منها دبا وجلفار.
هذه المنطقة عادت إلى واجهة الأحداث على إثر الغزو البرتغالي ابتداء وعموم ما لحقه من موجات لحركات الاستعمار الأجنبي التي تمت مواجهتها من قِبَل أبناء المنطقة الذين سطروا على جبالها وسواحلها أروع البطولات دفاعاً عن الوطن، وذوداً عن حماه، وكتبوا أروع الحكايات التي تعلي من شأن الوطن وقيمة المواطنة، لقد أثبت سكان هذه المنطقة بأنهم أهلها الأوفياء، وجندها الاتقياء يدفعهم واجب الدين، وتحركهم نخوة العرب، وتزكي شجاعتهم مروءة القبيلة، لذا نفروا جماعات وفرادى للدفاع عن وطنهم، وحماية حقوقهم ومكتسباتهم.
إن الحديث عن أهل الجبال يدفعنا لذكر القبائل العربية التي ارتبطت بهذه المنطقة على طول امتدادها من الشمال إلى الجنوب غير أننا سنركز في مقالتنا على قبائل الظهوريين، وبني شميلي والحبوس والشحوح الذين تجمعهم عادات متقاربة، ولهجة جبلية واحدة، وسلوكيات اجتماعية متشابهة، فعلى النطاق العمراني تسكن هذه القبائل سفوح الجبال وتنتقل بحسب فصول السنة بين سفح الجبل وبطون الأودية، وأهم ما يميز مبانيهم أنها مصنوعة من الحجارة والطين ومسقوفة بجذوع الأشجار، وهي عبارة عن وحدات مستقلة تسمى واحدتها (بيت القفل)، وهو أشهر هذه البيوت على الإطلاق، حيث يتميز بقوة إغلاقه ومتانة جدرانه، وهو بيت شتوي معد للتدفئة.
وأما الثاني فهو (بيت الصفة) المعد لاستقبال الضيوف والزوار ويتميز بنوافذه الواسعة بالإضافة لبيت المطبخ والدكة وزريبة الغنم التي تتواجد بالقرب من البيت لدواعي التأمين والحراسة، وتكون المنازل في شكل تجمعات قريبة من بعضها تجعل الأسر قوية في روابطها الاجتماعية وتواصلها المعيشي اليومي.
وتكفل حياة الأسرة الجبلية عادات وتقاليد تعزز الترابط الأسري، ومن أهمها عادة الحشيد التي تتمثل في حشد الناس عند الرغبة في اتمام عمل ما كبناء منزل أو بركة ماء أو غيرها من متطلبات الحياة، مما يوفر الوقت والجهد، وبالتالي تتعزز مسألة التكافل الاجتماعي، من العادات الجميلة في هذا الشأن من مثل الزيارات الصباحية والمسائية التي تتم بغرض التسلية وصلة الارحام وتبادل أطراف الحديث عند الانتهاء من أعمال الرعي أو الحصاد، والعودة من الوعوب وهي حقول الزراعة.
تشتهر المناطق الجبلية بوجود الحيوانات المفترسة التي قد تحدث أضراراً بالمنازل والماشية ومن أشهر هذه الحيوانات النمر العربي والذئب والوشق (الحمرة) ولكل حيوان طريقة مختلفة للصيد غير أن أشهرها في المنطقة الجبلية هي زيرة الذيب، وهو يوم احتفالي يتم تحديده بمعرفة كبار السن لحصر الذيب في مكان محدد والاختباء له بطرق تمويهية مع نصب فخ شبكي يصطدم فيه الذيب ومن ثم يتم الانقضاض عليه واصطياده. من الأهمية بمكان الحديث في هذا السياق عن علاقة أهل الجبال بالساحل بحيث تمثل هذه العلاقة محور العامل الاقتصادي، والتبادل التجاري لسكان الجبال، يتم فيه البيع والشراء خاصة في أيام الجمع والمواسم.. فيجلب أهل الجبال سلعهم ومنتجاتهم كالعسل والسمن والجبن والتين والحطب والماشية ويبتاعون مقابلها إما نقداً أو مقايضة متطلباتهم الحياتية كالأرز او الاسماك او غيرها مما تحفل به أسواق الساحل.
مجمل هذه العلاقات الاجتماعية والاقتصادية والامتداد التاريخي لأبناء الجبال خلق لهم طابعاً فنياً متميزاً في أهازيجهم الشعبية وألوانهم الغنائية، وبرزت لديهم فنون مختلفة تؤدى بشكل جماعي أو فردي، وأهم الفنون التي تؤدى بشكل جماعي الرواح والرزيف وهما لونان غنائيان يؤديان بوساطة الطبل، وأما الفنون التي تؤدى بشكل فردي فهي المهوبية والحدو وهما لونان غنائيان يؤديهما الفرد من خلال ارتجال أبيات شعرية غنائية بنبرات موسيقية تعبر عن الحالة الشعرية، كالمدح أو الهجاء أو الحزن أو الشجاعة.
هذه الألوان الغنائية أثرت المحافل الاجتماعية لهذه القبائل المتمثلة في الأعراس الجبلية، فالحاضر لهذه الأعراس يشاهدها مهرجانا احتفاليا يبدأ من الصباح الباكر لينتهي في آخر الليل، يشهد عدة فقرات تبدأ من دخلة القبائل ولقيتها ولعب الرواح والرزيف والندبة والكبكوب التي يعتز فيها كل ابن قبيلة بقبيلته، إضافة إلى كرم الضيافة وحسن الاستقبال والاعتزاز بالعروبة من خلال اللباس العربي التقليدي المتكامل بزينة الفروسية كالخنجر والسيف والكتارة والبندقية والمحزم والبيشك لتتجلى العروبة وبطولاتها أمام الحاضر والمشاهد.
إن الحديث عن أهل الجبال طويل طول السنين التي عاشوها وجميل جمال المناظر التي يشاهدونها ولا ينتهي بانتهاء المقال، بل يبتدئ عند زيارة هذه المناطق وزيارة أهلها.