إسماعيل غزالي

الدفتر الأحمر
قلّما تخلو رواية للكاتب الأميركي «بول أوستر» من الحضور اللافت للدّفتر. فمجمل أعماله الرّوائية يتعاقب فيها استعمال أو توظيف الدّفاتر بوتيرة غير منقطعة، إذ غالباً ما تفصح بدايات نصوصه عن ولع شخصياته بالكتابة في مفكّرات ومذكّرات وكرّاسات لا يرِدُ ذِكْرُها اعتباطاً أو من أجل الترف أو التّكرار المجّاني، بل تكشف حبكاتُ السّرد لاحقاً عن الدور الماكر الذي تضطلع به في لعبة الرواية، أو لعبة كتابتها بالأحرى.
هذا الهوس بالدفاتر ما فتئ الكاتب نفسه يفصح عنه في أكثر من حوار، وعلى نحو خاص جداً، يفرد عشقاً أشبه ما يكون بعبادة صنمية للدفاتر (صفراء الورق) ذات المربعات الصغيرة. والدفتر في اعتقاده محض سرداب للكلمات أو مكان سرّي للأفكار... وربما هذا ما جعل «بول أوستر» يخصّ أحد كتبه غير الروائية، بعنوان الدفتر الأحمر -أو دفتر الملاحظات الأحمر- مع تجنيس مواز أو هامشي موسوم بقصص حقيقية. وهي ثلاث عشرة قصة أو حكاية أراد لها أن تكون منزّهة عن أدنى لوثة خيال، يسجّل فيها الكاتب بأسلوب ساخر مجموعة طرائف ومصادفات وغرائب ووقائع تكشف السّديم الذي جاءت منه أفكار بعض رواياته، ومن أطرفها على الإطلاق مصادفة الهاتف الخطأ الذي استندت إليه كتابة رواية «مدينة الزجاج» المدرجة كفصل أول في الطبعة الروائية الجامعة والموحّدة، الشهيرة: «ثلاثية نيويورك»، والحكاية الواقعية هي أن «بول أوستر» تلقّى فعلاً ذات مرة هاتفاً من مجهول يود الحديث إلى وكالة بينكريتن للتحري، ثم عاود الهاتف نفسه مخاطبته باليوم الموالي، فأخذ الكاتب الأمر على محمل الجدية متسائلاً: ماذا لو زعم أنه الشخص المطلوب؟ وهكذا تحول الأمر بقدرة قادر إلى مادة تخييلية أسفرت عن رواية «مدينة الزجاج».
وكذلك حكاية البرق، وهي حادثة الموت الموشومة التي تعرّض إليها أحد زملاء طفولته بالمخيّم إثر التنزّه في الغابة، لقي حتفه بفعل صعقة برق على مرأى من عينيه، وهو المصير المفجع الذي كان سيتعرّض له «بول أوستر» لولا تأخّره بثانيتين أو ابتعاده بإنشين، فتركت أثراً غائراً في ذاكرته، ومن الأثر اندلع التفكير المؤرق في عبث الوجود...الخ.
