إبراهيم الملا (الشارقة)

عشرة أشهر ومراجعات طويلة ومتشعبة، هي مدة الرحلة الاستعادية التي استغرقها البحث الميداني، والغوص في السيرة الذاتية، وفي الأرشيف الغنائي العميق والخصب والمتنوع للفنان الإماراتي الراحل جابر جاسم من أجل تقديم فيلم تلفزيوني مكثف وحلقات وثائقية تستعيد الحضور المتوهج لواحد من أهم الأسماء اللامعة في فضاء الأغنية الإماراتية، وأكثرها انتماء لصوت ولون ورائحة الأرض التي شكّلت موهبتها وغذّتها بالألق الذي تستحقه.
حملت الحلقات الوثائقية عنوان «جابر جاسم.. رحلة الكلمة والنغم»، وتم عرض الحلقة الأولى منها مؤخراً على قناتي الإمارات وبينونة، ضمن 13 حلقة، ستكون حافلة بذكريات ومواقف وإضاءات على فترة خصبة من التاريخ المحلّي، وعلى مخاضات وولادات بشّرت بهاجس فني حقيقي، وبتحولات إيجابية نحو التغيير أو التطوير في الشكل والمحتوى وفي المبنى والمعنى، والذي كان لجابر جاسم بصمة واضحة في ترجمة هذا الهاجس التغييري إلى واقع إبداعي ملموس، حيث نقل الأغنية الإماراتية من مرحلتها التقليدية، إلى مرحلة جديدة زاهية ومدهشة على مستوى اللحن والإيقاع والكلمة والتأثير والانجذاب، مرحلة انطلقت في أواسط السبعينيات وتكونت ملامحها بشكل واضح في نهاية التسعينيات.
أما الفيلم، فحمل عنوان: «جابر جاسم.. صوت الوطن» ويقدم من خلال ساعة ونصف الساعة رصداً مكثفاً لما تطرقت إليه الحلقات التلفزيونية من مراجعات وانتباهات وتفاصيل فنية وحياتية قد تكون غائبة عن الكثير من المشاهدين، خصوصاً المنتمين لجيل الشباب الذي لم يعاصر الفترة التي بزغت فيها نجومية جابر جاسم، وقدّم فيها إسهامات كبيرة وتضحيات مقدرة وإبداعات فردية مبتكرة واستثنائية لا يمكن للشغوف بالشعر العامي والمهتم بتاريخ الغناء المحلي سوى أن يقف طويلاً أمامها كتجربة أصيلة ونقيّة ومتجليّة، صنعها وأصر علي استمرارها أحد الرواد والمؤسسين الكبار للفن الغنائي الحديث بالإمارات.
يخبرنا الفيلم أنه لا حدود للزمن.. عندما يصدح صوت جابر جاسم في رواق الحنين وأرجاء الذاكرة، صوت يختزن في بحته حزناً يعانق الفرح، وجرحاً يلوذ بالعافية، ويظل محتفظاً بعنفوانه ورقّته في آن، صوت يتجاوز انكفاء الأيام، واغتراب الوقت، ليقول لنا في كل مرّة نستعيد فيها حضوره : أن للأزمنة العتيقة سحرها، وأن الحياة لم تفقد ألقها، ماضياً وحاضراً وفي كل حين، حيث المفردة الشعبية هي الماء والظل للمحبة الساكنة في الروح، وهي المفردة العطشى أيضاً لمن يروي ظمأها بالكلمة الرائقة، واللحن المنساب، والموسيقى النابعة من شغاف القلب والمنهمرة في بحر المعنى.