قارئ «بول أوستر»، يدرك أن دفتر الملاحظات الأحمر ليس المرة الأولى التي يرِدُ فيها بعمل من أعماله، بل سبق وأن حضر بقوّة وعلى نحو مركزي في ثلاثية نيويورك، لا كعنوان، وإنّما ككرّاسة ذات لون أحمر، يدوّن فيها بطل «مدينة الزّجاج» المدعو «كوين» ملاحظاته وهو يتعقّب الأب «ستيلمان» فور وصوله إلى نيويورك على مدى أسبوعين: (في «مدينة الزجاج،» يتّصل شخص مجهول بـ«كوين» وهو مؤلف روايات بوليسية، يسأله عما إذا كان هو «بول أوستر»- المؤلف نفسه- فيزعم «كوين» أنه «بول أوستر»، ويذهب ليلتقيه فيجده شاباً يلبس ثياباً بيضاء، قضى 13 سنة في الظلام مسجوناً من أبيه الدكتور الجامعي الخارج لتوّه من السّجن، هكذا يقترح على «كوين» أن يتحرّى قضية الأب الذي ينوي قتل ابنه المدعو «بيتر ستيلمان»، وينبري «كوين» للتحرّي ويقرأ مؤلّفاً كَتبَهُ «ستيلمان» الأب وفيه رؤية عن برج بابل والفردوس! إذ يرى أن نيويورك هي مدينة بابل الجديدة التي ستوحّد الإنسانية وترجعها إلى الفردوس. يتعقّب «كوين» الأب فور وصوله إلى نيويورك على مدار أسبوعين وهو يدوّن ملاحظاته في دفتر أحمر، إذ يكتشف بأنه يصنع لغة جديدة لكي يتفاهم بها البشر وينقذهم من أخطار المصائر المأساوية المحدقة بهم وتتشعّب الأحداث مع وصف دقيق للمدينة، فيقرّر أن يستأجر شقّة بالمقابل من «ستيلمان» الابن وزوجته هذه المرّة، ليراقبهما بدورهما عن كثب وبعد أن ينفد ماله يتصل «كوين» بالشخصية الحقيقية التي يتنكر فيها وهي شخصية «بول أوستر» المتحري الفعلي، ويفاجئه أنه ليس متحرياً وإنما هو كاتب، وكان سبب الاتصال أن يحصل على شيك كتبته زوجة الابن «ستيلمان» لـ«كوين» باسم «بول أوستر» هذا الذي يخبره بانتحار الابن، وعندما يقصد شقّة زوجة «ستيلمان» يجدها فارغة عن آخرها، فينعزل في غرفة ولا يفعل شيئاً سوى الكتابة في كرّاسته الحمراء التي سيجدها «بول أوستر» والراوي في نهاية الرواية داخل غرفة «كوين» الذي يختفي تماماً).
يعاود الدفتر الأحمر البزوغ بشكل مثير في «الغرفة الموصدة» أي الجزء الثالث والأخير من «ثلاثية نيويورك»، بعد أن يتلقّى السّارد في مختتم الرواية رسالة أخرى من صديق طفولته «فانشو» يدعوه إلى لقاء في بوسطن، هناك يجده في غرفة موصدة منعزلاً يكتب -المشهد الذي يذكّرنا بنهاية الفصل الأوّل من مدينة الزّجاج- فيسلّمه «فانشو» كرّاسة حمراء، ثم يمزّقها السّارد بعد قراءتها في القطار.
لا تتوقّف السّيرة الغريبة للدّفتر عند تجربة «ثلاثية نيويورك» كما هو ملمح إليه أعلاه، ويتواتر حضورها كلازمة غدت أوسترية بامتياز كما في رواية «في بلاد الأشياء الأخيرة» مع شخصية آنا بلوم الذي يلتزم بكتابة رسائله في دفتر أزرق. وأيضاً في رواية «السيد فيرتيجو» مع «والت» الذي شرع في كتابة سيرته الذاتية في دفاتر مدرسية. وكذلك في رواية «تمبكتو» مع ويلي ج كريسماس الذي كتب كل أعماله في أربعة وسبعين دفتراً. ولا تني تلوح مرة أخرى في رواية «حماقات بروكلين» التي يكتب بطلها مشروعاً موسوماً بعنوان «كتاب الحماقة الإنسانية» في حُزم أوراق صفراء عادية...الخ.
غير أن الرواية التي يحضر فيها الدفتر بشكل مركزي يضاهي «ثلاثية نيويورك» أو يكاد يتخطّاها من حيث مكر لعبة التوظيف ولوذعية الإيهام، هي رواية «ليلة التنبؤ».

الدّفتر البرتغالي الأزرق
تنفرد رواية «ليلة التنبؤ» في بدايتها، برصدها المولّه عن كثب لغواية الدفاتر، إذ يقوم بطلها «سدني أور» المتعافى حديثاً من مرض فترة طويلة، بالدخول إلى محل قصر الورق بينما كان يتنزّه ذات صباح، ويلفته في نهاية الممرّ أحد الرّفوف المصفّف بدفاتر ورقية إيطالية مغلفة بالجلد، ودفاتر لتسجيل العناوين من فرنسا وملفات يابانية رقيقة ناعمة مصنوعة من ورق قش الأرز، ودفاتر ملاحظات ألمانية الصنع وأخرى برتغالية. كانت الدفاتر البرتغالية جذابة له بصفة خاصة، بأغلفتها السميكة المقواة، وسطورها المربعة... وبينما هو يقف مسحوراً، يمسك بأحد الدفاتر أخيراً:
«لم يكن هناك أي شيء فخم أو فاخر فيه. كان الدفتر نموذجاً عملياً للقطعة التي لا تستأثر بالنفس، عادياً ومتيناً، ولكن ليس على الإطلاق من نوعية الدفاتر الجديدة التي من الممكن أن تفكر في تقديمها إلى شخص ما كهدية. لكنني في حقيقة الأمر أحببته لأنه كان مغلفاً بقماش. وأحببت شكله أيضاً، تسع بوصات وربع. وهو ما يعني أنه أقصر وأعرض بعض الشيء عن معظم الدفاتر الأخرى. لا أستطيع أن أفسر لماذا كانت أبعاده بهذه الكيفية إلا أنني وجدت هذه الأبعاد مرضية جداً إلى أبعد حد. وعندما أمسكت بالدفتر في يدي للمرة الأولى شعرت بما يشبه المتعة الجسدية وبتدفق مفاجئ من الراحة والسعادة غير مفهوم. لم يكن متبقياً هناك سوى أربعة دفاتر في الكومة الموضوعة على الرف، وكل دفتر منها بلون مختلف، أسود وأحمر وبني وأزرق. اخترت الدفتر الأزرق الذي تصادف أنه كان الدفتر الموجود في أعلى الكومة».
هكذا تقف الرواية بجاذبية وبطء عند التفاصيل الدقيقة والإحداثيات الفاتنة لمواصفات الدفتر بعين مولهة، وهو الدفتر الذي لم يكن محض اعتباط أن يجعله الكاتب بلون أزرق، وبرتغالياً بالضرورة. ويستطرد «سدني أور» أكثر: «لكن مع ذلك، لم أرغب في أن أبدأ علاقتي مع هذا الدفتر بشيء أحمق، لذا رحت أضيع وقتي في تأمل المربعات الصغيرة على الصفحة، وصفوف الخطوط الزرقاء الباهتة التي قطعت بياض الصفحة وحولته إلى حقل من الخانات الصغيرة المتشابهة، بينما أطلق العنان لأفكاري أن تتجول داخل وخارج تلك الأماكن المسيّجة بنوع من الرشاقة...».
هو الدّفتر الأزرق الذي سيكتب «سدني أور» فيه رواية بالاستناد إلى فكرة سبقأن اقترحها عليه صديقه «جون تروس» فيما مضى ذات محادثة عابرة بينهما، وهي فكرة تتعلّق بحادثة فلتكرافت في الفصل السابع من رواية «الصقر المالطي» للكاتب الأميركي «داشيل هاميت»، خلاصتها نجاة فلتكرافت من الموت بأعجوبة إثر سقوط عارضة منارتفاع عشرة طوابق قريباً جداً من رأسه وكادت تسحقه، فأحدثت هزّة هائلة في داخله وقرّر فجأة أن يبدأ حياة جديدة مختلفة جذرياً عن حياته السّابقة.