يوضح الفيلم أيضاً قدرة جابر جاسم على اقتناص هذا الحدس وهذا المطلب، عندما ملأ الفراغ المهيمن على الساحة الغنائية في الإمارات فترة الستينيات وحتى بداية الثمانينيات من القرن الماضي، فراغ كان يفصل بين الرؤية الكاشفة في مشروعه الفني، وبين الضبابية الراكدة لواقع الأغنية الإماراتية، فراغ كامن أيضاً بين الهمّ الفني الحقيقي، وبين تلك المحاولات السابقة لتجربته والتي اتكأت طويلاً على الارتجال والتكرار والمراوحة في منطقة غنائية ضيّقة، وبنسق لحني متشابه وغير قادر على الوثب فوق حدوده وقوالبه، وكان تطلّع جابر جاسم قائماً على البحث والتجريب وعلى حماس مضطرد دونه الكثير من المجازفة والارتياب، لأنه تطلّع قائم على تجاوز النمط أو الإطار الذي انغلقت فيه الأغنية المحلية ولم تستطع أن تتجاوزه بعد المرحلة التي قطعها مطربون كان لهم حضورهم وتأثيرهم في تلك الفترة أمثال: حارب حسن وعلي بالروغة ومحمد سهيل وسعيد سالم وسعيد الشراري وموزة سعيد وعبدالله بالخير وإبراهيم الماس ومروان الخطيب وغيرهم.
نقل جابر جاسم الأغنية الإماراتية إلى المكانة التي تستحقها، وإلى هوى وهوية مقيمة في نسغها ورونقها وتفتحها، وكانت تضحياته في هذا المجال كبيرة ومكابداته ملحوظة، فاستحق أن يمتاز بما قدمه من نتاج غزير ومتنوع ومدهش، وبما تعب على صقله وتشييده من معمار غنائي سامق، حتى أصبح خبيراً بحرفته، وبات يعزف بصوته وسط أوركسترا النور وكرنفال الضوء، ناقلاً نتاج الشعراء الإماراتيين الكبار، وفي مقدمتهم المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، إلى الاستحقاق الكامل في سماء الأغنية الخليجية والعربية.
ارتبط الميراث الغنائي لجابر جاسم بميراث شعري خصب وممتد في المخيال الجمعي لسكان الإمارات، انطلاقاً من «نهمة» الساحل، وحتى «تغرودة» الصحراء، وصولاً إلى صدى «الونّة» بين الجبال الشاهقة، وكان هو الجبل الغنائي العالي والراصد لكل متغيرات المرحلة وانعطافاتها، فاطلع على فن المقامات، ودرس النوتة وعرف أسرارها، وأسس للفرقة الموسيقية بعدّتها وعتادها الحديث، وسافر واجتهد، فأثمر جهده كل هذا الرصيد الحافل من الأغاني النابضة والحيّة إلى اليوم.
وكما القصيدة التي شدا بها وذاع صيتها للشاعرة الاستثنائية عوشة السويدي والتي يقول مطلعها: «سلّمت لك في الحب تسليم»، سلّم جابر جاسم موهبته الخالصة والمخلصة لفن الغناء، فصار هو الرائد والملهم والمتفرّد، وبات جديراً بكل هذا الاحتفاء، وكل هذا الوهج.
تضمّن الفيلم فواصل درامية عززت المناخ النوستالجي لأغاني جابر جاسم، كما تضمن شهادات لشعراء وملحنين ونقاد وأقارب وأصدقاء عاصروا المرحلة التي تفتحت فيها موهبة جابر جاسم والتي انطوت على العديد من التحديات العالقة بالموروث الغنائي السابق، وأظهر الفيلم رغبة جابر جاسم الملحّة في توظيف هذا الموروث باتجاه يتلاءم مع صعود الأغنية الخليجية والعربية واختبارها لأدوات تعبيرية ونسق أدائي معاصر، وهو ما جعل شعراء مثل أحمد الكندي يتجاوبون مع هذا المطلب وهذا التوجه، عندما قدم لجابر جاسم قصائد اتصفت بإيقاع سماعي مرن ومتخفف من المفردات الصعبة والأوصاف المنتمية لبيئة محددة، والأمر ذاته انطبق على شعراء آخرين تعاون معهم جابر جاسم أمثال سالم سيف الخالدي والكويتي بدر بورسلي، كما أن اختياراته لقصائد شعراء قدامى أمثال سعيد بن عتيج الهاملي، انحازت في مجملها للكلمة الجليّة والمؤثرة في آن والتي قدمت مشاهد حية عن واقع غائب ولكنه جامح وفاتن ونابض إذا تعلق الأمر بصياغته في لحن يليق بمديات شاسعة في الذهن والقلب، تماماً كما فعل جابر جاسم مع كل قصيدة عشقها وتماهى مع سحرها.