يتحمّس «سدني أور» للفكرة ويشرع في الكتابة في ذهول ويجعل من فلتكرافت شخصاً آخر يدعى «نيك بوين» محرّراً في دار نشر، تصله مخطوطة رواية قصيرة بعنوان مثير هو «ليلة التنبؤ» وكاتبته المفترضة هي «سيلفيا ماكسويل»... بالموازاة مع ما يكتبه على سبيل التخييل «سدني أور» في الدفتر الأزرق يعود لحياته الواقعية ويحكي بشكل مزدوج عن زوجته وعن صديقه الكاتب «جون تروس»... تتمفصل الرواية عند مفترق صادم، حين تتعثّر رواية «سدني أور» بأن تتوقّف مع مأزق بطله «نيك بوين» الذي يجد نفسه سجيناً في ملجأ مضاد للأسلحة النووية. ثم تلتفت الرواية مرة أخرى لحياة بطلها «سدني» وبخاصة لسيناريو فيلم خيال علمي كان قد بدأهكمشروع قد يوفّر له مصدراً مادياً يعين به زوجته ويستطرد كاشفاً لمناطق خفية عن علاقته بزوجته المتوترة «جريس» وعن وجوه أخرى لعلاقته بصديقه الكاتب «جون تروس». وبدل أن يجد سدني حلاً ومخرجاً لبطله «نيك بوين» العالق في النفق تنعطف الرواية كلياً حين يرجع للدفتر الأزرق ويشرع في الكتابة عما يهاجسه بشأن حمل زوجته، مرتاباً في هوية الجنين الذي يظنه ثمرة لعلاقة حميمية بين زوجته وصديقه «تروس»... وينتهي به الأمر بأن يمزّق الدّفتر الأزرق مرعوباً من خطورة التنبؤات التي تحدث لاحقاً على نحو واقعي... ولا تنتهي الرواية عند هذا الحد.
واللافت أن يكون مصير الدفتر الأزرق في رواية «ليلة التنبؤ» هو نفسه مصير دفتر الملاحظات الأحمر في رواية «ثلاثية نيويورك»: مآل التمزيق. وكأنّ الدفتر هو الرواية المفقودة. الرواية التي لا تكتمل. الرواية التي وُجدت لكي تمضي صوب المحو. وما بعدها لا يعدو أن يكون هوامش حكائية وفرضيات سردية واحتمالات بديلة خلقت لترمّم الفراغ المهول...
ومجمل الملاحظات أن لعبة الدفتر ضمن استراتيجية الكتابة في روايات «بول أوستر» تكشف عن نفسها بصور متعدّدة ومتباينة على هذا النّحو:
صورة يتماهى فيها محكي الدّفتر مع محكي الرواية. وصورة يبدو فيها الدفتر محض رواية داخل رواية. وصورة يتقدّم فيها الدفتر كتخييل كتابة ثانية يُعلّق على تخييل كتابة أولى. وصورة أخرى نمطية للدفتر باعتباره الرواية المركزية فيما الرواية الأخرى الموهومة محض هوامش تضيئها أو تفسّرها من زوايا مضاعفة. ويحدث العكس بأن يصير الدفتر محض هوامش تضيء المتن المركزي لرواية فعلية إذ يوجد في تخييل نهر الدفتر ما لا يوجد في تخييل بحر الرواية...
وأما الصورة على نحو إجمالي، فمجازية يغدو معها الدفتر سرداب الرواية وقبوها السري، مطبخها الخلفي أو ثقبها الأسود بالأحرى.

حاشية الدفتر
يتراجع الحضور المادي المثير للدفتر ويظلّ لونه لصيقاً وملازماً لذاكرة القارئ: لماذا الدفتر أحمر بالضرورة في «ثلاثية نيويورك»؟ ربما لأنه لون دم القصص البوليسية، لون مناخات الغموض والوقائع المبهمة اللاتحتمل...
ولماذا الدّفتر أزرق في رواية «ليلة التنبؤ»؟ بل لماذا هو برتغاليٌّ بالضرورة؟ ربما لأن مغامرة الكتابة كولمبوسية تماماً (نسبة إلى المستكشف كريستوف كولومبوس)، والأزرق عملياً لن يكون سوى لون المحيط الغامض، محيط الكتابة المجهولة المغري بمجازفة الإبحار ومخاطرة الاكتشاف.